الإبراهيمي يتحدث عن نفسه
لقد كُتِبَ العديد من الدراسات والأبحاث في سيرة الشيخ البشير الإبراهيمي الغراء. والأجزاء الخمسة التي جمعها وقدم لها نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وسماها ( آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ) حافلة بالمقالات التي رَقَمَتْهَا يراعة الشيخ، والتي تصور شخصيته، وأطوار حياته.
كما أن تلك الأجزاء - وخصوصاً مقدماتها - قد تضمنت عدداً من الكتابات التي تناولت سيرة الشيخ بالدراسة والتحليل. بل إنه - رحمه الله - كتب عن سيرته الذاتية؛ حيث جاء في الجزء الخامس من ( الآثار ) ترجمتين كتبهما الشيخ عن نفسه.
أما الترجمة الأولى فهي في 5 / 163 - 170 . وقد جاءت بعنوان ( من أنا ) وهي في أصلها جواب عن أسئلة مجلة المصور المصرية، ونشرت في 1955م.
وأما الثانية فهي في 5 / 272 - 291 من الآثار، وعنوانها: ( خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية ) وقد كتب هذه الترجمة بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1961م عندما عين عضو عاماً فيها.
كما تحدث بشيء من سيرته في مقابلة مع مجلة الشبان المسلمين 1962م وهذه المقابلة في الآثار 5 / 298 - 302.
وإليكم نبذة موجزة عن بعض ما جاء في تلك الكتابات حول تلك السيرة، وذلك من خلال الوقفات التالية :
يقول الشيخ محمد البشير - رحمه الله -:عن نشأته، وبداية طلبه للعلم، ومحفوظاته: ((نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت التعلم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتبع في بيتنا، الشائع في بلدنا. وكان الذي يعلمنا الكتابة، ويلقننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافاً كلياً عالم البيت، بل الوطن كله في ذلك الزمان عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي - رحمه الله -. وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع؛ من نحوها، وصرفها، واشتقاقها، ولغتها. أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا)) .
ويقول - رحمه الله -: ((فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلمي القرآن، وتولى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة، حتى في ساعات النوم؛ فكان هو الذي يأمرنِي بالنوم، وهو الذي يوقظني على نظام مطرد في النوم، والأكل، والدراسة.
وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه، وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن؛ فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه.
وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب.
ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدراً من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى المشرق، وصدراً من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيراً من رسائل سهل بن هارون، وبديع الزمان.
وفي عنفوان هذه الفترة حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابيه للهمذاني، وكتاب الفصيح لـ: ثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت.
وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في مَلَكتي اللغوية.
ولم يزل عمي - رحمه الله - يتدرج بي من كتاب إلى كتاب تلقيناً وحفظاً ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغتُ الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث، وتدقيق، وكان قبلها أقرأنِي كتب ابن هشام الصغيرة قراءةَ تفهُّمٍ وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت في الظلمة حتى يغلبني النوم.
ولم يكن شيء من ذلك يرهقني؛ لأن الله - تعالى - وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نَيِّرة، وذهناً صيوداً للمعاني ولو كانت بعيدة.
ولما بلغت أربع عشرة سنة مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت؛ بحيث إني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة))
ويقول في موضع آخر:(( ولقد حفظت وأنا في تلك السن - الرابعة عشرة- أسماء الرجال الذين تَرجم لهم نفح الطيب، وأخبارهم، وكثيراً من أشعارهم؛ إذ كان كتاب نفح الطيب - طبعة بولاق - هو الكتاب الذي تقع عليه عيني في كل لحظة منذ فتحت عيني على الكتب.
وما زلت أذكر إلى الآن مواقع الكلمات منذ الصفحات، وأذكر أرقام الصفحات من تلك الطبعة.
وكنت أحفظ عشرات الأبيات من سماع واحد، مما يحقق ما نقرؤه عن سلفنا من غرائب الحفظ.
وكان عمي يشغلني في ساعات النهار بالدروس المرتبة في كتب القواعد وحدي أو مع الطلبة، ويمتحنني ساعة من آخر كل يوم في فهم ما قرأت، فيطرب لصحة فهمي.
فإذا جاء الليل أملى علي من حفظه - وكان وسطاً - أو من كتاب ما يختار لي من الأبيات المفردة، أو من المقاطيع حتى أحفظ مائة بيت، فإذا طلبت المزيد انتهرنِي، وقال لي: إن ذهنك يتعب من كثرة المحفوظ كما يتعب بدنك من حمل الأثقال، ثم يشرح لي ظواهر المعانِي الشعرية، ثم يأمرنِي بالنوم - رحمه الله-)).
ثم يقول - رحمه الله - بصدق وصراحة: ((مات عمي سنة 1903م ولي من العمر أربع عشرة سنة، ولقد ختمت عليه دراسة بعض الكتب وهو على فراش المرض الذي مات فيه وأجازني الإجازة المعروفة عامة، وأمرنِي أن أخلفه في التدريس لزملائي الطلبة الذين كان حريصاً على نفعهم، ففعلت، ووفق الله، وأمدتني تلك الحافظة العجيبة بمستودعاتها، فتصدرت دون سن التصدر، وأرادت لي الأقدار أن أكون شيخاً في سن الصبا.
وما أشرفت على الشباب حتى أصبت بشرِّ آفة يصاب بها مثلي، وهي آفة الغرور والإعجاب بالنفس؛ فكنت لا أرى نفسي تَقْصُر عن غاية حفَّاظ اللغة وغريبها، وحفاظ الأنساب والشعر، وكدت أهلك بهذه الآفة لولا طبع أدبي كريم، ورحلة إلى الشرق كان فيها شفائي من تلك الآفة)) .
هذا وقد أشار - رحمه الله - في بعض المواضع إلى أنه كان يحفظ المعلقات، والمفضليات، وكثيراً من شعر الرضي، وابن الرومي، وأبي تمام، والبحتري.
وأشار إلى أنه يحفظ موطأ مالك وغيره من الكتب.