ما لا تعرفون عن الدكتور مصطفى بن حموش
بقلم: د. الصالح بن سالم-
الأستاذ الدكتور مصطفى بن حموش (1958) شخصية أكاديمية مميزة وظّف الهندسة المعمارية – التي نال منها شهادات عليا من أكبر الجامعات الأوروبية – في مجال التاريخ فأصبح مع مرور الوقت مؤرخا للعمارة الإسلامية عموما وللعمارة العثمانية بالجزائر بشكل خاص من دون منازع. عمل أستاذا في عدة جامعات عربية، وجامعة البليدة حيث هو الآن.
- إن المطلع على سيرة مصطفى بن حموش وانتاجه العلمي يحتار في تصنيفه هل هو مهندس معماري أم مؤرخ عمران؟
*البداية كانت في مدرسة الهندسة المعمارية والتعمير بالحراش، حيث كنا نتلقى دروسا في تاريخ العمارة الإسلامية، وقد كان الأستاذ الإيطالي يستفزنا بالمراجع الغربية التي تؤكد تطفل المسلمين على الحضارات الغربية وفقدانهم لمنطق تخطيط المدن، حيث يعشقون الفوضى ويفقدون الذوق المعماري. فكان علي بحماس الطالب أن أقتحم عالم التاريخ وأفند أقوال المستشرقين بإثبات وجود قواعد وأسس ناضجة ومتينة في نشأة المدن وممارسة العمران.
وعند اتصالي بمشرف الدكتوراه التركي الأصل الفرنسي الجنسية، حثني على استغلال الأرشيف العثماني باعتباره أقرب مصدر للعمران الإسلامي بالنسبة للجزائر التي عانت من طمس الهوية والتاريخ، فكان ذلك، حيث استغللت معارفي المعمارية والعمرانية في قراءة وفرز الأرشيف العثماني. وبذلك أصبحت معماريا وأستاذا مختصا في تاريخ العمارة. وقد وجدت أن التاريخ ليس بتسلسل الأحداث بقدر ما هو سنن تتحكم في سيرورة البشر، حيث يجب استخراجها من ركام الأخبار التي تمتلئ بها كتب السير والروايات والتاريخ.
- يختار الطلبة الجزائريون عموما الجامعة الفرنسية لإكمال دراساتهم العليا إلا أن مصطفى بن حموش خالف العرف بتوجهه للجامعة البريطانية في مرحلة الماجيستير ما هي أسباب ذلك؟
*كان الاختيار الأول منذ تخرجي الجامعي الأول وحصولي على منحة التفوق للدراسة بالخارج. فقد اخترت بريطانيا من بين عدة بلدان لعدة أسباب. ولا أخفي أني منذ كنت طالبا كنت أحمل كرها شديدا للفرنسية ولفرنسا. وكنت ولا أزال أستعين بالإنجليزية لمقاومة الإحساس بالنقصان الذي نعيشه كمثقفين يحملون هم الهوية واللغة أمام التنمر الفرنكفوني في الجامعات وفي الحياة العامة. ورب شر فيه خير، حيث أن ذلك الإحساس كان ولا يزال يدفعنا للتوق نحو التفوق والإنتاج النوعي سواء في التعليم أو الإنتاج العلمي.
- بعد حصوله على شهادة الماجيستير من الجامعة البريطانية عاد مصطفى بن حموش للجامعة الفرنسية وحصل منها على شهادة الدكتوراه. هل يمكن أن يعطينا خلاصة مقارنته للتجربتين من حيث نمط الحياة والمستوى العلمي؟
*توجهي إلى الجامعات الفرنسية كان بعد خوض تجربة التعليم الجامعي بالماجستير في الجامعة الجزائرية، حيث ظهر لي أن الارتقاء نحو الدكتوراه أمر لازم في سبيل التدرج الجامعي. وبسبب غلاء تكاليف الدراسة في بريطانيا وجدت نفسي مضطرا للتوجه لفرنسا التي كان التعليم الجامعي فيها شبه مجاني. أما من حيث المقارنة، فقد وجدت الفرق الشاسع بين المجتمعين: الإنجليزي المقنن بالعوائد والأعراف، والفرنسي المنفتح والمشبع بالحداثة. أما من حيث التعليم الجامعي فإن الفرق كان ولا يزال واضحا من حيث المنهجية والرسوخ في التقاليد وسعة المجال العلمي. وقد استغللت تقنية التمكن في الإنجليزية والتخرج منها لمواجهة عقدة الفوقية لدى بعض الأساتذة الفرنسيين. (فإذا أردت أن تقزم فرنسيا عليك أن تكلمه بالإنجليزية).
- اشتغل مصطفى بن حموش لسنوات طويلة بالإمارات العربية وكانت له مساهمة في ثورتها العمرانية. هنا يتساءل الفرد الجزائري البسيط عن سر هذه الطفرة العمرانية وهل يمكن استنساخ هذه التجربة بالجزائر؟
*إقامتي في الإمارات بدأت سنة 1994م، إثر الظروف الأمنية الصعبة التي حالت دون استمراري في التدريس بجامعة البليدة، وقد اضطررت لمغادرة العالم الأكاديمي، والالتحاق بعالم المهنة والاحتراف، مما أفادني في الاحتكاك بجنسيات عديدة في الإمارات، ولا أدعي أني ساهمت في ثورتها العمرانية، فقد كنت كخبير تخطيط وككل الأجانب نتابع ونساهم بحكم الوظيفة والمعارف المكتسبة في كل من بريطانيا وفرنسا وكذلك الجزائر. ولا أخفي أني تصادمت كثيرا مع التوجه الاستهلاكي الذي كان يدعو إليه الكثير من الأجانب الغربيين في البناء والعمران إخواننا في الإمارات طمعا في الاكتساب وتسويق منتوجات بلدانهم، حيث كنت أرى الإمارات كبلد عربي مسلم ينزلق نحو التغريب والاستمتاع والهضم اللاواعي. وقد كتبت حينها مقالا في الخليج عن الفرق بين “البناء الحضاري وتكديس الأشياء”. فقد رأيت بأم عيني كيف تتجسد فكرة مالك بن نبي رحمه في إمكانية الاقتناء دون أن تكون هناك حضارة ترافقها. ومع ذلك فإنه لا أحد ينكر مدى تقدم البنية التحتية لمدن الإمارات وأنظمتها الرقمية وسلاسة حياة المواطن فيها. كما لا أنكر أن توطين ذلك التقدم بدأ يأخذ مجراه في المجتمع الإماراتي، حيث بدأت طبقة من النخبة تتشكل وتساهم في إدارة الأمور في بلادها.
أما عن إمكانية الاستنساخ في الجزائر فإني لا أجد مجالا كبيرا للمقارنة، بين بلد صغير وحديث العمران وطفرة اقتصادية متميزة، وبلد كبير وشاسع يمتلك تراثا عمرانيا كبيرا وتحديات متجذرة ومتعددة الأبعاد.
- اشتغل مصطفى بن حموش أيضا بدولة البحرين ماذا قدمت له هذه التجربة؟ وماهي أوجه المقارنة بين الدولتين الخليجيتين؟
البحرين من أصغر الدول مساحة في الخليج، ولكنها كانت أولى البلدان التي ركز عليها الاستعمار البريطاني كنموذج للتطوير في المنظومة العربية التقليدية. ولذلك فإنها الأسبق في كل المجالات من البلدان الخليجية الأخرى والتي استفادت بدورها من تجربتها. تركيبتها الاجتماعية والعرقية والدينية -سنة وشيعة- تجعل منها بلدا متميزا جدا، يحمل تناقضات وديناميكية تتجاوز حجم البلد كثيرا. فهي تتوسط قوتين إسلاميتين عظيمتين، جزيرة العرب وبلاد فارس. وعندما أتحدث عن البحرين أتذكر دائما الحكمة القائلة: “وَتزعم أنك جرمٌ صغير، وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ. ”
- تتردد باستمرار أسطوانة عودة الأدمغة الجزائرية بالخارج. من خلال تجربة مصطفى بن حموش هل الجامعة الجزائرية مؤهلة لاستقبال هؤلاء ؟
*إحدى دوافع عودتي إلى الجزائر هو ذلك النداء الذي أرسلته السلطات الجزائرية عبر سفاراتها لإطاراتها في كل بلاد العالم. وقد علمت بعد ذلك أن هذا النداء قد قام به بعض الأخيار من الناس آنذاك، ولكن قوى الشر كانت أكبر فعملت على إفساده. فأجهضت عملية العودة فتم غلق القنوات وتعسير الاندماج في الجامعات الجزائرية، مما اضطر الكثير من الزملاء إلى العودة إلى المهجر. فقد أرسل بعض المسؤولين للعائدين رسائل تدل أنهم غير مرحب بهم، وأن عودتهم تزعج الكثير ممن هم في المناصب ومن يعتلون سدة البحث العلمي والثقافة والعلوم. فأصبحت القرارات ليس فقط غير مناسبة لعودتهم بل هي ضد عودتهم. ولكن عتابي على هؤلاء الذين عادوا إلى الخارج والذين لا يفكرون في العودة أبدا هو عدم إدراكهم أبعاد المعركة الثقافية والحضارية وثقل رسالتهم تجاه بلادهم وانسحابهم الهادئ من ساحة المعركة.