تأسيس الأمير عبد القادر الجزائري للجيش النظامي
بقلم: د. علي الصلابي-
بعد معارك طاحنة خاضها الأمير ضد الجيوش النظامية الفرنسية، أدرك ضرورة خلق جيش نظامي قوي، يدعم به أهدافه الداخلية والخارجية، فاتجه إلى إنشاء جيش نظامي قوي يدعم به أهدافه الداخلية والخارجية، فاتجه إلى إنشاء جيش حديث، واهتم بتدريبه على أحدث الفنون العسكرية، وزوده بالأسلحة المتقدمة، وقبل أن يباشر بتحقيق هذه الفكرة عقد مجلساً عاماً من رجال الدولة وأعيانها، وأخذ موافقتهم على هذا الإجراء، ثم عمم بلاغاً على الأهالي جاء فيه: ليُبلغ الشاهد الغائب، أنه صدر أمر مولانا ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين بتجنيد الأجناد وتنظيم العساكر في البلاد كافة، فمن أراد أن يدخل تحت اللواء المحمدي، ويشمله هذا النظام ؛ فليسارع إلى دار الإمارة في مدينة معسكر ؛ لتسجيل اسمه في الدفاتر الأميرية.
تلقى الشعب الجزائري هذا البلاغ بارتياح كبير، وسارع الشباب وتسابقوا للالتحاق بالجيش النظامي الفتي، حتى بلغ عداد أفراده عام (1839م) ثلاثة وستين ألف مقاتل، وقد قسم هذا الجيش إلى ثلاث فرق:
أولاً: فرقة المشاة، ولَّى على قيادتها من مشاهير الأبطال قدور بن بحر.
ثانياً: فرقة من الخيّالة، ولَّى على قيادتها عبد القادر بن عز الدين.
ثالثاً: فرقة من المدفعية، ولَّى على قيادتها محمد السنوسي.
ولقد اختار الأمير جميع رؤساء الجند من ذوي الشجاعة والبأس والذكاء من الذين يتحلون بالإيمان والصبر، وانتقاهم من أشراف البيوتات وزعماء القبائل، مثل محمد القوشامة وسالم الزنجي وأحمد القدور وغيرهم.
ثم وضع قوانين في كتاب سماه «وشاح الكتائب» ضم أربعة وعشرين قانوناً، لها أصول ولها فروع. وقد وضعت جميعاً لمصلحة هذا الجيش المحمدي، ولسلامة تكوينه العسكري، ولضمان قدرته على القتال وتحمل المكاره، وللتدريب على الجهاد والصبر. وتمكن الأمير عبد القادر من الصمود بهذا الجيش الناشأئ في وجه أكبر إمبراطوريات العالم الاستعماري القديم، وعلى الرغم من إمكانات فرنسا الضخمة تمكن الأمير من محاربتها سبعة عشر عاماً، استولى خلالها على أكثر من ثلثي مساحة الجزائر حالياً، وانتصر عليها في الكثير من المعارك الطاحنة التي بقي ذكرها يتردد حتى الان على ألسنة الفرنسيين قبل الجزائريين، لما وجدوه من معاملة شريفة لبطل مسلم عظيم، حتى غزت أخباره بيوتهم في فرنسا نفسها، لأن الأمير عبد القادر جسّد جميل المروءات ومحاسن الفضائل في معاملة الأسرى والجرحى من جيش أعدائه.
وشكل الأمير عبد القادر بجانب الجيش الرسمي قوى غير نظامية تعمل على حماية مناطقها، غير أنها كانت تستطيع عند الضرورة أن تنخرط في الجيش النظامي، وذلك فقط لتلبية نداء الأمير أو خلفائه في الولايات، وهذه القوى غير النظامية كانت تتكون غالباً من المتطوعين، وكان عليها أن تتجهز على حسابها الخاص، وكان عددها بالألوف تزيد وتنقص.
وفيما يخص تسليح جيشه النظامي يعطي الأمير نفسه التوضيحات التالية:
كل جنودي النظاميين كانوا مسلحين ببنادق فرنسية أو إنجليزية، تحصلت عليها خلال معاركنا ومن الفارين من الجيش أو بشرائها من المغرب.. وكان الكبريت يأتي من فرنسا، أما ملح البارود فكنت أجده في كل مكان خلال زمن السلم، وكانت المدن الساحلية الفرنسية تزودني بالرصاص، وقد أعطاني المغرب كمية معتبرة منه، كما أنني تمكنت من استغلال منجم للرصاص في الونشريس.
وقد كان الأمير يسهر شخصياً على كيفية استعمال الذخائر، ويعطي أوامر صارمة لخلفائه كي يشحوا في عملية صرفها.
1 ـ هيكلة الجيش النظامي:
كانت المشاة مقسمة إلى كتائب تضم كل منها (1000) رجل يقودهم اغا، وكانت هذه مقسمة إلى سرايا من (100) جندي يقودها قائد، وكان يقود كل من نصفيها سياف، وكل عشرين رجل كان يقودهم ضابط صف، وكل عشرة يقودهم عريف يسمى جاويش.
كان على قادة كل هذه التشكيلات أن يتفقدها الاغا يوم السبت، والسيَّاف يوم الخميس والسبت، أما الجاويش فكان عليه أن يتفقد رجاله كل يوم صباحاً ومساء.
وقد كان الانضباط جد صارم، وكان يراعي تطبيقه بمنتهى الدقة، وكانت مواده مجموعة في شكل قانون عام أقامه وكتبه الأمير نفسه.
كما كان سلم الرتب محترماً بمعنى الكلمة، وكانت كل مخالفة يعاقب عنها عقاباً شديداً، وكان على الجندي أن يحافظ على نظافة سترته التي كان مسؤولاً عنها، وكذا كانت الحال بالنسبة للسلاح الذي في حوزته، كانت العقوبات على الإخلال بهذه القوانين تتراوح ما بين السجن إلى الحكم بالإعدام ـ وهذا الأخير كان يقام في حالة الخيانة، أو الفرار في زمن الحرب ـ ومروراً بنزع الرتب والعقوبات الجسدية.
كان للجندي الحق في راتب، وكان الخيالة يتلقون ضعفه، وكان يتلقى غذاءه عيناً، ووفيراً في زمن السلم، ولكنه كان يخفض في زمن الحرب إلى بعض الكعك أو الروينة، المصنوعة من طحين القمح المقلي، وكان على كل شارة علامة مكتوبة.
ـ الآغا كان يحمل: الصبر مفتاح النصر.
ـ وبالنسبة للسياف: لا أضر من المخالفة وعدم الطاعة.
ـ أما لرئيس المدفعية فكانت: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
وكان اللباس العسكري يختلف بحسب الرتب، فكان من الجوخ بالنسبة للضباط، ومن الكتان بالنسبة للجنود، أما الأسلحة فكانت تشتمل على المدفع والهاون «مهراز» والبندقية «مكحلة» والسيف والحربة.
وكانت الألبسة والأسلحة والذخائر كلها تصنع في ورشات الدولة بتاكدمت، معسكر، تازة، بوغار، مليانة..إلخ أو كانت تستورد من أوروبا عن طريق المغرب.
وكان موظفون سامون يدبرون هذه الورشات، وكان المعلمون خاصة من الأجانب يدّرسون المهنة العسكرية للشباب المجندين، وكانت هناك مكافات مخصصة للذين يلمعون، كما كانت تدفع معاشات للمصابين، ولعائلات الذين قتلوا في المعارك، كما كان هناك وسام لمكافات الأعمال البطولية، ويتشكل من صفيحة معدنية ينقش عليها (3 أو 5 أو 7) ريشات حسب أهميتها، ولهذا كانت تسمى «ريشة»، كانت الشمسية الرمز المميز للسيادة، وهي التمييز الوحيد الذي حظي به الأمير نفسه، وكان يحملها فارس عندما يكون الأمير راكباً، أو أحد من المشاة عندما يكون مترجلاً. وكان في الحالتين محاطاً بالحامية السوداء. وكان العلم يحتوي على لونين: الأخضر والأبيض وكان هذا اللون الأخير بشكل دائرة طرزت في وسطها يد مفتوحة، وقد استوحي منه العلم الجزائري الحالي، والفرق الوحيد يأتي في استبدال اليد بهلال أحمر ما بين اللونين الأبيض والأخضر اللذين بقيا.
ولكي تثبت روح التضحية والانضباط في هذا الجيش، فقد كان قانونه العام يُقرأ لكل الوحدات مرتين وأحياناً ثلاث مرات في الشهر، كما كانت الشعارات التي يتضمنها تخاط على أكمام الجنود والضباط على حد سواء، نذكر من بينها: (لا أنفع من التقوى والشجاعة) على الكتف اليمنى للاغا، وعلى اليسرى: (لا أضر من المخالفة وعدم الانضباط).
وكان الأمير عبد القادر نموذجاً ومثالاً للخصائل الأخلاقية الرفيعة والقتالية المحترفة، فقد أثار في نفوس جنوده وضباطه ومواطنيه صوراً رائعة للتفاني والإخلاص في خدمة القيم والمبادئ، والحرص على تحرير الوطن من المحتلين الغزاة، ويقرُّ كل كتَّاب سيرته بما فيهم الفرنسيون أنه كان نزيهاً، وأنه كان يملك أقصى درجات الشعور بمكانة وقيمة الأموال العامة، وأنه لم يعرف سوى خدمة القضية التي كان يعلم أنها عادلة، ضارباً بذلك أسمى مثال للتفاني والشجاعة الخارقة، وكل ميزاته كانت مدونة في القانون العام، لكي يتخذ منه مثالاً يحتذى، وعلى هذا المنوال فقد كان يذكر خصوصاً أنه لم يسحب أبداً من الأموال للإنفاق على شؤونه الخاصة، وأنه كان دائماً يرجع إلى الخزينة العامة كل الهدايا التي كانت تقدم له ؛ لأنه كان خادماً وفياً للدولة وليس لمصالحه الخاصة.
2 ـ استراتيجية الأمير والدفاع عن الأقاليم:
اهتم الأمير عبد القادر بإنشاء خط دفاعي كبير بين التل والصحراء، وقد أقامه في وسط العديد من الصعوبات ؛ لأنه كان مقيداً بالمدة الزمنية، ولم تكن هذه المناطق المحصنة مخصصة للصمود أكبر وقت ممكن أمام الهجومات الفرنسية، بل كانت بالخصوص لأجل تمتين سلطته بالقبائل المنضمة إليه.
لقد شيد من الغرب إلى الشرق: سبدو لحماية تلمسان، تاكدمت للدفاع عن معسكر، تازة للتحكم في منطقة الجزائر العاصمة، وبوغار على الحد بين التنقل والصحراء، وبسكرة في جنوب قسنطينة، غير أنه قد ركز أكبر قدر من جهوده على تاكدمت ؛ لأنها كانت قريبة من تيهرت العاصمة القديمة للرستميين، وكان يعلق على تاكدمت امالاً عريضة، كشف عنها في حديث أجراه مع سجين فرنسي: مازال عندي الأمل في أن أعيد تاكدمت إلى مجدها القديم، هنا سأجمع القبائل، فنحن في مأمن من هجومات الفرنسيين، ومن هذه الصخرة المرتفعة سأنقض كما ينقض الصقر من على عشه فوق المسيحيين فأطردهم من الجزائر ومن عنابة ووهران.
وكان الأمير قد عمل على أن يجعل من تاكدمت مركزاً للثقافة وأن يبني لها جامعة، غير أنه لم يسعفه الوقت لذلك، كانت تاكدمت تبعد عن حاميات العدو الذي لا يستطيع بلوغها إلا بعد قطع التل والهضاب العليا، وهذا الموقع كان يعطي الأمير ميزة لمعرفة تحركات العدو في وقتها وتدارك خطر أي هجوم.
زيادة على ذلك فإن موقعها بين التل والصحراء جعل من السهل على البدو أن يقصدوها لشراء بضائع التل مقابل ماشيتهم، وهو ما كان يسمح للأمير بمراقبتهم عن قرب ؛ لأنهم يكونون مورداً مهماً للزكاة، وقوة لا يستهان بها في الحرب. وبفضل عزلتها فقد كانت أحسن من أية مدينة أخرى لتشكيل المركز الضروري للصناعة الحربية، وهنا كذلك أنشأ بيت العملة الوطنية.
3 ـ الاستراتيجية العسكرية:
أما عن الاستراتيجية العسكرية للأمير فهي تتلخص في كلمة واحدة وهي الحركية، فقد تميز في قدرته على استعمالها عملياً ؛ حتى خصومه وفي مقدمتهم «بيجو» يشهد بعبقريته العسكرية، فقد كانت خططه العسكرية تتغير حسب الظروف، فكانت غالباً على شكل اشتباكات بكميات صغيرة، وفي بعض المرات كانت على صورة حرب مواقع، غير أن طبيعة النضال الذي كان يقوده الأمير فرضت عليه حرب العصابات ؛ التي كان يجيدها إجادة خارقة للعادة، فكانت تفاجأئ وتربك الخصم، وهي التي جعلت الأمير أشهر وألمع رواد هذا النوع من الحرب.
وإذا كانت حرب العصابات تأتي دائماً بثمارها المتمثلة في تكبيد العدو خسائر ثقيلة، فإن رد فعل هذا الأخير ضد القبيلة المشتبهة في تبليغها المعلومات يكون وحشياً ولا يعرف الرحمة. ولهذا فإن الأمير لم يكن يستعملها إلا بأقصى قدر من الحيطة، وأكبر الحظوظ في النجاح، وكانت معرفة الأمير الجيدة للميدان تمنحه هو وجيشه تفوقاً ملحوظاً على القوات الفرنسية، فكانت تسمح له بفضل حركيته ومصالح استخباراته باستدراج العدو إلى الأماكن الأكثر ملاءمة، وقد كان الجيش الفرنسي على العكس من ذلك يبحث عن حرب المواقع، ويرغم الأمير على الاشتباك في المعارك، فكان في هذه الحالة يصاب بخسائر إلا أنه كان أيضاً يكبد العدو مثلها، وكان دائماً يتمكن من التحرز في ظروف حسنة.
وبالمقابل فإنه كان يحدث للأمير أحياناً عندما يرى الظروف مواتية أن يتسبب في نشوب معارك كانت تنتهي بخسائر كبيرة في صفوف العدو.
وقد تحدث بعض الباحثين عن الفن العسكري لدى الأمير عبد القادر، منهم ضابط قديم في الجيش اللبناني، وهو السيد أديب حرب وعنوانه «الحياة العسكرية للأمير عبد القادر» وهو موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف، ويوضح المؤلف في كتابه العبقرية العسكرية للأمير على ضوء التقنيات العصرية التي كان الأمير قد طبق بعضها، بل وأثراها حسب المؤلف الذي يرجع إلى المعارك الكبرى التي قادها الأمير خلال كفاحه من أجل استقلال بلاده.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي