الشّيخ ابن باديس رائد تعليم البنات ونصير حق المرأة
بقلم: عبد المالك حداد -
من حق رواد التربية والتعليم ذكر مآثرهم، ونشر محاسنهم، والإفادة من إبداعاتهم. ومن أولئك الرواد العلاّمة الشّيخ عبد الحميد بن باديس (1889-1940 م) واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها مسلك التربية والتعليم، فقضى سحابة نهاره وشطرا من ليله في خدمة العلم الديني واللساني ونشره في زمن كان فيه هذا القطر قريبا من الفناء بسبب الاستعمار الفرنسي، وهو يصف حالته التي كان يشاهدها قبل عقد من السنين بالقول: «ليست له مدارس تعلمه، وليس له رجال يدافعون عنه، ويموتون عليه. بل كان في اضطراب دائم مستمر، ويا ليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤه يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية، التي لا تعطيهم غالباً من العلم إلا ذلك الفتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف، حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم، وقد ينكرونها».
لقد أدرك الشّيخ ابن باديس ضرورة تغيير هذه الحالة، وهدته حكمته إلى أن التغيير لا يأتي إلا بالتعليم، ولأن المجتمع في فكره كما الطائر لا يمكنه الإقلاع والتحليق إلا بجناحين، فكذلك عند الشّيخ ابن باديس أن إقلاع المجتمع الجزائري نحو الحرية لا يمكن أن يكون إلا بتغيير حياة المرأة الجزائرية التي كانت إما محرومة نهائيا من التعليم، وإما متعلّمة تعليما فرنسيا يجعلها متنكّرة لأصلها وعروبتها وإسلامها. لذا فإنه كان شديد الحرص على تعليم المرأة كلَّ ما تحتاجُ إليه للقيام بوَظيفَتها، وتربيتها على الأخلاق النِّسوية التي تَكون بها المرأة امرأةً، لا نصفَ رجلٍ ونِصفَ امرأةٍ، فالتي تَلدُ رجُلاً يطيرُ خيرٌ من التي تَطيرُ بنفسهَا.
ومنذ بداية دعوته الإصلاحية سنة 1914 م نجد المرأة محل اهتمامه من خلال دروسه ومحاضراته ومقالاته الصحفية، فنبه في كتابته على حقها في التعليم ودورها في البناء الاجتماعي، وخصص ركنا في مجلته الشهاب سنة 1934 م ترجم فيه لبعض النساء من سلفنا الصالح، أبرز فيه نماذجٍ للمرأة: المجاهدة، الطبيبة والممرّضة، الشّجاعة والصّابرة، العالمة، الأديبة والشّاعرة، فالرّجل كان يريد أن يُربّي المرأة في عصره وفق هذه النماذج لحاجة المجتمع الجزائري لامتهان هذا الصنف من المهن من طرف النساء.
كما أوجب تعليم المرأة وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، ونصح بتكوينها على أساس العفّة وحُسن تدبير المنزل، والنّفقة والشّفقة على الأولاد، وحُسن تربيتهم، كما أنهّ حمّل مسؤولية جهل المرأة للأولياء وللعلماء الذين يقع عليهم واجب تعليم الأمّة بأبنائها وبناتها ونسائها ورجالها على أساس الدّين والقومية إلى أقصى ما يُمكن أن نصل إليه من العلم الذي هو تراث البشرية جمعاء.
ومع قناعة الشّيخ ابن باديس التّامة بأنّ التعلّم حقّ للمرأة كما للرجل، أحدث دروسا للوعظ خاصة بالنساء بالجامع الأخضر، عرفت إقبالا كبيراً حتى اكتظ المسجد بهن، وكانت هذه الدروس تتناول واجبات المرأة المسلمة نحو بيتها وأولادها وزوجها، ونحو دينها ووطنها، وكثيرا ما كان يصطحب زوجته إلى هذا الدرس ويجلسها بقربه لأجل كسر باب الخجل أمام استفسارات وأسئلة النِّسوة.
كما أعطى روحاً جديدة للتّعليم في الجزائر لم تكن معهودة فيها من قبل عندما فتح أبواب مدرسة جمعيّة التّربية والتّعليم لتعليم البنات بعد تأسيسها في شهر فيفري سنة 1931 م، ودعا أولياء الأمور إلى المبادرة ببناتهم إلى مكتب الجمعية يتعلمن كلهن مجانا، وكان الهدف هو استقطاب أكبر عدد من البنات للتعلم، فلم تمر إلا أشهر قليلة حتى ضمّت إلى أحضانها نحو ثمانين فتاة، ووصل عددهن 130 تلميذة من مجموع 900 تلميذ سنة 1939 م.
وقد نص قانون جمعيّة التّربية والتّعليم على تربيتهن تربية إسلامية بالمحافظة على دينهن ولغتهن وشخصيتهن وتعليمهن بتثقيف أفكارهن بالعلم وباللسانين العربي والفرنسي، وتعلمهن الصنائع ضمن ورشات يتدرّبن فيها على مختلف الحرف. ولتشجيع تعليم البنات رغب رفاقه العلماء أن يقوموا بمثل ذلك في مدنهم وقراهم، خاصة بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ماي سنة 1931 م، فساروا على نهجه.
وحتى يتسنى للبنات اللواتي أتممن مرحلة التعليم الابتدائي، مواصلة التعليم الثانوي والعالي، شرع الشّيخ ابن باديس سنة 1938 م في التخطيط والإعداد لإرسال المتفوّقات منهن إلى الكليات والمعامل الكبرى، فطلب من الشّيخ الفضيل الورتلاني (1900-1959 م) مندوب جمعية العلماء في فرنسا، بأن يحقق التحصيل على إذن سفر بعثة للأزهر، وأن يعرفه بما يلزم من نفقة كل تلميذ. وفي نفس الفترة علم عن طريق مجلة الرابطة العربية بوجود مدرسة خاصة لتعليم البنات في دمشق تشرف عليها جمعية دوحة الأدب، فراسل رئيستها السيدة عادلة بيهم الجزائري (1900-1975 م)، يعرض فيها إمكان استقبال بعض البنات لتعلمهن في مدرسة الجمعيّة وكيف السبيل إلى ذلك.
وأما البعثة الأزهرية فقد تمكن الشّيخ الورتلاني بفضل تدخل شخصي للأمير شكيب أرسلان (1869-1946 م) من الحصول على موافقة الحكومة المصرية لتمويلها ودعمها، وعلى أثر ذلك اتصل الشّيخ ابن باديس بأولياء التلاميذ، وشرح لهم أن الحكومة المصرية ستتكفل بمصاريف أطفالهم من السفر والإقامة في القاهرة وأخذ موافقتهم، واختير حوالي 30 من الأولاد منهم عشر بنات، ينقلون إلى القاهرة عبر تونس، وفي حالة وجود صعوبات ينقلون عبر مرسيليا. وكان من أعضاء البعثة المشايخ: الفضيل الورتلاني، وإسماعيل آعراب، ومُحَمَّد الغسيري، وأحمد حماني، ومصعب ابن سعد الجيجلي.
وأما أعضاء البعثة الشامية فقد اختار الشّيخ ابن باديس أن تكون من جمعية التربية والتعليم بقسنطينة، على أن يرسل ستة أو ثمانية من تلاميذها وتلميذاتها. إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية حَالَ دون إتمام إرسال البعثتين.
لقد كان الشيخ ابن باديس يرى في تعليم المرأة أهم شروط تكوين الرجال الصالحين القادرين على تحمل المسؤوليات فيقول: «إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً فعلينا أن نكوِّن أمهات دينيات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًا، وتربيّتهنّ تربية إسلامية، وإذا تركناهنّ على ما هنّ عليه من الجهل بالدّين؛ فمحال أن نرجو منهن أن تُكَوِّنَّ لنا عظماء الرجال».
المصادر:
– البصائر
– الشّهاب
– رسالة الشيخ ابن باديس إلى الفضيل الورتيلاني بتاريخ 05 أوت 1938 م
– رسالة الشيخ ابن باديس إلى رئيس جمعية دوحة الأدب بتاريخ 20 أوت 1938 م
– تقرير سري حول وضعية التعليم الإبتدائي بعمالة قسنطينة من الأرشيف الفرنسي بتاريخ 16 جانفي 1939م
– تقرير سري بخصوص إرسال طلبة جزائريين إلى مصر من الأرشيف الفرنسي بتاريخ 23 جانفي 1939 م
– آثار الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي
– مُحَمَّد الصالح بن عتيق: أحداث ومواقف في مجال الدعوة الإصلاحية والحركة الوطنية الجزائرية
– نشرة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة.