أجهزة سرية دمّرت عموده الفقري وشاحنات سرقت كتاباته بعد موته.. ماذا تعرف عن الأب الروحي لمالك بن نبي؟
بقلم: طاهر حليسي-
" في الجزائر لا يتوّهج المبدعون، بل يحترقون"
هكذا كتب الروائي الجزائري العالمي ياسمينا خضرا قبل أسابيع دون أن يدرك أن المثقف الفذ محمد حمودة بن ساعي كان التشخيص المثالي لتلك الجملة المقززة والمحبطة.
1- كاتب عمومي "غريب" بمقهى النادي.
في ركن منزو داخل مقهى النادي العريقة وسط مدينة باتنة، وطوال عقد الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، كان يجلس شيخ متوسط القامة، محدودب الظهر، بارز الملامح بعينين متقدتين، خلف آلة راقنة، يكتب شكاوى الناس بعربية قحة وفرنسية راقية، معتمراً بين الفينة طربوشاً أحمر ورثه من زمن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و"عرَّاقية" بيضاء تارة أخرى. كانت الدراهم البخسة التي يغنمها ذلك الكاتب العمومي غريب الأطوار، هي الزاد الوحيد والأخير كي لا يهلك جوعاً، قبل أن يقفل راجعاً لبيت شقيقته "عطرة" بحي "ديار لاكومين" قرب مجمع "الإيفوليتيف"، ليخرج عصراً نحو مقهى حي النصر قرب جامع الفرجيوي، ليجلس هناك منتظراً حصته من حليب البقر الطازج.
كثير من العامة كان يعتقد أن أحدب المدينة شبيه "كازيمودو" ذاك كان مجنوناً، أو معتوهاً، أما جلّاسه، وبينهم صاحب المقهى الذي دأب على انتظار قدومه بشغف، فيدركون أن صاحب ذلك العقل المتوهج في بدن شبه ميت، كان بحق "بئر المعارف" و"مكتبة متنقلة"، و"العراب" و"المعلّم"، الذي ألهم فيلسوف الحضارة مالك بن نبي في منهج تحليله البديع في استنباط الأفكار الاجتماعية من الآيات القرآنية، والتراث الإسلامي، لا بل إنه خصه باعتراف مثير، وإهداء تاريخي، في كتابه الفارق "الظاهرة القرآنية" حيث يقول: "إلى معلمي حمودة بن ساعي، الذي أريد أن أثبت هنا أن تحالف المصالح الوحشية والرداءة الطامحة، يسعيان معاً إلى إنكاره مثلما وقع للكثيرين".
2- بن ساعي وبن نبي: لقاء الجبابرة بالحي اللاتيني
عندما التقى حمودة بن ساعي طالب الفلسفة، مالك بن نبي دارس الهندسة الكهربائية، في الحي اللاتيني بباريس خلال فترة الدراسة مطلع عشرينيات القرن الماضي، سرعان ما ستُقدح شرارة تلاقح عظيم بينهما، شبيه بذلك التمازج الروحي الذي حدث قبل قرون بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي بقونية، لقد كان لحمودة طريقة بديعة في التحليل والعرض والاستنتاج تنطلق من ثقافة إسلامية تراثية اكتسبها من دراسته بالجامع الأخضر ومدرسة بن باديس التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقسنطينة، ثم تجاوز بكثير مدرسة العلماء التقليدية من خلال نهج إسلامي ديكارتي وعقلاني يقترب من التبشير بمدرسة فكرية جديدة هي "إسلام الأنوار"، وذاك ما عناه بن نبي باعترافه في كتاب مذكرات الطالب، بكونه وجد فيه عرّاباً لتفسير الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من القرآن والتراث الإسلامي، وهو المنهج الجديد الذي أسس عليه كامل مشروعه التأليفي الذي كرّسه خليفة لابن خلدون دون منازع، ونال به التلميذ سيطاً لم يتح لأستاذه الحقيقي. لقد سبق للطالب حمودة وأن خلب الألباب وسلب الأفكار في الفترة الممتدة بين 1920 و1940، بمحاضراته في نادي الترقي بالعاصمة وفي باريس، وهو يطرق أبواب مواضيع جديدة وبرؤية جديدة مثل "السياسة والقرآن" و"النبي والمرأة" و"نخبة شمال إفريقيا في مفترق الطرق"، لا بل إنه أبكى فرنسيين وفرنسيات لما ألقى محاضرته الموسومة "الشرق العربي ومصيره الكئيب". ورويداً رويداً بدأ الفتى مزدوج اللغة، الملتحق بجامعة السوربون، والمتوقد معرفة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، يكتب في مجلات وجرائد عدة على غرار: "الجمهورية الجزائرية" و"النجاح" و"الإقدام"، مراكماً قطاف عبارات الإعجاب من عظماء الفكر والأدب، إذ قال عنه أندري جيد الحائز على نوبل للآداب عام 1947: "زارني شاب مسلم، وأعترف أنه أذهلني بأفكاره"، أما رابح زناتي مدير جريدة صوت الأهالي فمدحه بعدما قرأ له مقالاً: "أيها الفتى إنك تتناول المشكلات بطريقة كاملة"، قبل أن يختم: "إن هذا الشاب يشبه ابن رشد"، أما سيد أحمد الميلي فانتفض ذات مرة مستبشراً: "إن المستقبل يهيئ لنا في شخص حمودة بن ساعي، رجل نخبة سيشرّف الفكر الإسلامي".
وفيما كان الحلم قريباً من صاحبه وهو يتسلم شهادة تقدير على يد الجنرال ديغول في محفل السوربون نيابة عن طلبة شمال إفريقيا وفرنسا، كانت عيون وحش الشر السرية تضع عبقري الزمن القادم تحت مجهر التشخيص والتحليل قبل المرور لمرحلة "التعقيم" و"التعطيل".
3- المستشرق ماسينيون يحطم مسار "ابن رشد الجديد"
في الواقع كانت السلطات الفرنسية أنشأت سنة 1925، جهازاً بوليسياً سرياً، يهدف لمراقبة الطلبة القادمين من الشرق عن كثب، منعا لانبعاث النزعات الوطنية، التي ظهرت خلال تلك الفترة كنجم شمال إفريقيا وحركة الأمير خالد، حفيد الأمير عبدالقادر، ولم يبطئ وأن التحق مالك بن نبي وحمودة بن ساعي بالحركة الفكرية الوطنية تحت سقف النضال السياسي، ضمن جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا، والتي ضمت نخبة الأقطار المغاربية، كالتونسيين، صالح بن يوسف، والهادي نويرة "رئيس حكومة " في عهد بورقيبة، والمغربي أحمد بلافريج وزير الخارجية في عهد محمد الخامس، والتي لعبت دوراً حيوياً في إعادة بعث نجم شمال إفريقيا الجديد عام 1932.
نتيجة ذلك النشاط الفكري والسياسي الوطني تحركت الماكينة السرية ضد الصديقين اللذين كانا يشكلان خطراً على الوضع الثقافي السائد، باختيارهما نزعة فكرية وسياسية مختلفة. بدأت الدواوين السرية للاستعمار، بالتضييق عليهما في سوق العمل، إذ باءت كل محاولتهما للعمل بالفشل، لا بل إن حمودة بن ساعي الذي عثر على وظيفة حقيرة كعامل في مصنع "هيسبانو سويزا" سيطرد منه بعد أيام من حضوره مداخلة للمستشرق الشهير لويس ماسينيون المشرف الشخصي على أطروحته الفلسفية، بجامعة السوربون، تلك الأطروحة "الضمير الأخلاقي عند أبي حامد الغزالي"، التي واجهتها عراقيل جمة ولم يكتب لها النور.
لقد ظل ماسينيون القريب من الأجهزة السرية والدوائر الفرنسية الغامضة يضع العصي في دواليب مسار حمودة، بسبب أن الطالب كان يدحض افتراءات أستاذه حول التراث الإسلامي حتى قيل: "عندما يتكلم بن ساعي يسكت ماسينيون"، ولم يتحمل الرجل المكلف بأدوار أخرى، أن يجادله تلميذه، فقرر الانتقام الناعم منه بطريقة شرسة، حتى عيل صبر بن ساعي، فكتب له رسالة نارية: "لقد جرّدتني من كل الأسلحة، وألحقت بي ضرراً يفوق "محارق" الاستعمار في جبال الظهرة".
4- أجهزة سرية لسعت عموده الفقري بالأشعة السينية في عيادة
لاحقاً سيكتب بن نبي عبارات هجائية ضد ماسينيون واصفاً إياه بـ"العنكبوت الذي يملك قدرة كبيرة على الإيذاء"، موقناً أن المستشرق المتخفي وراء أخلاق الأب شارل دي فوكو شيطان مكرس للأجهزة السرية بغرض تكسيرهما معاً، وسداً للطريق أمام تيار نوراني يختلف عن ذلك التيار التقليدي غير الواعي بواجبات النهضة السائدة آنذاك، وقد انتقد الثنائي جمعية العلماء إثر انخراطها في مسار سياسي مطالب بالحقوق من فرنسا بدل تلقين الشعب مسؤولية أداء الواجبات. يقول الصحفي علي بن بلقاسم الذي لازم بن ساعي لفترة طويلة بباتنة وأول من كتب عنه في مجلة الثورة الإفريقية خلال الثمانينيات: "كان ينظر إلى بن ساعي على أنه حامل لواء تجديد فكري عظيم يعتمد على نهضة ذاتية عقلانية غير أن الدوائر الاستعمارية تفطنت أنه خطر كبير على مشروعها الإمبراطوري، لذا تم تجريده من كل الأسلحة، ثم حينما أصيب ذات مرة بحمى طارئة نقل إلى عيادة وأُخضع عموده الفقري لاعتداء بالأشعة السينية، ولولا عميد مسجد باريس حمزة دليل بوبكر الذي سارع إلى إعادته للجزائر لكانت حياته مهددة بأشد الأخطار هولاً".
منذ تلك الفترة ستطرأ عليه تحولات سيكولوجية خطيرة ستحوله من عقل جبّار إلى نصف عاهة وإلى "إرادة واهية"، سيعاني من اعوجاج في الظهر، وسيغدو لقمة سائغة لأوهام "جنون المضايقة"، يلتفت يميناً وشمالاً كلما أراد أن يطرح فكرة، ينوي كشف معلومة قبل أن يتوقف متوجساً من مقربيه. لم يصدق العلامة البشير الإبراهيمي خلال زيارته لباتنة سنة الخمسين وهو يرى أن سكرتيره الخاص، صاحب الثقافة المزدوجة سيضمحل تحت نير البؤسين المادي والمعنوي، وقد رق لحاله مخاطباً إياه: "أنت رجل عالم يعوزك فن الشياطين" قبل أن ينصحه شبهَ باكٍ: "حمودة قلبك مليء بالوطنية الحقيقية، ووضعك التعيس يبكيني، فغادر هذا البلد المنحوس". لم يتعلم سليل الاستقامة الروحية والفكرية فنون الشياطين، ولا غادر البلد المنكوب خلال الاستعمار بل اختار إزاء تلك الألآم العظيمة الإيواء إلى محراب الصمت طوال ثلاثين عاماً.
5- هكذا جالسته في عز سنوات مجازر "سريبرينيتسا" بالبوسنة
في مطلع ثمانيات القرن الماضي ألف حمودة كتيباً صغيراً، عنوانه: "في سبيل عقيدتي"، كما كتب مقالات عدة حول الحركة الوطنية وإيزابيل إيبرهاردت، ومأساة البوسنة، بالموازاة مع ممارسة عمله ككاتب عمومي. حينما التقيته أول مرة عام 1992، في مقر جريدة الجمهور الأوراسي، خيل إليّ أنه رجل من عالم آخر تماماً، لطريقة حديثه الرائعة وأسلوبه البارع في طرح أفكاره، ذلك الأسلوب الذي أثار غيرة بعض أقطاب جمعية العلماء وبينهم الشيخ الطيب العقبي الذي شكك في قدراته مكرساً عقدة "احتقار الذات"، جالباً سخط بن نبي من تصرفه السيئ مع صديقه الفذ، غير أني رأيت أيضاً تلك الآثار النفسية العنيفة لرحلة العذاب التي قطعها، مجتمعة فيه حين كنت أجالسه بين الفينة والأخرى بمقهى حي النصر. حينما زرته ببيته في المجمع البلدي، تمنيت لو أني ما رأيته في تلك الحالة التعيسة من البؤس المقيم، رغم كرامته الكبيرة واعتزازه بانتمائه لقبيلة النمامشة العظيمة، إذ كان يردد في حالات الغضب العارم: "بشرفي لن أتوانى في قول الحقيقة لأي كان، فأنا نموشي صميم رأس ماله تلك الكلمة التي تخرج من فمه مثل طلقة بارود".
روّى لي في تلك الأثناء العاصفة بمآسي حرب البوسنة كيف أنه تسلل لمكتبة بومبيدو بحثاً عن كتاب ممنوع كان صدر في فرنسا خلال الثلاثينيات، ثم سُحب نهائياً من الأسواق عدا ثلاث نسخ، لم تظهر نسختان غير أن الثالثة ظلت حبيسة أدراج الرفوف الداخلية بعيداً عن "الإعارة"، فظل يخاتل ويغازل موظفة المكتبة حتى استسلمت للباقته مانحة إياه مزية الاطلاع على أسرار الكتاب الممنوع في غرفة قراءة مجاورة، وفي ظرف يومين كان قد قرأ التفاصيل المثيرة التي جعلته يقول لي: "لا فرق بين ما يحدث في البوسنة اليوم بما حدث بإسبانيا قبل قرون. كان الكتاب الذي قرأت "خلسة" يتحدث عن الحرب العالمية الأولى التي بدأت بحادثة اغتيال ارتكبها طالب صربي ضد ولي عهد النمسا وزوجته في سراييفو…".
تحدث عن حادث موت العقيد شابو في سقوط مروحية، عن المشروع التربوي المتعثر بالبلاد، وكتابة التاريخ، عن التطرف والنهضة، عن علاقته بمالك بن نبي، عن حكايات لا يسع المجال للتفصيل فيها الآن. كان ينوي بعث مؤلفات، أوجزها الصحفي علي بن بلقاسم الرجل الذي لازمه عن قرب لسنوات طويلة: "حدثني عن إصدار مؤلفات شرع فيها منذ زمن طويل، منها مخطوطات "في سبيل الثقافة" و"في سبيل الجزائر" و"مذكرات رجل عانى كثيراً"، لكن لم يظهر لها أثر".
6- شاحنات معلومة أخذت محفوظاته لوجهة مجهولة
لم يعرف عامة الناس حمودة سوى في آخر أيامه، وقبل أسابيع من وفاته كان المثقف اللامع فضيل بومالة صاحب البرنامج الفكري "الجليس"، وهو البرنامج الشهير بالتلفزيون الجزائري يصوره على فراش موته ليقدمه للناس قبل رحيله النهائي سنة 1998، بتدخل من الدكتور عبد الحميد خزار مدير مجلة الرواسي في باتنة.
منذ تلك اللحظة سيتهم كثير من المتتبعين السيد فضيل بومالة بالاستيلاء على تلك المخطوطات، والتماطل في نشرها، غير أن فضيل بومالة أكد للدبلوماسي نور الدين خندودي الذي يعد الوحيد الذي كتب عن حمودة مؤلفاً بعنوان "محمد حمودة بن ساعي: المصير البائس لمثقف جزائري"، بأنه "لم يأخذ شيئاً ولم يصله شيء".
في واقع الأمر قامت شاحنات تابعة لهيئة سكنية عمومية بباتنة بنقل مكتبة الرجل ومحفوظاته دون أن يعرف أحد الوجهة التي سلكتها ولا مستودعها النهائي والأخير.
رحل بن ساعي دون أن يحصل على سكن، ودون أن يتزوج، أو يترك ذرية، ودون أن يحفل أحد بمحفوظاته الضائعة. واجه أمرين قاسيين: تجاهل السلطات له، وجهل المواطنين به. كان بحق "شهيد" القرن الذي قابل في مأساته العظيمة "شاهد" القرن مالك بن نبي.
ومعه حق ياسمينا خضرا:
"في الجزائر لا يتوهج المبدعون بل يحترقون".