وداعا شيخنا أبا عبد السلام
بقلم: محمد بوالروايح -
الموت كأس وكل الناس شاربه، يقول الله تعالى: “كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور” (آل عمران 185). حقيقة قرآنية وقاعدة سننية لا تتخلف وإنما يختلف الناس حيال الموت في الحال التي يموتون عليها والمنقلب الذين ينقلبونه، وهم في ذلك فريقان: فريق زكى نفسه فأعتقها وفريق دساها فأوردها المهالك، ونحسب شيخنا جعفر أولفقي المعروف عند عامة الجزائريين والمشاهدين باسم “أبو عبد السلام” من الفريق الأول، فقد عاش هذا الرجل للإسلام وللجزائر وحبس نفسه في محراب الفتوى والدعوة في الوقت الذي يحبس فيه بعض الغفّل والحمقى أنفسهم في شعاب الحياة التي تحيد بهم عن الصراط وتحرمهم لذة العيش في رحاب الله.
نودع شيخنا “أبو عبد السلام” ولسان حالنا يقول: “إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا”. نودع شيخنا الإمام الهمام وموعدنا معه في دار السلام التي قال الله عنها: “لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون” (الأنعام 127). توفي الشيخ أبو عبد السلام الذي أحبه الصغير والكبير والمعلم والمتعلم والمفكر والمبتكر، كلهم أجمعوا على حب هذا الصوت الإيماني والرجل الرباني الذي يخاطب الناس بما يفهمون بعيدا عن الاستطراد الفقهي، فالفقيه الحقيقي هو الذي يحسن الإصغاء إلى هؤلاء وهؤلاء ويحسن الإفتاء في جميع المسائل التي تعرض عليه مهما كان السائل فردا ملما أو شخصا أمّيًّا. توفي الشيخ أبو عبد السلام فقيه الوسطية وداعية المرجعية الذي يؤمن بأن حب الوطن من الإيمان وبأنه ليس من الحكمة ادّعاء الاستقامة بالتنكر للوطن والتخندق مع أهل الخيانة. وإنه ليحزّ في أنفسنا أن يحجم بعض إخواننا في الدين عن الترحم على روح شيخنا أبو عبد السلام فلم يرعوا له في ذلك حق الرابطة الدينية ولا حق الرابطة الوطنية في الوقت الذي يصدّعون رؤوسنا بالحديث عن الأمة الواحدة والكلمة الجامعة. لم نقرأ لكثير من شيوخ السلفية عزاءً في وفاة الشيخ أبو عبد السلام تماما كما فعلوا ويفعلون عند وفاة العلماء من خارج “السلسلة الذهبية” التي يتبعونها ويدينون لها بالولاء. لو كان هؤلاء على طريقة الرسول الهادي وعلى طريقة السلف رضوان الله عليهم الذين غرفوا من هذا النبع الصافي لرعوا لفقيدنا الشيخ أبو عبد السلام الحقوق التي أوجبها الإسلام على المسلم تجاه أخيه المسلم. لا يضير شيخنا أبا عبد السلام أن يتنكر له بعض إخواننا حيا وميتا، فحسبه الألوف المؤلفة التي أحبته من سويداء القلب، أحبت فيه البساطة في القول والإخلاص في العمل، أحبت فيه حماسته في خدمة الدين وصرامته في التصدي للمتاجرين بأحكامه والمتقمصين لدور “رجال الدين” وهم لا رجال دين ولا رجال دنيا وللمدّعين الانتساب إلى السلف وهم لا سلف ولا خلف.
ولد شيخنا أبو عبد السلام في منطقة القبائل العامرة التي أنجبت للجزائر رجالا أفذاذا ذادوا عن دينهم ووطنهم ويذودون ضد الانفصاليين القدامى والجدد الذين يبيعون وطنهم وذممهم بعرض من الدنيا قليل. عكف شيخنا منذ فترة مبكرة من حياته على حفظ القرآن وحفظ المتون حتى اجتمع له منها رصيد موفور فطفق ينفق من علمه الذي تعلمه في مناطق كثيرة من الجزائر حتى استقر به المقام في الجزائر المحروسة فانضم إلى اللجنة الوزارية للفتوى واشتغل بالفتوى والدعوة إلى أن استوفى أجله في منطقة الهضاب التي طالما تغنى بأمجاد أهلها ووطنية أبنائها . عاش الشيخ أبو عبد السلام 76 سنة قضاها في تفقيه الناس في دينهم وتبصيرهم بعقيدتهم بمنهج وسطي بعيد عن الغلو والتنطع الذي ابتلي به كثير ممن باعوا دينهم واتخذوه مطية لتحقيق مصالحهم ومآربهم. لقد فقدت الجزائر والأمة الإسلامية بوفاة الشيخ رجلا لا يشق له غبار في مجال الفتوى، على عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك، ولعل هذا ما أوغر صدور ناقديه من إخواننا الذين بغُوا علينا واتبعوا سبيلا غير سبيل الجزائريين في الاحتكام إلى الوسطية والتشبث بالمرجعية. انضم الشيخ أبو عبد السلام إلى كوكبة العلماء الذين رحلوا عنا بعد أن ملأوا الدنيا علما وفقها وفكرا، وفي رحيلهم أمارة من أمارات قبض العلم وتصدر الجهَّال كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”. لقد بدأ كوكب العلم في الأفول وتصدر الرؤوس الجهال المشهد، وتحلق حولهم الضلال ولكن العبرة ليست بالكثرة وإنما في اتباع الفطرة كما قال الله تعالى :” قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث”. نودع شيخنا “أبو عبد السلام ” وقلوبنا حزينة وأكفنا ضارعة إلى الله أن يخلفنا في مصيبتنا وأن يقيض لأمتنا من يخلفه ويختط نهجه من أهل القرآن ورواد المساجد ممن لم تتلوثت عقيدتهم ولم يذوبوا في أوحال المدنية الزائفة التي أضلت كثرة كاثرة من شبابنا. رحل الشيخ أبو عبد السلام من غير أن يودّعنا ونودّعه؛ فالموت يأتي بغتة ولا يستأذن على أحد، ولكن عزاءنا أن الجزائر ولّادة فمسيرة العطاء ستستمر في جزائر الوفاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولنا في تاريخ الجزائر عبرة، فقد ظن بعض الأفاكين بأنه بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس ستموت الجمعية وستنكسر شوكة الأمة فخابوا وخسروا فيوم الإسلام ويوم الجزائر قادم وإن غدا لناظره قريب. لا نملك في هذا المصاب الجلل إلا الدعاء لفقيدنا الشيخ أبي عبد السلام أن يرحمه الله ويكرم مثواه وينزله منازل الصالحين وأن يجزيه عن الجزائر وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه وأن يصبِّر أهله على فراقه “وبشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون” (البقرة 156).