آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائرية ونتيجته للدّعوة الاصلاحيّة
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
أما والله لو استقبل الكائدون لجمعية العلماء من أمرهم ما استدبروا لما فعلوا فعلتهم الأخيرة ولتابوا التوبة النصوح من هذه المحاولات الفاشلة التي ما جرت لهم إلا الخزي والخيبة.
ولو كان لخصوم هذه الجمعية بقية من إدراك لكان في تجاربهم المتكررة ما يَزَعُهُم عن الكيد لها والمكر بها، ويلزمهم بالإقلاع عن حربها وتغيير الرأي فيها وتخلية الطريق لها، ولكنهم قوم أكل الحقد قلوبهم وغطّى الهوى على بصائرهم، فكلما خابوا في مكيدة جاوز بهم الهوى موطن الاتعاظ بها وحرّكهم إلى سعي ضائع في أختها أو في أكبر منها.
هم يريدون بما يمكرون شيئًا واحدًا ويرمون بما يكيدون إلى هدف واحد، وهو القضاء على جمعية العلماء بهذه المكائد التي يستفرغون فيها الوسع ويحكمون لها التدبير ويجمعون عليها الرأي بعد أن بذلوا أضعاف ذلك في صدّ الناس عنها وتنفيرهم منها فلم يفلحوا. وقد كانوا في هذه المرة أقوى ما كانوا أملًا في النجاح، وتوهّموا أن الظروف خدمتهم بتمهيد أسباب المكيدة وتهيئة الجو الصالح لها، فجاءتهم الخيبة من مبعث الأمل، وكانت صدمة الفشل عنيفة ومرارته لا تطاق، وأراد ربّك الحق أن تبقى هذه الجمعية شجى في حلوقهم، وان يكون من أسباب بقائها وتثبيتها ما تريده هي من بناء وما يراد بها من هدم، وأن يكون من دلائل حيويتها أن يرجع المناضلون لها في ميدان العلم بالرأي المحجوج، وأن يرجع المنازلون لها في ميدان العمل بالرأس المشجوج، وهذا شأن الحق والباطل مهما اصطرعا فلا تكون قوة الباطل إلا مزيدًا في قوة الحق.
لسنا نجهل هذا من سنن الله فلم نشك لحظة منذ وضعنا قدمنا في طريق الإصلاح الديني ورفعنا الصوت بالدعوة إليه في أن الله سيديل للحق من الباطل، وأنه يبتلي أولياءه بالأذى والمحنة ليمحصهم ويكمل إعدادهم للعظائم. ولم نزل على يقين تتجدّد شواهده ان في المصائب التي تصيبنا في سبيل الإصلاح شحذًا لهممنا وإرهافًا لعزائمنا، وتثبيتًا لأقدامنا، وإلفاتًا للغافلين عنّا إلى موقعنا من الأمة وموقفنا من أعدائها، وقد ألفنا هذه المكائد التي تنصب لنا حتى ما نبالي بها وأصبح حظنا من "الكشف" أن نعلم من أوائلها أواخرها، ومن مقدّماتها نتائجها ... واننا لنبتهج بالمصيبة تصيبنا في سبيل الإصلاح أضعاف ما يبتهج غيرنا بالطيبات والمسار، ونعد كبيرها- مهما أعضل وآذى- صغيرًا هينًا، وخفيها- مهما أفظع وبغت- ظاهرًا جليًا، ونأسى لإغبابها عنا كما يأسى الممحل للجدب، ونرتقب إلمامها بساحتنا كما يرتقب غيرنا النعم والخيرات، لعلمنا ان المعاني التي تتركها في نفوسنا هي المعاني التي نصبو إليها، وأن تمرسنا بها باب من أبواب الرجولة وسبيل من سبلها.
ولقد كانت كبرى المكائد التي دبّرت للجمعية في تاريخ حياتها- المكيدة التي اغتالت الشيخ كحولا واعتقلت الأستاذ العقبي ولوّحت إلى اثنين كان أحدهما- بعد أن طاش السهم واختلّ الحساب- عباس التركي محمد وعلي، فقد اختار القائمون عليها من شخوص الجن أصلح الأوقات لإثارة الفتن، وأمتن الأسباب لتحريك الاحن. وساندهم فيها الرامح والناشب من حملة الأقلام ليمدّوا الحمأة بالماء ويمدّوا النار بالوقود، ولكن هل كانت العاقبة بعد ذلك الحشد كله لنا أو لهم؟ وهل كانت النتيجة في مصلحتنا أو في مصلحتهم؟
ينقسم خصوم الإصلاح- بعد اجتماعهم في أصل الموضوع- إلى فريقين: أقوياء وضعفاء. فالأقوياء يقومون بالدسّ وتبييت السوء لرجال الجمعية، والضعفاء يقومون بالتشهير وإشاعة قالة السوء عنها والشماتة المؤلثة بها، وكثيرًا ما تستمدّ أعمال هؤلاء من أقوال هؤلاء، وتجد ألسنة الضعفاء مادة للغزل والحوك من أعمال الأقوياء فتتطاول وتجتري، وتكذب وتفتري، وإذا لم تغض العقول من أعنة الألسنة لم تقف في الاستهتار عند حد.
وأصحابنا لا عقول لهم وإنما هم أتباع أهواء وأبواق فتنة.
وفي هذه الحادثة الأخيرة أمعن فريق الضعفاء في الشماتة إلى حد أنهم أقاموا الزينات وتبادلوا التهنئات ورجعوا من شعيرة "التزربد"(1) إلى طبع أصيل، وذهبوا في تأويل الرأي المبهم لعكاشة في "الاثنين" مذاهب شتى، وود كل واحد منهم- بدخول الحبس- لو كان من عكاشة مكان الملقن ... حتى يرفع عنه الحيرة والإشكال في هذين الاثنين، ولو أعطوا ما تمنوا لرأينا منهم لأول مرة في حياتهم اتفاقًا يغبطون عليه في تعيين الاثنين وتبيين الاسمين ... وإذا كان الأقوياء يقادون بالهوى فما الظن بالضعفاء؟
إن خصومنا الضعفاء جهال بمعاني الحياة وأسبابها، جبناء في مواقفها، أذلة مع كل من ينازعهم حبلها، وهم لذلك كله لا يدركون معنى من معاني الشرف والرجولة وهم- لمهانتهم- يفهمون من أسباب العلو أسباب المهانة ولا يفهمون من أسباب "الحبس" إلا ما هم أهله من التزوير والإفلاس، وكل أموال الناس، وإلّا ما يرتبط بنفوسهم الوضيعة من نتائجه كالاحتقار وازدراء العيون.
أما الأسباب الشريفة والمعاني الشريفة، والنتائج الشريفة، فهيهات أن تخطر لهم ببال.
أما خصومنا الأقوياء فهم أول من يعلم أن دخول السجن شرف ما بعده شرف إذا كان في سبيل الحفاظ للدين أو الخدمة للوطن أو الإسعاد للأئة أو غير ذلك من الشؤون العامة التي يكبرها الناس ويفيضون عليها الاحترام والتقديس، وان الحبس لهذه الأسباب بقدر ما يضيق على صاحبه أيامًا معدودات يوسع له في آفاق الشهرة والخلود.
لذلك نراهم يضنون به علينا ويبتعدون بنا عن طريقه، مع أنهم يملكون أسبابه ووسائله ما داموا يملكون الظلم والاستبداد والكذب "ومن أوتي الكذب فقد أوتي الأسلحة كلها"، ولكنهم لم يتورّعوا- ولن يتورّعوا- عن إدخالنا للسجن باسم الإجرام. إذا لم يذكروا ان حبل الكذب قصير وان المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وان غير المجرم بالطبع لا يكون مجرمًا بالصناعة، وان الحيلة تفلح في كل شيء إلا في تبديل طبائع الموجودات الحقيقية، وان الاعتماد على مجرم بالطبع- في تلويث بريء بالطبع- إجرام لا يغتفر، وان إكراه الأسباب على أن تؤتي غير نتائجها الطبيعية يوشك أن يفضح صاحبه فلا تجري الأسباب إلا على سننها ولا تؤتي إلا نتائجها.
ومن العجيب أن خصومنا الأقوياء الأذكياء لم يذكروا كل هذا حينما أقدموا على فعلتهم وأتوا بها شنعاء على الأيام. فأنتجت لهم هذه الحادثة ضد ما أملوا وأتتهم بعكس ما أرادوا. وقد أملى عليهم الحقد أن ينتقموا من هذه الأمة، فانتقمت منهم الأمة، وظنّوها غريرة كما عهدوها تنقاد للكائد، وتنخدع للصائد، فكشف لهم الغيب ما لم يعهدوا ولم يتعوّدوا.
أرادوا أن يثيروها على السلطة أو على نفسها فلم يفلحوا، وأرادوا أن يشوّهوا سمعة جمعية العلماء بينها فلم ينجحوا، وأرادوا أن يشتتوا شمل هذه الجمعية وشمل أنصارها، فما زادت على الشدة إلا التحامًا والتئامًا، وأرادوا أن يحطوا من قدر الأستاذ العقبي وينقصوا من سمعته فزادوه علوًا وسموًا.
كل ذلك أرادوا، وفيه فكّروا وقدروا، وعليه أداروا المكيدة من أولها، ولكن الله اللطيف أراد غير ما يريدون فحلّ ما عقدوا وأطفأ ما أوقدوا، وكانت النتيجة ما تقرأه بيانًا لعنوان المقال.
كان من آثار الحادثة برمّتها في الأمة الجزائرية أن علّمتها كيف تصبر في الشدائد، وكيف تقضي على كيد الكائدين بالصمت والسكينة، وعلّمتها أن أعداءها لا يقفون في مضارتها عند حد، وعلّمتها أن لا تعتمد في النهوض على من لا يرضى لها أن تنهض وأن لا تستند في حياتها إلى من لا يقنع منها إلّا بالموت وأن لا تسأل البقاء ممن يسعى في افنائها، وأوقفتها على نوع من الأسلحة التي يحاربها بها أعداؤها وأرتها كيف يستعمل هذا السلاح فلم تعد تأبه له ولا للمتسلّح به، وكشف لها هذا الدرس البليغ عن جانب خفي طالما تعب الناصحون في بيانه، وهو ان هذه الأمة تشارك في مضاربة بلا ربح، وتقاد في ليل بلا صبح، وتضطرب بين أهواء متعاصية عن الكبح، وانها تحيا في القرن العشرين بمؤثرات القرون الوسطى، وتُساس في عصر العلم والنور بصور من سياسة عصور الجاهلية المظلمة، وانها تقات بالتضليل والتخذيل والتجهيل والتعليل، فإذا استبانت منهجًا أو حنت إلى ألفة أو صبت إلى علم أو طلبت حقيقة، ردّت إلى عتمة الليل بعنف ولكنه قانوني، وظلم ولكنه عدلي، واستبداد ولكنه شوروي، وكيد ولكنه نظامي ...
كل هذا فهمته الأمة وفهمت معه أن لا ثقة إلا بالله ثم بالحق الذي جعله نظامًا للوجود، وأن لا اعتماد إلا على الله ثم على نفسها، وأن لا خوف إلا من الله ثم مما اجترحت الأيدي.
وهذا ما أملاه هذا الدرس البليغ على الأمة، فكان لها عبرة وذكرى وكل ذلك ببركة هذه الحادثة فما أبرك هذه الحادثة على الأمة ...
وكان من آثار اعتقال الأستاذ العقبي، بموضعه من جمعية العلماء ومكانته فيها، أن جمع عليها القلوب ولفت إليها الأنظار وأسمى مكانتها في النفوس أضعافًا مضاعفة، وزاد نفوذها انتشارًا ومبادئها رسوخًا في جميع الأوساط، وتحقق لجميع الطبقات في الأمة أن هذه الجمعية قامت على أساس من الحق، وعملت للحق، وأوذيت في سبيل الله والحق، وأن قيامها بالحق هو الذي ألّب عليها الأعداء، وجلب لها الأذى والبلاء، وان هذه الحادثة المدهشة نتيجة حقد متأصّل عليها ويأس مرير من القضاء عليها بغير هذا النوع من الكيد، وان سمو مبدئها ونبل غايتها هما السبب الأكبر في نصب العراقيل لها، وبث الأشراك من حولها، وانها لو لم تكن على الحق لصافاها المبطلون ومادوها حبل الولاء، وانها- وقد ظلمت في هذه الحادثة ظلمًا بيّنًا مكشوفا عرفه حتى البله- مظلومة في كل ما مرّ من أدوار تاريخها، وان رجالها لا يعملون
لذواتهم وإنما يعملون للغتهم ودينهم ومصلحة أمّتهم، وان من يحتسب في سبيل الإسلام والعربية حتى دخول السجن لحقيق بأن تمتلئ القلوب المتعلقة بالإسلام والعربية بلجلاله وتعظيمه وتهبُّ النفوس المتشبّعة بالإسلام والعربية لنصرته وتأييده وكذلك كان.
وقد كان الناس في القطر الجزائري قبل هذه الحادثة في جنب جمعية العلماء فرقًا منهم المنتصر الغالي ومنهم المحب المقتصد، ومنهم القُعْدي المذبذب ومنهم المبغض المسرف، وكل ذلك مبني على تفاوتهم في إدراك حقيقتها وتفهّم مقاصدها، فجاءت هذه الحادثة فكانت سببًا في تلاقي أطراف هذه الفرق وإجماعهم على محبّتها والاقتناع بحقيقة مبادئها. وان كثيرًا من الغالين في بغضها والتشنيع عليها ليقولون: نشهد إنها لمظلومة، وتراهم أكثر ميلًا إليها وعطفًا عليها وإكبارًا لرجالها مما كانوا عليه من قبل.
ولقد قال لي قائل ذكي ما معناه: ان محاكاة القدر لا تكون قدرًا من جميع جهاتها، فلأمرٍ ما كان القتيل كحولا ولم يكن رجلًا سياسيًا، ولأمرٍ ما كان المتهم العقبي ولم يكن رجلًا آخر، انهم يقولون انهما رجلا دين، ولكن الدين لا يقتل الدين (ونطق بهما بلفظ الاسم) وما قالوا ذلك إلا ليبنوا عليه أن رجال الإسلام يصطرعون ونحن لا نؤمن بالمقارنة ولا نؤمن بهذه المقدمات، وأحرى أن لا نؤمن بما يبنون عليها من النتائج ...
فقلت له: افهم كما شئت فما أنا على افهام الناس بمسيطر.
وقال لي ظريف آخر: ان الجماعة كانوا يرموننا بأننا نتّخذ الدين آلة لأغراضنا ويعدّون ذلك بابًا من أبواب سفاهتنا، وها هم اليوم يقلّدوننا في اتخاذ الدين آلة للأغراض ...
ولعمري إن أسخف أنواع التقليد ما كان في أمر وهمي. فكان جوابي له عين جوابي للأول.
هذه الآثار هي إحدى بركات هذه الحادثة على جمعية العلماء، فما أبرك هذه الحادثة إذًا على جمعية العلماء ...
ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار، ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار، وكان يوم اعتقاله يومًا اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يومًا اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور، وأقوى ما في هذا الإجماع المنقطع النظير انه كان بسائق وجداني جمع بين من يعرف الأستاذ معرفة عيان وبين من يعرفه معرفة سماع وبين من لم يعرفه إلا من هذه الحادثة. كما جمع بين المسلم والنصراني واليهودي، وان أمرًا تجمع عليه هذه الطوائف المتباينة من الناس لأمر عظيم، وان من يقرأ مئات البرقيات ورسائل التهنئة ويتأمّل إطباقها على معنى واحد- وهى من مصادر متباينة- يعدم أنها من وضع إلهي فوق قوى البشر.
أما آثار هذه الحادثة في فرنسا فقد قرأها القراء في الجرائد الباريسية وغيرها. وأما آثارها في الأقطار الإسلامية، فقد كانت دعاية عميقة الأثر للأستاذ العقبي ولجمعية العلماء ولحركة الإصلاح الديني لا تقوم بالمال ولا يبلغ مرضى الدعايات عشرها ولو بذلوا فيها الملايين الكثيرة ...
إننا لنشكر بهذه المناسبة لإخواننا في الأقطار الإسلامية مشاركتهم الصادقة لنا في السرّاء والضرّاء والتفاتهم الجميل نحونا، ونعتبر هذه المشاركة ظاهرة التحام جديدة في المجتمع الإسلامي، وسمة بر برحم الدين المجفوة بيننا، ولمحة عرفان لما تناكرناه من أخلاقه بل مصداقًا لما وصف به النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمني أمّته، ونبتهج بتحقق هذا الوصف في الوقت الذي نبذل فيه وسعنا لإحياء الآداب الإسلامية بيننا.
وليهنأ جمعية العلماء ما لقيته من إجلال وإكبار وتقدير واعتبار، وذيوع لاسمها ومبادئها وانتشار، وليهنأ المصلحين ما ربحوه من مؤيدين وأنصار، وما أفادتهم حادثات الدهر من اتعاظ واستبصار، وليهنأ أخانا العقبي- نعمة الله عليه- بحسن الذكر في الأولين ولسان الصدق في الآخرين، وبالنصر على أعدائه حينما أرادوا به كيدًا فجعلهم الأخسرين ...
(1) من الزَّرْدَة، وهي الحفلات التي يقيمها الطرقيون، وترتكب فيها المنكرات ويُهَلُّ في ذبائحها لغير الله.
جريدة "البصائر"، السنة الأولى، العدد 34، الجمعة 24 جمادى الثانية 1355هـ/11 سبتمبر 1936م، ومجلة "الشهاب"، الجزء السابع، المجلد الثاني عشر، أكتوبر 1936.