الشيخ أبو عبد السّلام.. العالم العامل والمعلّم النّاصح
بقلم: سلطان بركاني-
في الفاتح من الشهر الهجري الجاري؛ شهر ربيع الأنوار، أبدى جُلّ الجزائريين -المعروف عنهم حبّهم للعلماء- تأثرهم بوفاة الإمام القرضاوي، وأسفهم على رحيل عالم ارتبط اسمه بقضايا الأمّة الكبرى وكان شاهدا على قرن من أصعب القرون التي مرّت بأمّة الإسلام.. وما كادت الفاجعة تنسى، حتّى فجع الجزائريون صبيحة أمس، في الخامس عشر من شهر المولد، بوفاة عالم ارتبط اسمه بواقع المجتمع الجزائري وخصوصياته؛ عالم عامل وضع الله له القبول في ربوع الجزائر كلّها، ولا يكاد يوجد عالم في بلدان العالم الإسلاميّ يحظى بالقبول بين أهل بلده كما يحظى الشيخ أبو عبد السّلام بين الجزائريين، ونحسب ذلك لما عرف عن الشّيخ من رفعة الأخلاق والتواضع والصدق والتجرّد وإخلاص النّصح لعباد الله والترفّع عن الخصومات التي أثخنت الواقع الإسلاميّ عامّة والواقع الجزائريّ خاصّة.
كانت طلعة الشّيخ البهية -التي تزيّنها ابتسامته الدّائمة- على وسائل الإعلام وفي القنوات، تنشرح لها صدور الجزائريين على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم وانتماءاتهم، ولا يشعر الواحد منهم وهو يرى وجه الشّيخ إلا وهو يبتسم وينتظر بلهف ما يجود به لسان شيخ الجزائر من نصائح وفتاوى نافعة.. أمّا كلماته، فكانت تحفر مكانها في سويداء القلوب، ويحسّ من يسمعها أنّه أمام أب ناصح مشفق يكلّم أبناءه ويرشدهم للتي هي أقوم ويأخذ بأيديهم ليتزوّدوا من الأعمال الصّالحة ويصحّحوا أخطاءهم ويقوّموا واقعهم، بلغة سهلة بسيطة يفهمها الشّيخ الكبير والعجوز الأمية، وبأسلوب جذّاب يمزج بين العلم والحكمة والطّرفة أحيانا.. وقد كان للهيبة التي يتمتّع بها الشّيخ، إضافة إلى طريقته المميّزة في الفتوى أثر بالغ في القبول الذي تحظى به فتاواه وكلماته، حتّى لا تكاد تجد جزائريا يشكّك في فتوى تنقل عن الشّيخ، وربّما لا أكون مبالغا إن قلت إنّ الشيخ -رحمه الله- من قلّة العلماء الذين تلقى فتاواهم الإجماع.
لم يكن الشّيخ -رحمه الله- يكتفي في كلماته بالإجابات المقتضبة التي تقف عند إعطاء الفتوى المجرّدة، كما يفعل علماء المشرق، بل كان يقدّم للفتوى ويتبعها بكلمات ناصحة تلامس الواقع وتجعل المستفتي يفرح بما يسمع ويقنع بكلام الشّيخ الذي يُبين عن معرفة لصيقة بواقع النّاس وحججهم وأعذارهم التي يتعلّقون بها.. وعلى خلاف كثير من العلماء الذين يكتفون بالجلوس في مكاتب الفتوى وأمام الكاميرات في وسائل الإعلام المختلفة، فإنّ الشيخ -رحمه الله- كان ينزل إلى النّاس في مساجدهم وواقعهم، وكان لا يكاد يردّ الدّعوات التي تأتيه من أئمّة المساجد ومديري الشؤون الدينية في مختلف الولايات، خاصّة في المناسبات الدينية، كرمضان وذكرى المولد.. ولأنّ عادة الكريم -سبحانه- جرت على أنّ من عاش على شيء مات عليه، فقد قبض الشّيخ بعيدا عن بيته وأهله وعن مكتبه، وهو يجوب أقطار الوطن لإحياء ذكرى المولد النبويّ الشّريف، يحبّب إلى الجزائريين قدوتهم وشفيعهم ويجلّي لهم شمائله وسيرته.
عاش الشّيخ -رحمه الله- متعاليا عن الحزبيات الضيّقة، لم يتعصّب لطائفة ولم يدع إلى جماعة أو حزب، كما لم ينصب العداء لطائفة ولا لحزب، بل ظلّ على مسافة واحدة من كلّ الجزائريين، يواصل مسيرة ابن باديس والإبراهيميّ وإخوانهما في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، معلّما ناصحا، وعالما مفتيا.. وقد عرف له الجزائريون قدره وكان شيخهم المفضّل ومفتيهم الأوّل، باستثناء بعض الشّباب الذين انساقوا للحزبيات الضيّقة وتنكّروا لعلماء بلدهم لحساب علماء في أقطار أخرى لا يعرفون من واقع الجزائريين عشر معشار ما يعلمه الشّيخ “أبو عبد السّلام” رحمه الله.. كان في وسع الشّيخ أن يكون عالما تجوب سمعته أقطار العالم الإسلاميّ كلّه، لكنّه فضّل أن يكون عالما لواقع يعرف تفاصيله، بخلاف علماء آخرين في أقطار إسلامية أخرى لا يتردّد الواحد منهم في تقديم الفتاوى دون مراعاة لاختلاف الواقع، وهو ما كان يسبّب خلافات لا تكاد تنتهي!