الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -2 –
بقلم: الشيخ عبد الحميد بن باديس-
تاريخ مشروعيتها، آية مشروعيتها، شيء من تفسير الآية.
الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أذكار الصلاة ولكنها لم تشرع يوم شرعت الصلاة بمكة بل كانت مشروعيتها بعد بضع سنوات من الهجرة، وذلك يوم نزلت آية الأمر بها من سورة الأحزاب وهي سورة مدنية، ففي الترمذي وغيره- عن كعب بن عجرة-: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ... الآية} قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة، فعلمهم حينئذ كيفيتها كما يأتي بيانه.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، هو آية الأمر بالصلاة على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب. فمن التأكد للأمر التوطئة له بجملتين: الجملة الإسمية المصدرة بحرف التأكيد، والجملة الفعلية الندائية، ومن أعظم الترغيب في امتثال هذا الأمر جعل امتثاله اقتداء بالله وملائكته.
وفي عطف الملائكة عليه تعالى تنبيه على ثمرة الامتثال والاقتداء، وهي نيل أشرف المنازل العليا، فإن الملائكة- عليهم السلام- بإمتثالهم أمر ربهم واقتدائهم به- جل اسمه- في الصلاة على أكرم خلقه- صلى الله عليه وآله وسلم- نالوا شرف اقتران اسمهم باسمه، وفي هذا ووراءه من الشرف والسعادة ما فيه.
وقوله- تعالى-: {يُصَلُّونَ}، على معناه اللغوي والأصلي وهو الدعاء، غير أن الملائكة يدعون ربهم له - صلى الله عليه وآله وسلم- والله تعالى يدعو نفسه، والمراد- وتذكر ما قدمنا- لازم ذلك وهو إنعامه الخاص الذي يرضاه لأكرم خلقه، وتقصر عقولنا عن الإحاطة به وقد عبر الناس عنه بعبارات نقلنا بعضها في القسم الأول.
وفي صيغة الفعل المضارع دليل على تجدد هذه الصلاة. فالملائكة- عليهم السلام- لا يفتؤون يصلون ويدعون، والله- تعالى- لا تنقطع انعاماته على النبي الكريم، وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- بتلك الإنعامات الربانية لا يزال أبدا مترقيا في درجات الكمال، ويؤيد هذا عموم قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. وفي هذا ترغيب للمؤمنين في مداومة الصلاة عليه حسب الجهد والطاقة في الصلاة وغيرها.
وقيل هنا {عَلَى النَّبِيِّ} ولم يقل على الرسول. وهو- صلى الله عليه وآله وسلم- نبي ورسول. ذلك لأن الرسول هو المبعوث لأداء الرسالة من الخالق إلى الخلق فالجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى التلقي والأخذ عن الذي أرسله، والنبي هو المخبر المبلغ للرسالة إلى الخلق من الخالق، والجانب الأول الأساسي لمعناه يرجع إلى معنى إعلام الخلق وإرشادهم وهدايتهم بما جاء به من عند خالقهم. فاختير اسم النبي هنا على اسم الرسول لوجهين.
الأول: التنبيه على أنه قام بأعباء الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الخلق ونفعهم فجازاه الله على هذا العمل العظيم بهذا الجزاء العظيم وكما كان هو- صلى الله عليه وآله وسلم- معلنا بتوحيد الله وتسبيحه وتقديسه وحمده أمام العالم بأسره، كذلك أعلن الله فضله ومكانته بصلاته عليه أمام جميع خلقه، وفي هذا تنييه للمؤمنن على عظم الجزاء عند عظم العمل، وعلى إعلائه- تعالى- شأن العاملين على إعلاء كلمته على قدر جهادهم في سبيله وإخلاصهم في ابتغاء مرضاته.
الثاني: أنه بذلك التبليغ قد جلب للمؤمنين أعظم النفع وأكمل الخير وهو سعادة الإيمان في العاجل والآجل. فمن بعض حقه عليهم أن يقوموا- لتعظيمه وتكريمه- بالصلاة عليه. فتكون صلاتم عليه- وهي سبب أجر عظيم ونفع كبير لهم- كالجزاء لعظيم إحسانه، والاعتراف بجزيل جميله.
فاسم {النَّبِيِّ} بهذين الوجهين، أنسب بالمقام، وأدخل في التأكيد والترغيب ولهذا اختير.
وقوله- تعالى-: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أمر ثان معطوف على الأمر الأول فيفيد النَّسق طلب الجمع بين مدلوليهما في الامتثال. ولذاكره العلماءُ إفراد الصلاة عن السلام.
وسلم: يأتي بمعنى الانقياد ويتعدى باللام، ومنه قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. ويأتي بمعنى قال له السلام عليكم ويتعدى بعلى ومنه قوله- تعالى-: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}، ومنه هنا {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي حيوه بتحية الإسلام. وقد ثبت عن الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم لما سألوه عن كيفية الصلاة، قالوا له السلام قد علمنا فبين لهم كيفيتها وقال لهم والسلام كما قد علمتم، وقد كان علمهم كيفية السلام في التشهد وهي: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته))، كما في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح. وبعد هذا لا يبقى وجه لتجويز حمل التسليم هنا على معنى الانقياد كما زعمه الجصاص وغيره، ويا لله من الجري وراء الاحتمالات، والغفلة عن التفسير النبوي الصحيح الثابت المأثور. وقوله تعالى: {تَسْلِيمًا}، مصدر مؤكد، والتأكيد بالصدر يكون لرفع احتمال المجاز كما في "قتلته قتلا" دفعا لتوهم المجاز عن الضرب الشديد، ويكون لتثبيت معنى الفعل من جهة الحدث ببيان أنه فرد كامل من نوعه لا نقص فيه كما في "أكرمت زيدا إكراماً" بمعنى أن الذي كان منك له هو إكرام لا شبهة فيه- والتأكيد هنا من هذا النوع- فإن المسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكمل سلامه إلا إذا طابق قلبه ولسانه وجرى على مقتضاهما عمله، فلم تكن منه للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا السلامة في دينه وكتابه وأمته، وهذا هو الذي يقال فيه أنه سلم تسليما.
ونظير هذا ما في الآية الأخرى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فيكون منهم الإنقياد التام لحكمه في الظاهر والباطن بلا أدنى شبهة في العقل ولا أدنى حزازة في القلب ولا أدنى توقف في العمل.
فقد أمرنا بالآيتين بالتسليم الكامل بمعنييه، ليكون هو الغاية التي نرمي إليها، ونسعى في تحصيلها، وحتى إذا أخطانا مرة أصبنا مرات وإذا انحرفنا رجعنا إلى الجادة من قريب ومن داوم على القصد أعين على الوصول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. ومن لازم التوبة أتحف بالقبول، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
وفي قول المربي الأكبر، عليه وآله الصلاة والسلام: «استقيموا ولن تحصوا»، وقوله «سددوا وقاربوا»، جماع السلوك الإسلامي كله إلى غايات الكمال، والله المستعان (1).
(1) الشهاب: ج 6، م 5، ص 1 - 5 غرة صفر 1348هـ - جويلية 1929م.