فلسطين واليهود

بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-

كارثة فلسطين من أعمق الكوارث أثراً في نفوس المسلمين الصادقين، وجميع الكوارث التي حلت بالمسلمين عدل من الله، تخفى على البسطاء أسراره، وتظهر للمتوسِّمين أسبابه، إلا قضية فلسطين، فإنَّ وجه العدل الإلهي فيها واضح مسفر، ذلك أنَّ العرب ومن ورائهم المسلمون لم يؤخذوا فيها على غرة.

 بل كانوا يحيطون علماً بنيات اليهود ومطامعهم في إقامة دولة في أرض الميعاد، وتحقيق حلمهم القديم الذي تزودوا به من يوم خرجوا من فلسطين أذلة صاغرين في سبي بابل، وما زالوا يغذون أبناءهم جيلاً بعد جيل بعودة ملك إسرائيل إلى بنيه، ويسندون أوهامهم فيه إلى نصوص دينية، ووعود إلهية على لسان بعض أنبيائهم، افتراها أحبارهم، وأيدوها بتلك الوعود المصطنعة؛ لترسخ في مستقر العقائد من أبنائهم، ويتوارثونها فيما يتوارثون.

إن أجدادنا لم يأخذوا فلسطين من يد اليهود، وإنما أخذوها غلاباً من أيدي الروم، وحرَّروها من استعمارهم، وفي تحريرها تحرير لليهود أنفسهم، فماذا ينقم اليهود منا؟ ولماذا ينتقمون منا؟ ولماذا يجزون إحساننا لهم بالإساءة؟ ولماذا يستعينون علينا بأعدائنا وأعدائهم؟ إنه اللؤم المتأصل، والأنانية المركبة في الطباع المريضة، إن اللؤم قرين الضعف ودليله، فحيث ترى ضعف الطباع ترى لؤم الطباع، وقد جرت الدولة الإسلامية في تاريخها الطويل على معاملة اليهود بالحسنى؛ معاملة إلا تكن معاملة عمرية، فهي بمقربة منها إلا في الفرط والندرة، حينما ينقض اليهود عهداً، أو يظاهرون عدوًّا، وما أكثر ما يقع منهم ذلك؛ لأنه طبيعي فيهم، لا يكادون يصبرون عليه...

التاريخ في سلسلته الزمنية الطويلة يشهد أن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك مادي في فلسطين ولا في غيرها، كالذي تتأثَّله الأمم بالقوة والغلبة، وإنما كان لهم في فلسطين وما حولها من أرض الكنعانيين سلطان ديني أساسه النبوات، تسانده من القوة المادية ما تحتاج إليه الدعوات الدينية عادة، وما يظهر به ذلك السلطان الديني من مظاهر الملك المادية، ولكن ذلك الملك، وذلك المظهر، لا يخرج عن نطاق الدين المؤيد بالعلم والحكمة، كما وقع لداود وسليمان، فملكهما كان دينيًّا محضاً، وهل يحتاج بناء الملك المادي في مألوف العادة إلى تسخير الجند والطير والريح؟ وقد انقضى ذلك النوع من الملك بانقضاء زمنه، ولم تجر به سنة الله في الأمم والملوك، وكل ما يذكر عن ملوك بني إسرائيل فهو متأثر بذلك النوع، أو مصبوغ بصبغته، وفيما عدا تلك الفترات الدينية التي كان يقوم فيها الملك على الدين، أو يؤيد فيها الملك بالخوارق، أو يعضد بالعلم والحكمة، فإنَّ بني إسرائيل لم يظهروا في التاريخ كأمة مدنية تستطيع بمؤهلاتها البشرية، ومواهبها الفطرية المشاعة بين الأمم، أن تقيم دولة، أو تؤسس حضارة ذات خصائص جنسية منتزعة من الطبيعة الإسرائيلية، من غير اعتماد على عامل خارجي عبر الخوارق، وقد دعاهم موسى إلى الملك، وأكَّد لهم ذلك بوعد الله بعد أن يقوموا بالأسباب العادية، التي لا يقوم الملك إلا عليها، وأهمها الغلاب، والقتال في سبيله، فأبوا عليه، وعَنَّتوه جرياً على الطبيعة المتأصلة فيهم؛ من الجبن، والمذلة، وحب المكسب المادي الميسر الهنيء، وقالوا له تارة: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22] وقالوا له مرة أخرى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. وقد لقى موسى الألاقي في سبيل دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، وإعدادهم للملك، وفهم سنن الله فلم يفلح.

واليهود في أخلاقهم النفسية، وطبعهم الأصيل شعب أناني، يحب الاستئثار بالفضائل الإنسانية، من دون أن يعمل لها، أو يضحِّي في سبيلها، ليذهب به الغرور كلَّ مذهب في تمجيد الجنس اليهودي، واصطفاء الله له على الشعوب، إلى درجة أن دماء الأمم الأخرى وأموالهم كلها مباحة له؛ لأنها مخلوقة لأجله، وتملك الغير لها إنما هو اعتداء وغصب، فسرقة أموال الناس في نظرهم ليست سرقة، وإنما هي استرجاع لحقٍّ كان مغصوباً، وهم ينتحلون لذلك نصوصاً من وضع أحبارهم، ولكنهم يسندونها إلى الله، ويسوقونها في صورة تدليل من الله بجنسهم، ويجادلون الله فيها، كما يجادل الكفء الكفء، حتى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، والأحباء هم قرابة الملك أو المقربون منه. وقد مرَّت بهم في تاريخهم فترات ترتفع فيها يد الله عنهم، ويوكلون إلى أنفسهم، فيضيع تدبيرهم، ويتكشفون عن جهل بتدبير البيوت، فضلاً عن تدبير الممالك والدول، وينتاهبهم الأقوياء من الفرس والرومان، فيبيدون خضراءهم، ويستبيحون حرماتهم، ويتقاسمهم السيف والتشريد والسبي، فلا يذهبون في ذلك إلى تعليله بعلله المعقولة، ولا يرجعون فيه إلى موازين صحيحة من أحوال الأمم، ولا يفقهون أن سنن الله تنالهم، كما تنال غيرهم، وإنما يقولون: ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. كلمة يقولونها كلما أحاطت بهم خطيآتهم، والتحمتهم الأمم، وذاقوا عواقب الأنانية، والكيد، والاغترار، واحتقار الأمم، وعدم الاعتبار للسنن الإلهية، ولاعتبارهم الملك وعزة الحياة استحقاقاً إلهيًّا، لا نتيجة للجهاد والقراع.

لم يشهد لهم التاريخ موقف دفاع عن حوزة، ولا سجَّل لهم صفحة واحدة في حماية حمى، أو ذود عن حرمة وطن حازوه في ظل النبوة، ذلك أنَّ اليهود لا وطن لهم، ولا وطنية في طباعهم بمعناها المعروف عند الأمم، فادعاءهم للوطن القومي تدجيل وتضليل، وإنما الوطن القومي حلم دعا إليه منهم المهووسون، جرياً وراء أخيلة من الماضي العريق، من غير تبصر في طبائع الأشياء، وأَلْهية ابتكروها لهم؛ ليسلوهم بها عن المصائب التي جرَّتها عليهم أنانيتهم، وشيء زيَّنته لهم التطورات المتلاحقة في العالم، والداعي الأصيل إلى ذلك في نفوسهم هو حب المال؛ إذ كل شيء عند هؤلاء القوم- ما عدا المال- هو وسيلة لا مقصد في الفلسفة اليهودية، وقد كذبوا وعد الله لهم على لسان موسى من أن الأرض المقدسة كتبها الله لهم، وكتب لهم فيها التمكين إذا أخذوا بأسبابه، وأهمها القتال، وهم لا يحبون القتال؛ لأنه يؤدي إلى القتل، وهم أحرص الناس على الحياة.

ولو أن أمة غير الأمة الإسرائيلية كانت سليمة الفطرة، وكانت سليمة النفوذ من آثار الاستعمار الفرعوني الطويل، سمعت من نبي كموسى عُشر ما سمعه بنو إسرائيل من موسى؛ من وعد الله إياهم بالملك والتمكين، إذا أخذوا بأبسط الأسباب لذلك- لأقبلوا على الموت مستبشرين، ولكن بني إسرائيل كذَّبوا وعد الله، ولم تفدهم مواعظ موسى في تلك القلوب الغلف، وفي تلك النفوس التي قتل الذل منها كلَّ عرق يخفق بالعزة، وما هو إلا أن جاوزوا البحر، وأهلك الله عدوهم وهم ينظرون، حتى حنُّوا إلى ما كانوا عليه من ذلٍّ، واستعباد، ووثنية، هي من آثار الذلِّ، والاستعباد الطويل، فأغواهم السامري، واتخذوا عجلاً من ذهب وعكفوا عليه وقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88]، وقالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وإنك لا ترى في تاريخ الأمم النفسي أخلاقاً أفسدها الاستعباد، ولم ينجح فيها علاج الأنبياء ولا معجزاتهم، وهم أطباء الأرواح المريضة، كما ترى في أخلاق هذه الأمة المتبجحة باصطفاء الله لها دون الأمم.

سقنا هذه الكلمة القصيرة المجردة من التنسيق التاريخي لنرى أن هذه الأمة ليست أمة ملك في تاريخها الطويل، وأنها لا تملك وسائله التي يملكها غيرها، فإذا قام لها ملك، ففي ظل النبوة والخوارق، وهي وسائل غير كسبية، وإذا تقلص عليها ذلك الظل، تداعت عليها الأمم، وأوسعتها قتلاً وسبياً وتحيفاً، ولم يزل هذا دأبهم إلى أن جاء الإسلام.

جاء الإسلام، وكان من مقاصده الأولى بناء المملكة الإسلامية على صخرة السنن الإلهية، والأسباب والمسببات، لا على الخوارق، وكان من مقاصده نشر هدايته وفضائله في أرض النبوات الأولى، بعد تطهيرها من الجبروت الروماني، ومن الاستخذاء اليهودي، وإنا لنتلمح في قصة الإسراء والمعراج - وهما من صنع الله – ثم من اتجاهات نبي الإسلام وتوجيهاته- ما يشعر بأن فتح الإسلام لمواطن الأنبياء ومدافنهم كان هو المقصد الأول للإسلام، وكأن خروج النبي بنفسه إلى تبوك من طريق الشام رمز إلى ذلك، وإيحاء به، وإنذار للرومان، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش مؤتة لقتال الروم، ومن يواليهم من العرب والأنباط في مشارف الشام- أنه خطوة ثانية، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش أسامة، وهو في مرض موته- تأييداً لتلك المرحلة، وكلها إنذارات للروم حققها ما بعدها.

تم فتح المسلمين لفلسطين في أيام عمر، وإن هذا الفتح كسائر الفتوحات الإسلامية يحمل الهدى والسلام، ويفتح الأذهان قبل البلدان، وكان ينطوي على معنى الثأر لموسى ودينه وقومه اليهود لو كانوا يعقلون، فقد قطع دابر الرومان ودولتهم من فلسطين، وطهرها من ظلمهم، واستعبادهم لليهود، فلم يروا ناصراً قويًّا مثلما رأوا في الإسلام، لو كانوا يقدرون النعمة ويشكرونها، وبفتح المسلمين لفلسطين، وفيها بيت المقدس، رجع إرث النبوة إلى النبوة، واجتمعت مساجد الإسلام الثلاثة في يد واحدة قوية، قادرة على حمايتها، وعادت القبلة الأولى إلى الوجوه التي كانت تستقبلها، وإلى النفوس المطمئنة لعبادة الله وحده فيها، وإلى الأيدي القادرة على حملها، وإلى أبناء العم، لو كان اليهود يرعون للأرحام حرمة، وفي فتح أصحاب محمد لبيت المقدس تتجلى الفروق بين الطبيعتين العربية واليهودية، وشتان ما بين من يبذل مهجته في سبيل الله، وتثبيت دينه الحق في الأرض، وبين من يكذب وعده، ويشترط على رسوله، ويتألَّى عليه أن يؤتيه الملك والعز، وهو نائم ناعم، ويستعلي على خلقه.

قضية فلسطين في جوهرها، وحقيقتها، واعتبارها التاريخي- قضية إسلامية، من حيث إن فيها المسجد الأقصى، ثالث المساجد المقدسة في حكم الإسلام، وهو أول قبلة صلَّى إليها المسلمون قبل الكعبة، ولئن نسخ هذا المعنى فإن الخصائص الأخرى من الاحترام الديني، وشد الرحال إليه لم تُنسخ، وإن المتوسمين في آيات الله، المستخرجين لدقائق الحكم منها، يتلمحون من الأسرار في اختيارها قبلة أولى، وفي كونها كانت نهاية للإسراء، وبداية للعروج- ما يضعها في موضع من الاحترام، يوجب الدفاع عن مشاعرها، ودفع كلِّ معتد على حرماتها أن تدنس بوثنية، وتطهيرها من كل من يريد بها شرًّا، أو يريد فيها بإلحاد، وأنها ميراث النبوة، وضعه الله في أيدٍ قادرة على حمايتها، وقد دافعت عنها بالفعل، وأقامت البرهان على اضطلاعها بحمايتها، مدة أربعة عشر قرناً كاملة، وحاربت عليها أمم الأرض، وما سلبها الله من اليهود، وأورثها المسلمين إلا لأن اليهود كانوا أعجز الناس عن حمايتها.

ومن حيث إن فيها الصخرة التي هل أول محطة لاتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي كان سبباً فيما فاض على الأرض من بركات السماء، ولو شاء الله لكان المعراج بعبده محمد من مكة التي هي موطنه، ولكن كانت له في هذه الرحلة الأرضية حِكم، ولنا فيها عبر، فقد كانت رمزاً إلى أنَّ ملك الإسلام سيتسع حتى يبلغ في مرحلته الأولى ممالك النبوة قبله، ومواطنهم، ومواطئ أقدامهم، ومدافنهم، وسينشر فيها هدايته، وسيبسط عليها حمايته، وكذلك وقع، ومواريث النبوة لا يستحقها إلا الأنبياء، والمضطلعون بها من أممهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (زويت لي من الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها).

من التزوير على التاريخ أن يقال: إن اليهود احتلوا فلسطين بالقوة العسكرية، كما يحتل القوي الغالب أرض عدوه الضعيف المغلوب. إلا أن كلمة الحق التي يقف الواقع بجنبها شاهداً لا يكذب- هي أن ملوك العرب وزعماءهم، المتحكمين في مصائرهم، المنفذين لإرادة المستعمر- هم الذي سلَّموا فلسطين لليهود، سائغة هنية، وحققوا للإنجليز غايتهم، وما شرطه اليهود عليهم؛ من تسلم فلسطين فارغة من العرب، كما تُسلَّم الدار المبيعة فارغة من الساكن، فاصطنعوا لذلك التسليم المقرر وسائل وأعذاراً؛ من التخاذل والمشاكسات بين القادة العسكريين، حتى تمَّ الأمر بذلك التسليم المهين، وكلُّ ذلك تمَّ وفق خطة مدبرة، متصلة الحلقات من الإنجليز وأعوانهم منا، في مقابلة نفع مادي شخصي زائل، ومناصب مضمونة، لعدة رجال من العبيد، باعوا قومهم بتلك الوظائف، وما زلنا نراهم رأي العين يتقلبون في تلك الوظائف الذليلة، وينفذون أغراض الاستعمار، ويدافعون عنها، وقد حنَّ لهم الدهر، فنالوا ما نالوا. فيا ويحهم أن عقَّهم الدهر وصحا من تلك اللوثة، وما صحوُه منها ببعيد، وما مصرع فاروق وعبد الله ببعيد من الذين باعوا فلسطين بالثمن الزهيد، ومهما تكن تلك الوظائف مضمونة من الإنجليز، فإن وراءها الموت والعار والسبة الخالدة، ووراءها هبة الشعود وثورات المكبوتين.

أما الصهيونية فهي قديمة ولقد كانت مرحلتها الأولى نسيجاً من أحلام وخيالات وأماني، ولكن كثرة ملابسات القائمين بها للدول الاستعمارية نقلتها من طور إلى طور، حين وجد كل من الاستعمار الأوروبي والصهيونية في صاحبه عوناً ومساعداً على أغراضه، ولم تزل المصالح المادية تقرب بينهما حتى اجتمعا في بعض النقط، فتعاهدا على تقارض العون والمساعدة إلى نهاية الشوط، وصاحب ذلك ضعف الشعوب العربية وإحباطها وجهلها، فكان ذلك كله معيناً على تنمية الفكرة، وجاءت الحرب العالمية الأولى والعرب على تلك الحالة، فاتفقت دول الاستعمار على تشتيت العرب، وتمزيق أوطانهم، واستغلال الكنوز التي يجهلونها في أرضهم وأهمها البترول، ولما كان نظر الاستعمار بعيداً، وعلم أن انتصاره في تلك الحرب يضمن له تشتيت العرب، وتمزيق بلادهم، ولكنه لا يضمن له بقاءهم على تلك الحالة طويلاً، فرأى أن يرميهم بالداهية الدهياء وهي تحقيق الوطن القومي لليهود.


المصدر:
(آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي), دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م. ((4/393)).

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.