الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -6 –
بقلم: الشيخ عبد الحميد بن باديس-
مبلغ صلاة الله على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- وجهان في معنى التشبيه، نكتة التشبيه، سؤال على الوجه الثاني وجوابه، نكتة أخرى في التشبيه، معنى في العالمين، معنى حميد مجيد، نكتة الختم بهذه الجملة.
وقوله: "كما صليت على آل إبراهيم" و"كما باركت على آل إبراهيم" في حديث أبي حميد وابن مسعود. و"كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" و"كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" في حديث كعب بن عجرة- يفيد أن المصلي يسأل من الله تعالى صلاة وبركة لمحمد وآله في المستقبل مثل ما كان منه تعالى من صلاة وبركة على إبراهيم وآله في الماضي، هذا يسأله المصلي في كل مرة من صلاته ويستجاب سؤاله كلما سأل، فكم تكون صلوات الله تعالى وبركاته على محمد وآله في المستقبل، وهي أثر كل صلاة مصل تكون مثل ما حصل في الماضي منه تعالى لإبراهيم وآله، أن مقاديرها - على هذا- تبلغ إلى ما تعجز عن حصره العقول، وهي لا تزال متزايدة بقدر صلاة المصلين تزايداً فوق متصور البشر.
والكاف في قوله "كما" تفيد التشبيه والإلحاق وهذا يحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن يكون ذلك في أصل الصلاة بقطع النظر عن مقدارها فلكل ما يناسب مقامه في الفضل والأفضلية من المقدار.
كما تقول لمن تقدمت منه عطية لبعض أقاربه: أعط هذا القريب الأقرب كما أعطيت ذاك القريب، تقصد أصل العطاء دون مقداره ضرورة أن ما يستحقه القريب الأقرب أكثر مما يستحقه القريب، وجاء على هذا الأسلوب قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. فالمقصود أن يكون منه إحسان كما كان من الله تعالى إليه، ولا يمكن أن يكون ما يصدر منه من إحسان مماثلاً لما لله عليه منه.
وتكون نكتة التشبيه إلحاق المتأخر وهو الصلاة والبركة المسؤولتان لمحمد وآله بالسابق المشتهر وهو الصلاة والبركة المعطاتان لإبراهيم وآله، فالمقصود أن تكون هاته ظاهرة مشتهرة في الخلق كما كانت تلك فيهم.
الوجه الثاني: أن يكون التشبيه في مقدار الصلاة والبركة ويكون المطلوب هو المقدار المماثل كما تقول لمن أعطى زيدا عشرة دراهم: أعط عمرا كما أعطيت زيدا. ونكتة التشبيه في هذا الوجه هي نكتته في الأول.
وعلى هذا الوجه يقال كيف يطلب له- صلى الله عليه وآله وسلم- صلاة وبركة مثلما حصل لغيره وهو أفضل من غيره وبمقتضى كونه أفضل لا يطلب له إلا ما هو أفضل، ويجاب بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كان شديد التعظيم لأبيه إبراهيم- عليه السلام- والتواضع في جانبه، فكان هذا الطلب على مقتضى ذلك التعظيم وذلك التواضع، وفي ذلك تعليم وتأديب لأمته.
ثم في هذا التشبيه إشادة بذكر إبراهيم- عليه السلام- وإبقاء له على ألسنة هذه الأمة، وفي هذا اعتراف بفضل هذا النبي القانت الحنيف الذي هو على ملته، واحتجاج على أهل الكتاب الذين يعظمونه مثلنا وقد حادوا عن ملته الحنيفية بذهابهم في أودية الشرك واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وجزاء له - عليه السلام- في دعوته لنبينا فيما حكاه القرآن بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وقوله "في العالين" أي في أجناس الخلق- يفيد أن صلاته تعالى وبركاته على إبراهيم وآله كانت ظاهرة مشتهرة- علماً وأثراً- في أجناس المخلوقات، وقد سئل في صيغة الصلاة أن تكون صلاته وبركاته على محمد وآله مثل ذلك.
ولفط "في العالين" مذكور في القسم الثاني قسم البركة دون القسم الأول قسم الصلاة وأرى ذلك من الإيجاز بالحذف من الأوائل لدلالة الأواخر.
وقوله "حميد" من الحمد إما بمعنى حامد، حول ليفيد التكثير وهو جل جلاله يحمد فعل الخير من عباده ويثيبهم على القليل بالكثير.
ومناسبة اسم "حميد" لختم هذه الصلاة أن هؤلاء من عبادك المتقين الذين تتفضل عليهم بحمدك، فمن حمدك لهم أن تصلي وتبارك عليهم.
وإما بمعنى محمود ومناسبته حينئذ أنك ذو الكمال والإنعام اللَّذين تحمد عليهما فمن إنعامك وإحسانك صلاتك وبركتك.
وقوله "مجيد" من المجد والشرف بمعنى ماجد يفيد عظمة مجده وشرفه في ذاته وصفاته وأفعاله.
ومناسبته للإسم السابق أن حمده لخلقه- وطاعتهم بفضله وتيسيره- من مجده وشرفه، أو أن كماله وإنعامه اللذين يحمد عليهما هما فوق كل كمال وفوق كل إنعام على ما يليق بمجده وشرفه.
ومناسبة ختم الصلاة بهذا الإسم أن من مجده وشرفه- جل جلاله- هذه الإنعامات العظيمة والخيرات الجسيمة المتوالية على مخلوقاته ومنها هذه الصلاة والبركة المسؤولتان لأكرم خلقه وجميع آله.
وبهذا التقرير يظهر أن جملة "إنك حميد مجيد" هي تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما هو عام ومشتمل على معناه- فإن الصلاة والبركة من مقتضى الحمد والجد- نظير قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1).
(1) الشهاب: ج 10، م 5، ص 1 - 5 غرة جمادى الثانية 1348هـ- نوفمبر 1929م.