مالك بن نبي والزَّعامة الصَّنمية

بقلم: ناصر حمدادوش -

يؤكد “مالك بن نبي” في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” في الفصل العاشر، تحت عنوان: (صراع الفكرة.. الوثن)، أن هناك إشكاليةً ثقافيةً خطيرةً في المجتمعات والأحزاب والحركات والجماعات والمذاهب، عندما يتم إنتاج الأفكار وبناء التصوُّرات وإصدار الأحكام وفق معايير تنحاز فيها العلاقة بين الفكرة والشخص إلى صالح هذا الأخير، وهو ما يشكِّل خللاً في التوازن الثقافي، يولِّد نوعًا من المغالاة والطغيان لصالح عالم الأشخاص على حساب عالم الأفكار، بشخصنة الفكرة، وجعلها مرتهنة للزَّعيم على حساب الرَّوابط القُدسية لعالم القيم.

ويرى أنَّ هذه الأسطورة المخادعة والمتطرِّفة تجسَّدت في القرن العشرين -مثلاً- في إيطاليا في شخص “موسوليني”، وفي ألمانيا في شخص “هتلر”، ويرى أنَّ العلاقة تكون خطيرةً عندما تنحدر أكثر إلى علاقة “الفكرة.. الوثن”، فهو يرى أنَّ القرآن الكريم أطلق تسمية الجاهلية على الوثنية، وليس على الجهل، إذ أنَّ العرب كانوا قبل الإسلام أهل ذوقٍ وفنٍّ وأدبٍ وثقافة، فلم تكن تلك الجاهلية فقيرةً في صناعة الأفكار، ولكنها ظلَّت تُسمَّى جاهلية، والسبب في ذلك أنَّ علاقاتها المقدسة لم تكن مع الأفكار بل كانت مع الأوثان (الأصنام)، فيؤكد أنَّ هذه الجدلية تحدِّد طبيعة العلاقة بين (الفكرة.. الشَّخص)، والتي تنقلب عند التطرُّف إلى علاقةٍ بين (الفكرة.. الوثن). وقد لاحظها كحالةٍ برزت في البيئة الإسلامية الجزائرية أيضًا، فيقول إنَّه بفضل تلك العلاقات المنجرفة نحو التطرُّف كان الشَّعب الجزائري يقيم القِباب على أضرحة مرابطيه وأوليائه لعدَّة قرون بعد الموحِّدين، يقول: “حتى عام 1925م فإنَّ الوثن كان يسيطر في ظلِّ الزَّوايا، حيث أرواحنا المتسكِّعة تذهب لالتماس البركات، واقتناء معجزات الحجاب”، ويعتقد أنه كلما اختفت الفكرة هَيْمن الوثنُ من جديد، إلى أن ظهرت الفكرة الإصلاحية، وهزَّت قِباب الأولياء القديمة، فتدحرجت تلك الأوثان، وانطفأت ذكرى تلك النُّذور الصَّاخبة، وبلغت العلاقة بين (الفكرة.. الشخص) لحظةً متألقة ومتميزة، وانتهت إلى غاية المؤتمر الإسلامي الجزائري بباريس سنة 1936م، ثم تساءل: هل كان انتصار الفكرة حاسمًا ونهائيًّا؟ يعتقد “بن نبي” أنَّ العلماء في عالمهم الثقافي ليس لهم سببٌ يجعل العلاقة عندهم بين (الفكرة.. الشخص) مختلَّة، وتتحوَّل من جديدٍ إلى علاقة (الفكرة.. الوثن)، عندما كانت لهم عُقدة النقص اتجاه المثقفين السياسيين، الذين يُعدُّونهم: حُماتهم، فلم تكن لهم حصانةٌ تحول دون الرجوع بقوَّة إلى (الوثن)، المتنكِّر هذه المرَّة في زيِّ (الزَّعيم)، صانع المعجزات السياسية.
إنَّ ما طرحه “مالك بن نبي” عن هذه الصَّنمية للقيادات السياسية، والتي انجرفت معها الفكرة إلى مستنقع الوثن تترجم إشكالية اعتلاء الشَّخصية النرجسية سُلَّم القيادة، وما هي الكوارث التي يمكن أن تتسبَّب فيها، على خلفية تلك الصفات التي تتشبَّع بها، والخطر الأكبر من خلال اختبائها وراء المقدَّس (النُّصوص الدينية)، الذي يزيد من حالة الغرور الشَّخصي، باحتكار الحقِّ واحتقار الخلق.

لقد تحدَّث “فرويد”منذ سنة 1914م عن أطروحته المعنونة بـ”مقدِّمة إلى مفهوم النرجسية”، أنَّ الشَّخص النرجسي يتميَّز بالغيرة من الآخرين، وبالعجرفة عليهم، وبفرْط الحساسية تجاه آرائهم، وعدم تقبُّله لها، بل والسُّخرية منها، فهو يعتقد بتفرُّده عن غيره، لأنه يمتلك شعورًا متضخِّمًا بأهمية ذاته، فيستحوذ عليه وَهْمُ النجاح والتألُّق، والمبالغة في الانشغال بإنجازاته، كما أنه يعتمد على غيره في الحصول على قيمته، بالرغم من اعتقاده بأنه شخصية أساسية وذو أهمية قصوى في حياة مَن حوله، فهو يرى أنه لا يقوى أحدٌ على الاستغناء عنه بزعمه، لأنه شخصيةٌ متمركزةٌ على ذاتها حدَّ الأنانية، ومُعجبةٌ بنفسها حدَّ التضخُّم، ومع أنه يُظهِر جرأته وقوَّته واستقراره إلا أنه يفتقر في جوهره إلى الاستقرار النَّفسي والسَّلام الداخلي، فهو في حالةِ قلقٍ مستمرٍّ وتوترٍ دائم، فينفعل لأبسط النقد الموجَّه إليه، ويرفض الرأي المخالف مهما كانت وَجَاهته.
ويرى العلماء بأنَّ “النرجسي” يشعر بالغُربة وعدم الانتماء في معظم الأوقات، فيسعى دائمًا إلى مطاردةِ ضحيةٍ جديدة، ليستمدَّ منها ثقته بنفسه واحترامه لذاته، ولذلك تسمَّى هذه الشخصية النرجسية “مصَّاصة عاطفية للدماء”، فهي تعيش أزمة التفاعلات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، لأنها تخوض العلاقات العاطفية بطريقةٍ عابرة، لأهدافٍ مختلفةٍ ومتناقضة، فهي لا تنسج هذه العلاقات من أجل الحب والتواصل والارتباط، بقدر ما تستغلّها من أجل تقدير ذاتها، والبحث عن إعجاب الآخرين بها، فهي تبحث عمَّن يملأ الفراغ بداخلها، ويكون متاحًا لتلبية حاجاتها، وإشباع رغباتها وفق مركَّب النقص لديها. وكثيرًا ما يتمُّ الإعجاب المفرط بالشَّخصية النرجسية في البداية، لإبرازها الجانب المشرق فيها، والنظر إليها كشخصيةٍ مثاليةٍ من بعيد، ولكن سرعان ما يتم اكتشاف حقيقتها عن قرب، فتقع الصدمة منها، والشُّعور بخيبة الأمل فيها، فتأخذ العلاقة معها مسارًا منحدرًا دائمًا.
وفي دراسةٍ لباحثين “ألمان” في قسم “علم النفس” لاختبار النرجسية المبالغ فيها، وجدوا أنَّ الشَّخصية النرجسية تسعى دائمًا إلى تضخيم الذات بطريقةٍ ثنائيةِ الأبعاد، فهي تنطوي على بُعد الإعجاب، بالرَّغبة الملحَّة في الثناء عليها، والتقييم الإيجابي الذي يجب أن تحظى به، وتنطوي على بُعد المنافسة، بحماية النفس من أيِّ انتقادٍ أو تقييمٍ سلبيٍّ لها، عن طريق إقصاء الآخرين والانتقاص منهم، ففي البُعد الأول (الإعجاب) يرى النرجسي نفسه عظيمًا، وخارقًا، ومميَّزًا، وفي البُعد الثاني (المنافسة) يسعى إلى رؤية غيره في حالة فشلٍ ذريع ومستمرّ، فهو عدوٌّ لأيِّ نجاحٍ من الآخرين، ثمَّ ينتهي به المطاف إلى بُعد النرجسية المظلم، وهو الميل إلى خلق المشكلات، وصناعة العداوات، وافتعال الخصومات، والادِّعاء بتعرُّضه للتجاوزات، حتى يصل إلى الرَّغبة الجامحة في السَّيطرة المطلقة والانتقام.

تزداد خطورة النرجسية عندما تقترن بموقع القيادة، وبالعمل السِّياسي تحديدًا، فتقع الإصابة بوباء النرجسية، إذْ تتوفر لها كلَّ الإمكانات والفضاءات التي تزيد في جنون العظمة، وتضخُّم الأنا، فيتحوَّل احترامُها للآخرين إلى الاستهزاء بالمخالفين، والتقليل من شأن المنافسين، وينقلب حبُّ الأصدقاء المقرَّبين إلى حالةٍ من التنمُّر والتخوين، وتجتمع لها السُّلطة بالعظمة فلا تؤمن بالإنصاف والمساواة، فتَهْوِي في ممارسات الكذب والتدليس.

ويرى النقادُ بأنَّ القيادة النرجسية تكون مدفوعةً بصفات الغطرسة والهيمنة والعدائية، وهي من أقبح الصِّفات القيادية، عندما لا تهتمُّ إلا بنفسها، ولا تتمركز أولوياتُها إلا على ذاتها، وتزداد حاجتها إلى الحصول على النفوذ والإعجاب بكلِّ أنانية، فالقائد النرجسي يمارس وظيفته القيادية بتعالٍ وفوقية، ولا يتردَّد في المبالغة بالاهتمام بنفسه والتمصلح من منصبه، بل ويرى نفسه شخصيةً قياديةً استثنائية، يعود الفضلُ إليها وحدها فيما يتمُّ إنجازه والوصول إليه، فتتعاظم الرَّغبة في الخلود في المنصب، ولو على حساب القيم والقوانين واللوائح، وإلاَّ فإنه ينقلب إلى وَحْشٍ مفترس، وبطريقةٍ هيستيريةٍ صادمة. ويرى المحلِّلون النفسانيون، بأنَّ من أهمِّ صفات القيادة النرجسية هي: حبُّ الذات وتضخُّمها، والحرص على الفوز بإعجاب الناس ومدحها، وأنها استغلاليةٌ، غيورةٌ وأنانية، ترى نفسها الأفضل على الإطلاق، كما أنها تفتقر إلى القيم العميقة، فتشعر بالملل الدائم، فتغيِّر مواقفها وخياراتها بمزاجيةٍ طاغية.

ويرى علماء النفس والسُّلوك، أنَّ “النرجسية” حالةٌ مرضية، فهي: اضطرابٌ في الشَّخصية منذ الصِّغر، إذ تتميَّز بالغرور والتعالي، والشعور المفرط بالأهمية والرِّبح ولو على حساب الآخرين، بل تصل إلى السَّادية، وذلك بالتلذُّذ بالإساءة إلى الآخرين، إذْ هي جزءٌ لا يتجزَّأ من رغبتها في تحسين مزاجها، فلا تنفكُّ عن الانتقام وتدمير مخالفيها.

إنَّ المصيبة تكون عظيمةً وخطيرةً عندما تكون هذه الشَّخصية نرجسيةً وقيادية ودينية، عندما تختبئ وراء المقدَّس، وهي النُّصوص الشرعية، فتكون لها القدرة الخارقة على التأصيل والتبرير، والتي تصل إلى احتكار الحقيقة الكاملة، وادِّعاء الحق المطلق، فتصل إلى إصدار الأحكام القيمية، وتوزيع التهم الجزافية، بالجرأة على ضمائر الآخرين، والخوض في سرائرهم، وهي -لعمري- من أشدِّ أنواع المهلكات، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: “ثلاث مهلكات: شُحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجابُ المرء بنفسه”.

المصيبة تكون عظيمةً وخطيرةً عندما تكون هذه الشَّخصية نرجسيةً وقيادية ودينية، عندما تختبئ وراء المقدَّس، وهي النُّصوص الشرعية، فتكون لها القدرة الخارقة على التأصيل والتبرير، والتي تصل إلى احتكار الحقيقة الكاملة، وادِّعاء الحق المطلق، فتصل إلى إصدار الأحكام القيمية، وتوزيع التهم الجزافية، بالجرأة على ضمائر الآخرين، والخوض في سرائرهم، وهي من أشدِّ أنواع المهلكات، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: “ثلاث مهلكات: شُحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجابُ المرء بنفسه”.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.