الشيخ الطَّيِّب العُقبيّ
اسمه ونسبه ونسبته:
هو: الطيِّب بن محمَّد بن إبراهيم بن الحاج صالح العُقْبيُّ(1).
وإلى جدِّه صالح ينسب كلُّ فردٍ من أسرته، فيقال: “ابن الحاج صالح”.
والعقبيُّ: نسبة إلى بلدة “سيدي عُقبة” التي تقع بولاية بسكرة، والتي قدِم إليها أحدُ أجداده واستقرَّ بها.
ويعود نسبه في الأصل إلى قبيلة أولاد عبد الرحمن الأوراسية، بجبل “أحمر خدو”، بالجهة التي تسمَّى منه باسم: “كباش”.
ويتّصل هذا النسب بالرجل الصالح الشهير عند أهل تلك الجهة -ويقال: إنه شريف النسب- وهو: سيدي مَحمد بن عِبد الله -وينطقونها بفتح ميم محمد، وكسر عين عبد الله-. فهو عبدريٌّ عبدليٌّ عُقبيٌّ.
ووالدته من بلدة “ليانة” بالزاب الشرقي بولاية بسكرة، من عائلة آل خليفة الشهيرة بلقب: “ابن خليفة”.
مولده:
ولد ببلدة “سيدي عقبة” ليلة النصف من شوال سنة 1307هـ، الموافق: 03/ 06/ 1890م، أو بعد هذا التاريخ بنحو العام.
وهو الابن الأكبر في الأسرة، وتزامن مولده مع العقد الذي وُلد فيه الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي.
نشأته وهجرته وتكوينه العلمي:
قضى الشيخ الطيب العقبي سنواته الأولى من عمره في بلدة “سيدي عقبة”، فنشأ في جو محافظ بعيد عن حضارة المستعمر وتقاليده، وترعرع في أسرة هي من أوساط سكان البلدة، فلا هي أعلاها، ولا هي أدناها.
ثم بسببِ ظلم المستعمر الغاشم وتعسُّفه ومحاولته فرض التجنيد الإجباري على الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي انتقَلَت أسرته مهاجرةً من بلدة “سيدي عقبة” إلى الحجاز بقضِّها وقضيضها، أنثاها وذكرها، صغيرها وكبيرها، وذلك سنة 1313هـ، قاصدةً مكة المكرمة لحجِّ الكعبة المشرَّفة في تلك السنة، وكان الشيخ في أفرادها الصغار لم يبلغ التمييز الصَّحيح، ولولا رجوعه إلى بلاده بعد ذلك ما كان ليعرف شيئًا فيها.
ثم استقرّت الأسرة الكريمة في أول سنة 1314هـ -بعد الحج- بالمدينة المنوّرة، حتى إنه دُفن بها في بقيع الغرقد جلُّ من هاجر إليها من أفراد الأسرة، كأبوَيِ الشيخ وعمِّه وعمِّ والده وأخته وغيرهم.
توفِّي والده -وهو يناهز البلوغ- ليلةَ الخامس من شهر شعبان سنة 1320هـ، ودُفن في القبر الذي دفن فيه أخوه الشقيق الوحيد قبل نحو السنة والنصف في البقيع عند قبر الإمام مالك.
وبعد وفاة والده بقي مع أخيه وأخته الشقيقين وأخته للأب تحت كفالة والدته، وتربى في حجر أمّه يتيمًا غريبًا، لا يحوطه ولا يكفله غير امرأةٍ ليست بعالِمَة ولا صاحبة إدراك ورأيٍ سديد، بل هي كنساء أهل بلدة “سيدي عقبة”، ولولا فضل الله عليه وعنايته به صغيرًا يتيمًا لما كان هُديَ سواءَ السبيل.
فقرأ القرآن على أساتذة مصريِّين برواية حفصٍ، ثم شرعَ على عهد والدته في طلب العلم بالحرم النبويِّ الشريف، لا يشغله عنه شاغلٌ، ولا يصدُّه عنه شيء، حيث كان أخوه الأصغر هو الذي تكلِّفُه والدته بقضاء ما يلزَم من الضروريات المنزليَّة، وفي ذلك يقول الشيخ الطيِّب: «وقد أدركتُ سرَّ الانقطاع لطلب العلم، وفهمتُ جيِّدًا قول الإمام الشافعيِّ: لو كلِّفتُ بَصَلة ما تعلَّمتُ مسألة». فدرس العلوم الشرعية في الحرم المدني على يد مشايخ ذلك الزمان، ومنهم: الشيخ محمد بن عبد الله زيدان الشنقيطي الذي أخذ عنه الأدب والسيرة، والشيخ حمدان الونيسي الذي كان من أبرز العلماء السلفيين في الجزائر وكان مربِّيَ ابن باديس ثم هاجر للمدينة المنورة سنة 1911م. وكانت المدينة قبل الحرب العالمية الأولى تغصُّ بحلق العلم.
النبوغ والمحنة والفرَج:
سرعان ما تحوَّل الشيخ من طالب علمٍ إلى معلِّم في الحرم النبوي، وكاتبٍ صحفيٍّ متميّز، حتى عُدَّ أحدَ دُعاة النهضة العربية في الحجاز، وقد أكسَبته كتاباتهُ شهرةً اخترقتِ الآفاق، وصداقةً مع كبار المصلحين في ذلك الزمان، وعلى رأسهم: شكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب.
وقد عُرف الشيخ -رحمه الله- بالجرأة على قول الحقِّ، لا يخاف في ذلك لومة لائم.
وبعد أن أصبح هو القائم بشؤونه والمتولي أمر أسرته ونفسه -وأخذ إذ ذاك من العلم بقسطٍ- شعر بواجباته الدينية والدنيوية، وما كاد أن يدرك معنى الحياة ويتناول الكتابة في الصحف السيَّارة وينظم الشعر ويتمكن من فهم فنِّ الأدب -الذي هو سمير طبعه وضمير جمعه- حتى فاجأته حوادث الدهر ونوائب الحدثان، وجلُّها كان على إثر الحرب العالمية التي شتَّتت الشمل وفرقت الجمع.
فقد تناول الكتابة في الصحف الشرقية قبل الحرب العالميَّة أمدًا غيرَ طويل، فعدَّه بعض رجال “تركيا الفتاة” من جملة السياسيِّين، وفي سنة 1916م أخرجوه في جملة أنصار النهضة العربية مُبعدًا من المدينة المنورة -على إثر قيام الشريف حسين بن عليّ في وجوههم بعد الحرب- إلى المنفى في أرضهم “الروم إيلي” أولا، فالأناضول ثانيًا، وهناك بقي أكثر من سنتين مُبعدًا في جملة الرِّفاق عن أرض الحجاز وكلِّ بلاد العرب. ثم انتهت الحرب الكبرى بعد الهدنة يوم 11 نوفمبر 1918م، وهو إذ ذاك مع عائلته التي التحقت به بعد خراب المدينة في بلدة “أزمير”، ومنها كان رجوعهم مع أهالي المدينة المنورة إلى الحجاز. وما وصل الشيخ إلى مكَّة المكرمة حتى لقيه من لدن جلالة الملك حسين كلُّ إكرامٍ وإجلالٍ، وهناك عُيِّن مديرًا لجريدة “القبلة” و”المطبعة الأميرية” خلفًا للشيخ محبِّ الدين الخطيب،وكان له صلة مالية من الملك الحسين .
رجوعه إلى الجزائر ودعوته وجهاده:
لَما وقع من الاعتداء على أملاك الشيخ التي لا تزال على ذمَّته ببلدة “سيدي عقبة”، ولِما كان يتوقَّعه من عدم استتباب الأمن واستقرار الأمر في الحجاز للشريف حسين، غادر الشيخ المدينة المنورة إلى بلده الجزائر؛ بنيَّة قضاء مآربه وعمل ما يجب عمله في قضية أملاكه مع المعتدِي عليها، ثمَّ الرجوع إلى الحجاز إذا رجعَت المياه إلى مجاريها. وكان رجوعه إلى الجزائر في 4 مارس سنة 1920م.
مكث الشيخ ستَّ سنوات في بلدة بسكرة من يوم قدومه إليها لم يشتغل بعمَل عموميٍّ ذي بال، كما أنَّه لم يتعاط الكتابةَ والنشرَ في الصحف؛ لأنه اعتبر نفسه منذ رجوعه من الحجاز -وبعدما وقع من الحوادث المقلقة السالبة لكل أسباب الراحة، بل المفقدة للحياة، وبعدما مرَّ على رأسه من الليالي المزعجات- قد خرج من الحياة السياسية بالكلية، وبَعُد عن العلم وأسبابه بُعدَ ما بين المشرق والمغرب.
ثمَّ عاد إلى الكتابة بواسطة الصحُفِ الجديدة، فكتب بعضَ الآراء والأفكار في مسائل تخصُّ العلم والدين، فلم يرُق ذلك لبعض الجامِدين، وثارت ثائرةُ من يحسِنون الاصطياد في الماء العكر، وقام دعاتهم في وجه الشيخ يصدُّون الناس عنه، فواجههم الشيخ وردَّ عليهم، وفي ذلك يقول: «وإني لمواجه لكلِّ صدماتهم ومجابهتهم وجهًا لوجه كيفما كانوا ما دمتُ أعتقدُ أني على الحق بالرغم عن تجرُّدي من كل عدَّة يعدّها الخصمان. وما أنا في محاربتهم والحالة هذه إلا كساع إلى الهيجا بغير سلاح، وما أجادلهم إلا بالتي هي أحسن ما داموا عن الحقِّ غير مُعرضين».
وهكذا قرَّر الشيخ الاستقرار في أرض الوطن وعدم الرجوع إلى الحجاز، وانطلق في خطته الإصلاحية التي كان جاء من أجلها، حيث يحكي بعضهم أنَّ شكيب أرسلان هو من أشار عليه بالذهاب إلى الجزائر من أجل بعث الأمة الجزائرية وبثِّ الدعوة الإصلاحية بها، ويحتمل أنه استقرَّ بعدما عاين الوضعَ الذي آلت إليه الجزائر، حيث وجدها غارقةً في أوحال الشرك والبدع، ضائعةً في متاهات الخرافات والضلالات، ووجد الجزائريِّين مستعمَرين من طرف عدوٍّ صليبيٍّ غاشم، ومستَعبَدين من طرف أرباب الطرقية الذين استغلّوا جهل الأمة وأمَّيَّتَها.
وما استقرَّ الشيخ وانتظمت أموره حتى سلك مضمارَ الدعوة والتعليم، وانطلق كالسهم، وقد تنوَّع نشاطه التعليميّ، وكان شاملا لجميع الطبقات، فكان منها مجالس التكوين للطلبة، وكان يدرِّسهم “الجوهر المكنون” في البلاغة، و”قطر الندى” في النحو، وكان منها مجالس الوعظ والتذكير للعامة التي كان يلقيها في مساجد المنطقة، وكان موضوع تدريسه التفسير، وقد اختار له الشيخ “تفسير المنار” للشيخ محمد رشيد رضا، كما درَّس أيضا السيرةَ النبوية والعقيدةَ الإسلامية، وكان منها المجالس الأدبية في “جنينة البايليك” أين كان يجري الحوار الأدبيّ يوميًّا في شتى أنواعه وألوانه، ويحضره أدباء ومثقفون أمثال الأمين العمودي ومحمد العيد آل خليفة وغيرهم.
كما أنه أيضا كان يغتنم المناسبات التي يجتمع فيها الناس كالولائم لدعوة الناس إلى التوحيد وإلى الرجوع إلى القرآن والسنة، ولم يغفل عن الرحلة إلى المناطق المجاورة، حتى ذاع صيته، وانتشرت دعوته في منطقة الزيبان كلِّها، فأعلن بذلك حربًا ضروسًا على الطرقيين والخرافيين والجامدين الذين كانوا يتغذَّون من جهل الأمة.
وما إن انتشر نشاطه وذاع صيته حتى سارعت السلطة الفرنسية إلى اعتقاله لتخوُّفها منه، فلبث في السجن قرابة شهرين، ثم أفرِج عنه وخلِّي سبيله بعد وساطة أخواله وبعض الوجهاء.
ومن أنشطة الشيخ الدعوية الكتابة، فقد كان -رحمه الله- حريصًا على الكتابة في الصحف، وكان يرى في العمل الصحفيِّ الدور الأكبر في نهضة الأمة، وفي ذلك يقول: «إن الجرائد في الأعصر الأخيرة هي مبدأ نهضة الشعوب، والعامل القوي في رقيها، والحبل المتين في اتصال أفرادها، والسبب الأول في تقدُّمها، والصحافة هي المدرسة السيارة والواعظ البليغ، وهي الخطيب المصقع والنذير العريان لذوي الكسل والبطالة، وهي سلاح الضعيف ضدّ القوي، ونصرة من لا ناصر له، وهي تأخذ الحق وتعطيه، وترمي الغرض فلا تخطيه، وهي المحامي القدير عن كل قضية حق وعدل».
لذلك ما إن جاء إلى الجزائر بدأ الكتابة في بعض الصحف التونسية نظرًا للفراغ الذي وجده في الميدان الصحفيّ، ثم أسس بالاشتراك مع جماعته ببسكرة “جريدة صدى الصحراء” في سنة 1925م، ثم أسَّس جريدة “الإصلاح” عام 1927م، واستمرَّ صدورها في مدد متفرَّقة إلى سنة 1948م.
ولما أنشأ ابن باديس جريدة “المنتقد” دعاه للمشاركة، فلبَّى نداءه ولم يتأخر، ولمَّا تأسَّست “الشهاب” بعدها كان العقبي من السبَّاقين إلى تلبية دعوتها، فنشر مقالاته الحارَّة وقصائده المثيرة التي تدور غالبا في فلك الإصلاح العقائدي، تلك المقالات التي كانت توُصف بالمقالات النارية؛ لأنها كانت تهدِم صروح ضلالات الطرقيَّة صرحًا صرحًا، وتكشف عن انحرافها عن الصراط المستقيم ومخالفتها جوهر الدين.
وفي الوقت الذي تأسس فيه نادي الترقي في الجزائر العاصمة في جويلية سنة 1927م كانت شهرة العقبي قد اخترقتِ الآفاق، فاتصل به أهل النادي ليكون مشرفًا على النشاط فيه خطيبًا ومدرسًا ومرشدًا، فقبِل عرضهم، وانتقل -رحمه الله – إلى العاصمة، والتحق بنادي الترقي عام 1929م، ولم يكن خافيًا عليه أهمية نشر الدعوة والإصلاح في العاصمة وأثر ذلك على القطر كله، وقدِّرت محاضراته بهذا النادي بخمس محاضرات في الأسبوع، إضافةً إلى الحلقات والندوات التي كان يعقدها من حين لآخر مع جماعة النادي، والرحلات التي كان ينظِّمها في بعض الأحيان إلى المدن المجاورة من عمالة الجزائر.
ولم يكن نشاطه التعليميُّ مقتصرًا على النادي فقط، بل كان يلقي دروسًا في التفسير في المسجد الجديد بعد صلاة الجمعة، وبعد عصر كل أحد. ومن نشاطاته في العاصمة: إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية، وترؤُّسُ الجمعية الخيرية الإسلامية، ودعَا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين.
كما أن للشيخ أيضًا دورًا بارزًا في جمعية العلماء المسلمين، فمع أن فكرة الجمعية ولدت في المدينة المنورة عندما التقى الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي هناك عام 1913م، إلا أن الشيخ العقبي كان ممن مهَّد لها ودعا إليها عبر صفحات الجرائد، بل ربما يكون أول من فعل ذلك في أكتوبر سنة 1925م في جريدة “المنتقد”، وقد كان الشيخ ممن حضر اجتماع قسنطينة عام 1928م الذي سماه محمد خير الدين: “اجتماع الرواد”. وحضر المجلس التأسيسي للجمعية في نادي الترقي، وانتخب ضمن أعضاء مجلسها الإداري، وعُيِّن نائب الكاتب العام، كما كان ممثِّل الجمعية في عمالة الجزائر. وكذلك تولى في ظل الجمعية رئاسة تحرير جرائدها “السنة”، ثم “الشريعة”، ثم “الصراط”، ثم جريدة “البصائر” من عددها الأول إلى العدد 83 الصادر في 30 سبتمبر 1937م.
المؤامرة الفرنسية الماكرة:
بعد مدَّة من نشاط الشيخ ظهرت نتائج دعوته، حيث كثرت المدارس العربية الحرَّة في مدن عمالة الجزائر، وصار تمسُّك الناس بالدين في العاصمة أمرًا ظاهرًا، فهجر الناس شرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلَت منهم، وصاروا يحافظون على الصلوات وملازمين لدروس الشيخ، وتخلَّى كثير منهم عن خرافات الطرقية وخزعبلاتهم، وتمكن العقبي بعلمه وأسلوبه وصدق لهجته من أن يجلب إليه كل طبقات المجتمع، بما فيها طبقات المثقفين الثقافة الفرنسية من محامين وأطباء وغيرهم.
وقد أثارت هذه النتائج قلق المستعمرين في الجزائر وخارجها، حيث أصبحوا يرونه مصدرَ خطرٍ كبيرٍ على كيان فرنسا، حتى وصفته إحدى الجرائد الفرنسية بـ: “النبي الجديد”، فسلكوا مع الشيخ سبلا شتَّى بغرض إسقاطه وضربِ دعوته، فكان أوّلها سبيل الإغراء؛ حيث عُرِض عليه منصبُ الإفتاء، فرَفَض وآثر أَن يكون عالمًا حرًّا يجهر بالحقِّ ويصدع به في كلِّ زمان ومكان.
ومن خططهم أن أصدروا المنشور القاضي بغلق المساجد في وجه غير الرسميين، وذلك في 16 فبراير سنة 1933م، يقول المؤرِّخ أبو القاسم سعد الله -رحمه الله-: «وفي 24 منه (فبراير) إلى شهر مارس جرت مظاهرات عنيفة بالعاصمة ضدَّ منع الشيخ العقبي من إلقاء درسه في الجامع الجديد، وتدخُّل الحكومة في الشؤون الدينية، وقد استعملت السلطات قوات الشرطة والرماة السنيغاليين وقنّاصة إفريقية ضدَّ المتظاهرين، واعتقلت كثيرا منهم، ولم تهدأ المظاهرات حتى وعدت السلطات بالسماح للعقبي باستئناف دروسه. وبعد استقالات جماعية للنواب والعاملين في المجالس المحلّية في يوليو 1933م قام السيد “كارد” الحاكم العام بمراجعة بعض القرارات، منها إلغاء قرار والي مدينة الجزائر ضدَّ الشيخ العقبي». فلم يكن ذلك القرار ليعيق الشيخ -رحمه الله- ولا ليحبطه، فإنه واصل مجاهدًا وداعيًا حيث وجد الرجال الذين يحوطونه بمساندتهم وتشجيعهم ويقفون معه في الشدائد.
ولما انضمَّ الشيخ إلى المؤتمر الإسلامي في سنة 1936مع ابن باديس والإبراهيمي ولعب فيه دورًا بارزًا بلغ الأمر بالنسبة إلى الإدارة الفرنسية منتَهاه، فحيكت مؤامرة مقتل المفتي الرسمي الشيخ كحول؛ لإحباط مسعى المؤتمر وإسقاط الشيخ العقبي، فدسُّوا له من قتَله، ونفَّذ جريمته يوم 2 أوت، وادَّعى أنَّ الشيخ العقبي هو من حرَّضه على قتله مع صاحبه عبَّاس التركي، فاعتُقِل العقبي ورفيقه، وزُجَّ بهما في السجن يوم 8 أوت، فاحتشدت الجماهير وتجمَّعت تلقائيًّا احتجاجًا على اعتقال الشيخ وصاحبِه، فكادت تحدُث فتنةٌ عمياء لولا أن توجَّه إليها العلماء بأن يواجهوا الصَّدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة، فامتثل الناس، قال الشيخ البشير الإبراهيمي: «وكان هذا أول فشلٍ للمكيدة ومدبِّريها». فقضي الشيخ في السجن ستَّة أيام بلياليها، ثم إن الجاني تراجع عن تصريحاتِه بعد أن قابل الشيخ، وأنكر أن تكون له علاقة به، فأُفرج عنه، ووُضع تحت المراقبة مع إمكانية التوقيف عند الضرورة. ثم لم تفصل المحكمة في القضية إلا بعد ثلاث سنوات، حيث تمَّت تبرئة العقبي وصاحبه نهائيًّا.
وقد كان لتلك المؤامرة الأثر الواضح على المؤتمر الذي انسحب بعض السياسيين منه، وأما الجمعية والشيخ العقبي فلم يؤثِّر فيهم ذلك بتاتًا، بل كانوا يرون في هذا الحدث سببًا في زيادة التفافِ الناس حول الجمعية وتعاطفهم معها، وزادت من شهرتها وصداها في الجزائر وخارجها، قال الإمام ابن باديس: «ولكنها كانت في حقيقتها نعمةً عظيمةً لا يقوم بها الشكر». وكذلك العقبي فإنه ظلَّ ثابتًا لم يتغيَّر ولم يضعُف، قال الشيخ البشير الإبراهيمي: «ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار، ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار، وكان يوم اعتقاله يومًا اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يومًا اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور».
ثناء العلماء عليه:
1- قال فيه الشيخ أبو يعلى الزواوي: «العلامة السلفي الصالح، داعية الإصلاح الديني».
2- وقال فيه الشيخ ابن باديس: «حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحّدين، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيّين المصلحين، ها نحن كلُّنا معك في موقفك صفًّا واحدًا، ندعو دعوتك، ونباهل مباهلتك، ونؤازرك لله وبالله».
وقال أيضًا مبيِّنًا تضحيتَه من أجل دينه ووطنه، وهو يصف حنين العقبي للحجاز أثناء سفرهم إلى باريس ضمن وفد المؤتمر الإسلامي في سنة 1936م وهم على متن السفينة التي تقلّهم قائلا: «فلما ترنَّحت السفينة على الأمواج، وهبّ النسيم العليل، هبَّ العقبيُّ الشاعر من رقدته، وأخذ يشنِّف أسماعنا بأشعاره، ويطربنا بنغمته الحجازية مرة، والنجدية أخرى، ويرتجل البيتين والثلاثة، وهاج بالرجل الشوقُ إلى الحجاز، فلو ملك قيادةَ الباخرة لما سار بها إلا إلى جدَّة، وإن رجلًا يحمِل ذلك الشوقَ كلَّه للحجاز ثمَّ يكبِتُه ويصبر على بلاء الجزائرِ وويلاتها ومظالِمِها لرجلٌ ضحّى في سبيل الجزائر أيَّ تضحية».
وقال أيضًا: «من ذا الذي لا يتمثَّل في ذهنه العلم الصَّحيح والعقل الطاهر، والصَّراحة في الحقّ والصَّرامة في الدِّين، والتّحقّق بالسّنّة والشّدّة على البدعة، والطِّيبة في العِشرة والصِّدق في الصُّحبة إذا ذُكِرَ الأستاذُ العُقبيُّ».
3- وقال الشيخ البشير الإبراهيمي في وصفه: «هو من أكبر الممثلين لهديها -أي: الجمعية-وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتًا في عالم الإصلاح الديني، وأعلاهم صوتًا في الدعوة إليه… وإنما خُلِق قوَّالًا للحقّ، أمَّارًا بالمعروف، نهَّاءً عن المنكر، وقَّافًا عند حدود دينه، وإنَّ شدَّتَه في الحق لا تعدو بيانَ الحق وعدمَ المداراة فيه، وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله».
4- وقال الشيخ المبارك الميلي: «ولكن أتى الوادي فطمَّ على القرى، إذ حمل العدد الثامن في نحره المشرق قصيدة: “إلى الدين الخالص” للأخ في الله داعية الإصلاح وخطيب المصلحين الشيخ الطيب العقبي أمد الله في أنفاسه، فكانت تلك القصيدة أول المعول مؤثرة في هيكل المقدسات الطرقية، ولا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجراءة ومبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقية إلا من عرف العصر الذي نشرت فيه وحالته في الجمود والتقديس لكل خرافة في الوجود».
5- وقال فيه مفدي زكريا: «الأستاذ الأكبر العلامة، أبو الجزائر الجديدة، الشيخ سيدي الطيب العقبي».
6- وقال أحمد توفيق المدني: «كان خطيبًا مصقعًا من خطباء الجماهير، عالي الصوت، سريع الكلام، حادَّ العبارة، يطلق القول على عواهنه كجواد جامح، دون ترتيب أو مقدمة أو تبويب أو خاتمة، وموضوعه المفضَّل هو الدين الصافي النقي، ومحاربة الطرقية، ونسف خرافاتها، والدعوة السافرة لمحاربتها ومحْقها».
7- وقال فيه الشيخ أبو بكر جابر الجزائري -مبالغًا-: «دروس الشيخ الطيِّب العقبي ما عرفَتِ الدنيا نظيرَها، ولا اكتحلَت عينٌ في الوجود بعالم كالعقبي».
8- وقال الشيخ محمد تقي الدين الهلالي: «الأستاذ السلفي الداعية النبيل الشيخ الطيب العقبي».
9- وعدَّه أمير البيان شكيب أرسلان أحدَ حمَلة العرش الأدبي في الجزائر، حيث قال: «فالميلي وابن باديس والعقبي والزاهري حملةُ عرش الأدب الجزائري الأربعة».
آثاره:
عُرف الشيخ العقبي بنشاطه في مجال الصحافة، فكان قلمه سيَّالًا بكثرة مقالاته في جريدة “الشهاب” و”البصائر” التابعتَين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وقد ترك -رحمه الله- آثارا كثيرة مكتوبة، لو تُتُبِّعت وجُمعت لجاءت في مجلدات.
ومن آثاره أيضًا تلاميذه الذين لا يعدُّون كثرةً، ومنهم من برز وكان من العلماء ودعاة الإصلاح؛ كالشيخ فرحات بن الدراجي (ت: 1951م)، والشيخ عمر بن البسكري (ت: 1968م)، والشاعر محمد العيد آل خليفة (ت: 1979م)، والشيخ أبو بكر جابر الجزائري (ت: 2018م).
وفاته:
بعد سنة 1953م مرض الشيخ وضعًف، وكان قد أصيب بمرض السكري الذي ألزمه الفراش عام 1958م، وأجبره على ترك نشاطاته. وفي مرضه هذا أوصى وصيَّة اشتدَّ في الإلحاح عليها، وهي أنه لا بد أن تشيَّع جنازته تشييعًا سنِّيًّا، دون ذكر جهري، ولا قراءة البردة، ولا قراءة القرآن حال التجهيز أو حين الدفن، وأن لا يؤذن بتأبينه قبل الدفن أو بعده.
وتوفي -رحمه الله- في 21ماي سنة 1961م، وشُيِّعت جنازته تشييعًا سنّيًّا، ودُفن في مقبرة “ميرامار” بالرايس حميدو، وكانت جنازة مهيبة، حضرها حسب الجرائد في ذلك الوقت قرابة خمسة آلاف شخص.
من كلماته الإصلاحية:
1- يقول الشيخ -رحمه الله-:
لا أنــادي صاحب القبــر: أغث * أنت قطــبٌ أنت غوثٌ وسِنَادْ
قائمًــا أو قاعــدًا أدعــو بـــه * إن ذا عنــدي شــركٌ وارتـدادْ
لا أناديـــه ولا أدعــو ســوى * خالـق الخلـق رؤوف بالعبـادْ
مـن لــه أسماؤه الحسنى وهل * أحــدٌ يدفــــع مــا الله أرادْ؟!
مخلصًــا ديني لـــه ممتثــلًا * أمــرَه لا أمــرَ من زاغ وحادْ
2- وكان -رحمه الله- من أشد رجال الجمعية حرصًا على اتباع السنن ونهيًا عن البدع، ومن الأصول التي كان يقرِّرها ويعيدها: «أن لا نعبد إلا الله وحده، وأن لا تكون عبادتُنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده». ومنها قاعدة كمال الدين التي هي منطلق محاجَّة كل مبتدع مبدِّل. وقال مبيِّنا أن الابتداع مضاهاة لله تعالى في شرعه: «وإذا كان التشريع لله وحده فليس لكائن من كان أن يشرع لنفسه أو لغير نفسه من الدين ما لم يأذن به الله، مهما كانت مقاصده في هذا التشريع، ومهما ادَّعى من ابتغاء قربة ووسيلة». ثم بين أنه لا ينفع هؤلاء المبتدعين أن تكون نية أحدهم حسنة؛ «لأن النية مهما كانت حسنة لا تغير من حقائق الأشياء».
3- وقال -رحمه الله- متحدِّثًا عن أرباب الطُّرق:
وشيخهم الأتقى الولي بزعمه * إذا ما رأى مالا أمال له عنقا
وذلك أقصى سؤله ومرامه * متى ناله أولاه من كيسه شقا
أولئك عباد الدراهم ويلهم * سيمحقهم ربي وأموالهم محقَا
4- وقال مبينًا منهجه في الإصلاح ومتحدِّثًا عن أهمية إصلاح العقيدة: «وأهمّ كل مهمٍّ وأولاه بالتقديم عندنا مسألة العقائد والكلام على تصحيحها، فلا إصلاح ولا صلاح إلا بتصحيحها، فقد أفسد الناسُ من أمرها ما أضرَّ بالعامة، وسرت العدوى منه حتى لبعض الخاصة، والأعمال كلها نتيجة العقائد؛ تصلح بصلاحها، وتفسد بفسادها، وحسبنا قول أشرف المخلوقات: «إنما الأعمال بالنيات»، وليس من الممكن جمع كلمة الأمة وتوحيد أفكارها ما دامت مختلفة في عقائدها، متباينة في مشاربها وأهوائها، ولو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألَّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم».
5- وقال -رحمه الله- مبيِّنا معتقده:
أيها السائل عن معتقدي ** يبتغي مني ما يحوي الفؤاد
إنني لست ببدعيٍّ ولا ** خارجيٍّ دأبُه طولُ العناد
يُحدث البدعةَ في أقوامه ** فتعمُّ الأرض نجدًا ووِهاد
لستُ ممَّن يرتضي في دينه ** ما يقول الناس زيدٌ أو زياد
ليس يرضى الله من ذي بدعة ** عملًا إلا إذا تاب وعاد
بل أنا متّبع نهج الألى ** صدعوا بالحق في طرق الرشاد
حجَّتي القرآنُ فيما قلته ** ليس لي إلا على ذاك استناد
وكذا ما سنه خير الورى ** عدتي وهو سلاحي والعتاد
وبذا أدعو إلى الله ولي ** أجر مشكور على ذاك الجهاد
منكم لا أسأل الأجر ولا ** أبتغي شكركم بله الوداد
مذهبي شرع النبي المصطفى ** واعتقادي سلفيٌّ ذو سَداد
خطَّتي علم وفكر ونظر ** في شؤون الكون بحث واجتهاد
وطريق الحق عندي واحد ** مشربي مشرب قرب لا ابتعاد
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المراجع
([1]) من مصادر هذه الترجمة: جريدة البصائر العدد (892) بتاريخ: 26/ 4/ 1439هـ، الموافق: 14/ 1/ 2018م، ترجمة ذاتية كتبها بنفسه ونشرت في الجزء الأول من كتاب: “شعراء الجزائر في العصر الحاضر” لمؤلفه الأديب الجزائري الكبير الأستاذ محمد الهادي السنوسي الزاهري، الطيب العقبي ودوره الإصلاحي -مذكرة مكملة لنيل شهادة ماستر بجامعة محمد خيضر ببسكرة، قسم العلوم الإنسانية، شعبة التاريخ-، إعداد الطالبة: حنان عدوان، إشراف الأستاذة: شهرزاد شلبي.
إعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات