الأستاذ الأمين بشيشي وجهاد الكلمة

بقلم: د. إبراهيم نويري-

في منتصف ثمانينات القرن المنصرم، كنت مولعاً بالنشاط الإعلامي والثقافي إلى حدّ سيطرته على معظم اهتماماتي حينئذ، وكنت أنا وصديقي الدكتور محمد مراح ندأب على تقديم صفحة أسبوعية في جريدة النصر بمدينة قسنطينة ــ عاصمة الشرق الجزائري ــ تُعنى بقضايا الدين والفكر والحضارة والهُوية؛ إلى جانب مقالات و أعمدة صحفية في جرائد أخرى.

وفي يوم من الأيام بينما خرجنا من مقر إدارة جريدة النصر في المنطقة الصناعية ( بالما )، وجدنا أمامنا مقر الإذاعة الجهوية، فأحببنا أن نسلم على مديرها يومئذ الأستاذ عثمان أمقران ؛ الذي استقبلنا بترحاب و حفاوة و أخلاق عالية، و شكرنا على نشاطنا الإعلامي في صحيفة النصر . ثم فاجأنا بعرض فكرة المساهمة في النشاط الإذاعي، و بعد حوار قصير تمّ الاتفاق على أن أنجز أنا برنامجاً بعنوان ” شخصيات لها تاريخ” وأن ينجز صديقي محمد مراح برنامجاً آخر بعنوان ” جولة في كتاب ” يُعنى بتقديم خلاصات مفيدة مركّزة لأهم الكتب الفكرية و الدعوية و التاريخية و نحوها . و بعد يوم أو يومين كنا في مقر أستوديو الإذاعة، حيث تمّ تسجيل قصير لأصواتنا ؛ فقال الأستاذ أمقران موجهاً كلامه لي : صوت محمد صوت إذاعي، و خصائص الصوت موهبة إلهية . ثم استدرك قائلاً : و صوتك أنت أيضا يا إبراهيم لابأس به و لعله يحتاج إلى عناية و مران ! و منذ ذلك اليوم شرعنا في تقديم البرنامجين المذكورين اللذين أذيعا لعدة سنوات على أمواج الإذاعة .

شاء القدر أن أركّز في برنامج ” شخصيات لها تاريخ ” على الشخصيات الإصلاحية التي بدا لي أنها لم تأحذ ما تستحقه من التعريف بها و بأعمالها في الإصلاح و الجهاد و الدعوة و النضال . و كان من أوائل الشخصيات التي قدمتها في هذا البرنامج الشيخ ” بلقاسم اللوجاني السدراتي “، والد الأستاذ الأمين بشيشي، ثم نشرتُ مقالاً موسعاً عنه في جريدة النصر سنة 1987 م، بمناسبة الذكرى الخامسة و العشرين للاستقلال ؛ و بما أنّ زوجتي هي كريمة شقيقة الأمين بشيشي، فقد اتصل بي هاتفياً شاكراً و مطرياً للمقال الذي نشرته عن والده و الحصة التي قدمتها في برنامجي الإذاعي المذكور ؛ ثمّ توطدت علاقتنا منذ تلك الفترة ؛ و كان كلما جاء الى قرية بوخضرة لزيارة شقيقته يحرص أشد الحرص على لقائي، حيث كنا نسهر إلى وقت متأخر جداً من الليل، و هو محب للسهر و الحديث المتواصل في شتى القضايا سواء السياسية أو التاريخية أو الإصلاحية أو الثقافية، إلى جانب القضايا الاجتماعية التي تفرض نفسها أحيانا كثيرة . و كم يسعد إذا وجد من يتفاعل مع ما يطرحه من قضايا و آراء، و للأمانة أسجّل بأنه لم يكن ممن تضيق صدورهم بالرأي المخالف على الاطلاق .

ــ ولد الأمين بشيشي يوم 19 ديسمبر 1927 م بسدراتة، و تتلمذ أول الأمر في أسرته على يد والده المصلح بلقاسم اللوجاني ــ و هو شيخ زيتوني أزهري و من رعيل المصلحين الجزائريين الأوائل ــ ثم على يد بعض المعلمين المنتمين الى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ؛ إلا أن روح الشغف بالعلم التي زرعها فيه والده، جعلته يتجه صوب مدرسة التهذيب بتبسة التي أسسها المصلح العظيم الفقيه المحدّث الشهيد الشيخ العربي التبسي رحمه الله، حيث تتلمذ عليه فترة من الزمن ــ كما حدثني عن ذلك مراراً ــ و بعد تلك المرحلة التي لم تطل كثيراً شدّ الرحال صوب جامع الزيتونة المعمور ــ و هو جامع و جامعة شأنه شأن القرويين في فاس ــ حيث مكث فيه بين سنتي 1943 و 1951، و منه نال شهادة التخرج ــ كانت تُسمى شهادة التحصيل حسب علمي ــ في خريف العام ( 1951 ) إلى جانب شهادة في الموسيقى ؛ إذ إنّ الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله، و كان ضمن الطلبة الجزائريين الزيتونيين، اقترح على الطلبة الجزائريين ممن لديهم الموهبة الفنية الانضمام إلى المعهد الرشيدي بتونس العاصمة، و كان الأمين بشيشي من أوائل الطلبة الذين استجابوا لهذا الاقتراح ؛ حيث تلقى تكويناً موسيقياً على يد أساتذة مرموقين في هذا الفن، الأمر الذي جعله يشارك في أرقى الحفلات و المناسبات الموسيقية باقتدار لا سيما في مجال العزف على الكمان .

و بعد وفاة والده شهر سبتمبر 1954 أي قبل اندلاع ثورة التحرير الجزائرية بأسابيع قليلة، تولى الإمامة نيابة عن والده إلى آواخر سنة 1956، حيث تفرّغ للعمل الثوري، إذ سافر الى تونس للإشراف على تأسيس و إصدار الطبعة الثالثة من صحيفة ” المقاومة الجزائرية ” رفقة بعض زعماء الجهاد و النضال، و هي صحيفة صدرت في بداية الأمر من باريس ؛ ثم شارك مع رفيق دربه المرحوم عيسى مسعودي في برنامج ” صوت الجزائر ” ــ و هما مؤسساه ــ الذي كان يُذاع ثلاث مرات في الأسبوع من تونس أولا ثم من تطوان بالمغرب، ثم من القاهرة بجمهورية مصر العربية ؛ كان كلٌّ من عيسى مسعودي و الأمين بشيشي و المدني حواس، يمثلون أيقونة ثورة التحرير الجزائرية المتحركة عبر الأثير، و كان الجزائريون يتلقفون أخبار ثورتهم المجيدة حينئذ من حناجر هؤلاء الثلاثة و ينتظرون كلّ مساء موعد هذا البرنامج بلهفة و حرص شديدين . و نحن لا نستطيع اليوم تخيّل كلّ جوانب طبيعة الهاجس الإعلامي بمعايير ذلك الزمن ــ زمن الراديو و الصحيفة المكتوبة و إعلام الأشخاص المتنقلين بين المداشر و المدن و الجبال ــ لأننا في زمن الثورة الرقمية و تكنولوجيات الإعلام المفتوح و المشفر.

بعد استقلال الجزائر تقلد الأستاذ الأمين بشيشي مناصب كثيرة سياسية و دبلوماسية و إعلامية و ثقافية، منها :

ــ مدير عام لمؤسسسة الإذاعية و التلفزيون، و هو ثاني مدير لهذه المؤسسة بعد عيسى مسعودي كما يذكر صديقه الأستاذ فتحي سعيدي حفظه الله .

ــ قائم بالأعمال في سفارة الجزائر في القاهرة، بجمهورية مصر العربية

ــ سفير الجزائر في الخرطوم، بجمهورية السودان الشقيق .

ــ مدير المعهد الوطني للموسيقى

ــ وزير الثقافة و الاتصال

** له إنتاج فني وأدبي وإعلامي، نذكر منه :

ــ برنامج الحديقة الساحرة الذي كانت تنشطه الإعلامية القديرة ” ماما نجوى ” أطال الله عمرها .

ـــ جينيريك مسلسل الحريق

ــ مجموعة أغاني الأطفال

ــ مذكرات الأمين بشيشي

ــ تاريخ ملحمة نشيد قسماً

الى جانب أعمال أخرى، سوف أذكرها بحول الله في مقال قادم، مع صور ذهنية تسترجع بعض الذكريات معه . تجدر الإشارة الى أن المجاهد و الإعلامي الفنان الأستاذ الأمين بشيشي رحمه الله و طيب ثراه التحق بالرفيق الأعلى يوم الخميس 23 جويلية 2020 صباحاً الموافق للثالث من ذي الحجة 1441 هــ، و نُقل جثمانه الطاهر صبيحة الجمعة الى قصر الثقافة ( مفدي زكريا ) بالعناصر، لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، ثم ووري الثرى في مقبرة العالية يوم الجمعة 24 جويلية 2020، و هو اليوم الذي صادف أول صلاة جمعة في جامع آيا صوفيا باسطنبول، بعد مرور 86 سنة على تحويله الى مُتحف . و أنا أسجّل هذه المعلومة عن عمد و قصد للتاريخ، و أربطها بهذا الحدث، بغية ترسيخها في ذاكرة الأجيال، و الله وليّ التوفيق .

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.