دعوة ابن باديس للثورة
بقلم: د. علي الصلابي-
كانت نفسية ابن باديس وأشواقه الروحية تواقة إلى التضحية في سبيل تحرير شعبه وبلاده من المحتل الغازي بالنفس والروح، ويذكر الأستاذ إبراهيم الكتاني، أنه كان في خريف سنة 1937م في تلمسان بمناسبة تدشين مدرسة دار الحديث بها، وقد رافق الإمامُ ابن باديس الوفدَ إلى حيث أطلال مسجد المنصورة، حيث حرر نداء يدعو فيه الأمة الجزائرية للصيام وملازمة المساجد، بمناسبة ذكرى مرور مائة سنة على احتلال قسنطينة، ولما قرأه على الوفد جعل أحد تلامذته يثبط عزيمته ويحذره مغبة نشره، فغضب ابن باديس وقال: يا أبنائي، إنكم تعلمون أني لم أطلب أي شيء لنفسي، ولكني اليوم أطلب لنفسي شيئاً واحداً، وهو أن تسمحوا لي أن أكون أول ضحية في سبيل الجزائر عندما يحين الوقت للتضحية في سبيلها.
ثم التفت إلى الأستاذ إبراهيم الكتاني، قائلاً له: هنيئاً لكم أنكم تجدون في المغرب السبيل للتضحية في سبيل بلادكم، أما نحن في الجزائر فإننا نتحرق على التضحية في سبيلها، ولا نجد للتضحية سبيلاً. ولم يكن يتحرج ـ أبداً ـ من الإفصاح بالهدف الاستراتيجي البعيد من وراء حركته الجهادية لتلاميذه، عندما يسألونه طالبين منه الإعلان بالثورة والمطالبة بالاستقلال، فيذكر محمد خير الدين: أنه ذات يوم من عام 1933م، التف نفر من الشباب المتحمس حول الإمام ابن باديس بنادي الترقي ، وطلبوا منه أن يرفع صوته قوياً مدوياً عالياً، مطالباً باستقلال الجزائر وحريتها، فقال لهم: وهل رأيتم أيها الأبناء إنساناً يقيم سقفاً دون أن يشيد الجدران؟ فقالوا: كلا ولا يمكن هكذا. فقال لهم: إن من أراد أن يبني داره ؛ فعليه أن يبني الأسس ويقيم الجدران أولاً، ثم يشيد السقف على تلك الجدران، ومن أراد أن يبني شعباً ويقيم أمة ؛ فإنه يبدأ من الأساس لا من السقف. وهذا الكلام نفسه الذي أجاب به تلاميذه، قاله لمصالي الحاج الذي كان يطالب بالاستقلال بنص: وهل يمكن لمن شرع في تشييد منزل، أن يتركه بدون سقف، وهل غايتنا من عملنا إلا تحقيق الاستقلال؟ وصرّح سنة 1940م في اجتماع خاص في بيته بمبنى جمعية التربية والتعليم الإسلامية مقسماً فقال: والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقونني على الثورة لأعلنتها، وحينما حمي وطيس الحرب العالمية الثانية اجتمع به جماعة من أنصار حركته فقال: عاهدوني، فلما أعطي له العهد بالمصافحة قال: إني سأعلن الثورة في فرنسا عندما تُشهر عليها إيطاليا الحرب. وذكر عنه أنه عندما كان يسأله تلاميذه: كيف يمكن تخليص الجزائر من قبضة الاستعمار؟ يشير إلى الجبال البعيدة قائلاً: هناك يكون الخلاص. كما يقول عنه أحد تلاميذه: كان يريد الخروج على فرنسا إلى جبال الأوراس ليعلنها ثورة على فرنسا لو وجد رجالاً يساعدونه. وامتنع عن إرسال برقية المساندة لفرنسا عند دخولها الحرب، قائلاً لأعضاء المجلس الإداري للجمعية: إنني لا أوافق على إرسال هذه البرقية أبداً، ولو قطعوا رأسي، وأشار بيده إلى عنقه، لأن ذلك يعتبر قبولاً مني بتجنيد أبناء هذه الأمة في الحرب، ويشرح للحاضرين الذين وافق معظمهم على سبب امتناعه: وكيف أوافق وألوان الاضطهاد ماتزال تنصبّ على الأمة وتنال من دينها ولغتها وقوميتها؟ وأنا لا أنتظر إلا إحدى الحسنيين: فإما حياة السعادة، وإما الفوز بالشهادة. ولكن عضواً من المجلس رد عليه قائلاً: إذا كنت تحب الذهاب إلى السجن.. فالناس لها أولاد. فيجيب الشيخ: إذا كان عندك أولاد، فأنا أعتبر أن أولاد الأمة كلهم أولادي. لقد رفض ابن باديس تأييد فرنسا في الحرب ؛ عندما ناشدت فرنسا فجأة عبد الحميد بن باديس ليؤيدها، نظراً لأن مكانته لا تنكر في شعبه ؛ فبالتأكيد سوف يساعد في المجهود الحربي في الحرب العالمية الثانية، فقال ابن باديس: لو أن الحاكم العام طلب مني أن أقول لا إله إلا الله لرفضت أن أقولها. كان الاستعمار الفرنسي يدرك آنذاك أن رجال الدين المتعاونين معه، لن يكون لكلمتهم التأثير المطلوب، لذلك توجه إلى العناصر القيادية في جمعية العلماء يطلب منهم أن يدعوا الشعب إلى التجند ضد النازية، فكان هناك من أجاب متملصاً: هذه حرب سياسية، ونحن علماء دين. فإذا كنتم تطلبون فتوى في هذا الموضوع فاطلبوها ممن تعتبرونهم سياسيين مثل الدكتور ابن جلول، وكان هناك من رجال جمعية العلماء من فضّل التعرض للنفي والتشريد، كالشيخ محمد البشير الإبراهيمي ؛ على أن يقول كلمة تأييد لفرنسا بمناسبة الحرب. هذا هو الظرف الزمني الذي قال فيه ابن باديس كلمته: والله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا الله ما قلتها. وكإجراء عملي أُوقفت البصائر عن الصدور بإرادة من مجلس الجمعية حتى لا تقع في حالة الطوارئ. وحتى لا تتعرض للضغوط والمساومات من قبل الإدارة الاستعمارية، لتمنحها الموافقة والتزكية في تجنيدها لآلاف الجزائريين ـ قهراً ـ ضمن قواتها، والذين كان ابن باديس يعلق عليهم اماله، عندما يحين الوقت لحمل السلاح في وجه المستعمر الغاصب. كما كان يعلق اماله على تلاميذه الذين يدرسهم والكبار الذين يزورهم ويعظمهم، فيلح على الجميع في دروسه ومحاضراته على الاستعداد المادي والمعنوي لمواجهة هذا العدوان في يوم ما.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)