عبداويون! ثم وهابيون! ثم ماذا؟ لا ندري. والله!
بقلم: الشيخ عبد الحميد بن باديس –
لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام 32 وعزمنا على القيام بالتدريس أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة وأدبها والتفسير والحديث والأصول ومبادئ التاريخ ومبادئ الجغرافية ومبادئ الحساب وغير هذا ورأينا لزوم تقسيم المعلمين إلى طبقات واخترنا للطلبة الصغرى منهم بعض الكتب الابتدائية التي وضعتها وزارة المعارف المصرية وأحدثنا تغييرا في أساليب التعليم وأخذنا نحث على تعلم جميع العلوم باللسان العربي والفرنسي ونحبب الناس في فهم القرآن وندعو الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين ومؤلفات المعاصربن، لما قمنا بهذا وأعلناه قامت علينا وعلى من وافقنا قيامة أهل الجمود والركود وصاروا يدعوننا (1) للتنفير والحط منا "عبداويين" دون أن أكون- والله- يوم جئت قسنطينة قرأت كتب الشيخ محمد عبده إلا القليل فلم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لإنكارهم، على كثرة سوادهم وشدة مكرهم وعظيم كيدهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية وقضيناها عشر سنوات في الدرس لتكوين نشء علمي لم نخلط به غير.
من عمل آخر فلما كملت العشر وظهرت- بحمد الله- نتيجتها رأينا واجبا علينا أن نقوم بالدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح إلى الكتاب والسنة وهدى صالح سلف الأمة وطرح البدع والضلالات ومفاسد العادات فكان لزاما أن نؤسس لدعوتنا صحافة تبلغها للناس فكان المنتقد وكان الشهاب ونهض كتاب القطر ومفكروه في تلك الصحف بالدعوة خير قيام وفتحوا بكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وكانت هذه المرة غضبة الباطل أشد ونطاق فتنته أوسع وسواد اتباعه أكثر وتمالأ على دعاء الحق الجمود والبدعة وعليها بنيت صروح من الجاه، ومهما جرت أنهار من المال، وأصبحت الجماعة الداعية إلى الله يدعون من الداعين إلى أنفسهم "الوهابيين" ولا والله ما كنت أملك يومئذ كتابا واحدا لابن عبد الوهاب ولا أعرف من ترجمة حياته إلا القليل ووالله ما اشتريت كتابا من كتبه إلى اليوم، وإنما هي أفيكات قوم يهرفون بما لا يعرفون ويحأولون من إطفاء نور الله ما لا يستطيعون وسنعرض عنهم اليوم وهم يدعوننا "وهابيين" كما أعرضنا عنهم بالأمس وهم يدعوننا "عبداويين" ولنا أسوة بمواقف أمثالنا مع أمثالهم من الماضين.
ولما كان من سنة القرآن الحكيم التنبيه على مشابهة اللاحقين من الناس للسابقين في منازعهم وأهوائهم وكثير من أحهوالهم حتى كان التاريخ يعيد نفسه بإعادة ذلك منهم وجاء ذلك في مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ} وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وغيرها، لما كان هذا من سنة القرآن فتحنا هذا الباب من الصحيفة تحت عنوان: "التاريخ يعيد نفسه" لننشر فيها- ما أمكننا النشر- قصصا عن حياة رجال السنة المصلحين مع دعاة البدعة المبطلين، تزيد العالم المصلح ثباتا على الحق والقاريء الصادق تبصرة في الأمر و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.
ولسنا نقصد في وضع قصصنا إلى وضع تأليف ولا نخص هذا النقل بكاتب معين أو كتاب مختص، وبين أيدينا الآن كتاب "الاعتصام" لمؤلفه علامة العقول والنقول أبي إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 790، فرأينا أن ننقل منه الفصل التالي الذي يذكر فيه أبو إسحاق ما رمي به من مثل ما رمينا به حتى كأنا في زمان واحد، قال رحمه الله: "فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا، فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما روي عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- أنه قال لو خرج رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي فكيف لو كان اليوم، قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان. وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان فقلت: ما أغضبك؟ فقال: "والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا". وعن أنس بن مالك قال: "ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- غير قولكم: لا إله إلا الله. قلنا بلى يا أبا حمزة؟ قال: قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وعن أنس قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في المنكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعرض أجرا عظيما، وكذلك فكونوا إن شاء الله.
وعن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف، ما عرف غير هذه القبلة.
وعن سهل بن مالك عن أبيه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات تدخل في المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا، وإنما تتكاثر على توالي الدههور إلى الآن.
فتردد النظر بين- أن اتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل- وبين أن اتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد، وأعد المؤالفين، لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوَّق إلى العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة وأني لو التمسك لتلك المحدثات مخرجا لوجدت غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن، رقي بي مرتقا صعبا، وضيق علي مجالا رحبا وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفهت السلف الأول.
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أني لم التزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلي الرفض وبغض الصحابة- رضي الله عنهم- بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطباء للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة فلا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل فدعاؤه للغزاة والمرابطين قال ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه وأما أن يكون شيئا يعمد إليه في خطبته دائما فإني أكره ذلك. ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم. وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على المسائل ويوافق هواه، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره.
وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب "الموافقات" (2) وتارة إلى معاداة أولياء الله، وسببب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلي مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها- وهي الناجية- ما- عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك وأوهموا والحمد لله على كل حال.
انتهى كلام أبي إسحاق وسننقل عنه في العدد الآتي ما ذكره من حال بعض الأئمة الذين كانوا قبله ووقع لهم ما وقع له (3).
(1) كذا فى الأصل والصواب: يدعون.
(2) كتاب للمصنف في الأصول وحكم الشريعة هو فيه نسيج وحده (المؤلف).
(3) السنة الأولى العدد 3 ص الإثنين 29 ذي الحجة 1351 هـ.
جريدة السنة المحمدية: العدد الثالث، سنة 1352 هـ/25 سبتمبر 1933 م