الشيخ عبد الحميد بن باديس الصنهاجي القسنطيني الزيتوني
بقلم: الشيخ محمد الفاضل بن عاشور-
نشرت مجلة العبقرية نص خطاب الشيخ ابن عاشور في العدد الثالث (3)، الصادر في شهر شعبان 1366هـ، والموافق لـ جويلية 1947، في الصفحتين 79 و80:
لم يكن من سابق أملي أن أحظي البدن بهذا الشرف العظيم، شرف الاشتراك بالإشادة بذكرى الزعيم الإسلامي الشهير خالد الذكر العلامة المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس الصنهاجي القسنطيني الزيتوني، فقد كان واجب أكيد يدعوني لأن أكون في هذه الساعة بعيدا عن الحاضرة ببلاد الجريد، ولكن لما دعيت من طرف الإخوان الجزائريين لأن أتكلم في هذا المجتمع المبارك الرهيب شعرت بأن واجب الإجابة إلى هذه الدعوة هو أوكد، كما أنه إذا وزن بواجب آخر رجح، فقررت أن أبقى هنا لأخطب بين أيديكم وأن أرجئ الرحلة التي اعتزمت القيام بها في سبيل الواجب.
وهل من واجب على المسلم في مشارق الأرض ومغاربها أوكد من واجب الوقوف في صف الشعب الجزائري وتلبية الوطن الجزائري كلما دعا داعية فإن فضل النهضة الجزائرية على العالم الإسلامي فضل عظيم وإن أثر الشيخ عبد الحميد بن باديس في تلك النهضة أثر إنشائي رئيسي.
وإن الذي يدرك أن العالم الإسلامي من بحر طنجة لأرخبيل الفلبين هو جسم واحد متماسك الأعضاء مثخن بالجراح، يستطيع أن يدرك بوضوح أن كل جرح من الجراح الدامية بذلك الجسم إن أهمل فسد وتعفن واستقر فيه وكان من المستحيل بعد ذلك أن يقف الهلاك عند حد دون أن يطغى على الجسد كله لاسيما إذا لم يكن هذا العضو من الأعضاء التي لا يستطاع قطعها.
لذلك كانت كل قضية من قضايا العالم الإسلامي هي قضية الإسلام كله فليس موقفنا من أند ونسيا ومصر وفلسطين موقف تضامن ومعاضدة أخوية فحسب، ولكنه موقف الدفاع عن الذات ورد لغائلة الخطر المهدد لجوهر الحياة، وما تكريمنا للشيخ عبد الحميد إلا تكريم للفكرة العبقرية والنزعة الإصلاحية الفلسفية التي دفعت به فريدا إلى موقف إحياء التعاليم الإسلامية في وطن أوشكت شمس الإسلام أن تتخلص في ربوعه بعد ثمانين عاما قضاها في أغلال الأسر، فإن وقع المصيبة واستمرارها وطول أمدها وخيبة المصارعات الكبرى التي بذلت في سبيل الإفلات من الغل قد كوّنت حول الشعب الجزائري دائرة من التصوّرات المزعجة إن لم تزرع فيه روح الاستسلام واليأس، فقد زرعت فيه الذهول والسموم والاستلقاء بحر جارف التيار في غفلة عن غايته فأصبحت الحالة المفروضة على الجزائر لا يطمئن إليها الجزائريون، ولكنهم يسيرون معها، ولا يسلمون بها ولكنهم يتقبلونها، فكان ذلك عرضا خطيرا من عوارض الإغفاء القلبي، وكان في حقيقة اجتماعية تحول بين الأمة وبين تفكير في مصيرها لأنها فقدت شعور النفور من الحاضر الذي هو أصل النظر في المستقبل.
فكان الذي راحت في نفسه الدهشة واسترعاه النفور جدير أن يعتبر في منزلة ممتازة من منازل الإدراك الإنساني، هي منزلة الشعور العقلي الذي يفوق محيط العوائد المسلمة وينفر من كل وضعية ويندهش في كل قضية اندهاشا يدفع به إلى تطلب عللها وبراهينها وقديما قال المعلم الأول أرسطاطاليس: "إن الدهشة أول باعث في الفلسفة".
تلقى فقيدنا الشيخ عبد الحميد تعاليم الإسلام، وتشرب روح العروبة، فكانت روحه الفلسفية متوجهة نحو تسليط تلك التعاليم وهاتيك الروح على ما بين جنبيه وجنبي عموم الشعب الجزائري من حالة الذهول عن الذات، والانقطاع عن تأثير تلك التعاليم الطاهرة، والروح الإنسانية.
لقد كان يقول في نفسه كما تلقى حقيقة جديدة في الجامعة الزيتونية، هذه هي نفسي، وهذه حقيقتها لأني مسلم عربي، وهذا أمر يشاركه فيه كل أحد، ولكن الذي كان يزيد به هو على الناس هو تساؤله عن حقيقة الأمر الواقع هل هي كذلك أو لا؟ وهل الجزائريون يعتبرون عند أنفسهم وعند غيرهم بهذا الاعتبار؟ فيجيب الواقع مخالفا، ويندفع نحو بحث الواقع كما هو، ثم كما ينبغي أن يكون وذلك هو عماد الفلسفة ثم يستمد من عزيمته القعساء روح المجاهرة بـ (الذروة) فإذا هو يصرح بالحقائق البسيطة في النظر المتعبة في العمل فيقول: "إن نتعلم غير تعليمنا ونعش في غير مجتمعنا وننظر بغير أبصارنا وندرك بغير عقولنا فهل نحن موجودون؟ كلا! لا يكمل وجودنا إلا بعد أن يستكمل عقولا وأبصارا وعيشا وتعليما وأن نخرج من هذه الفوضى الحيوانية أنت أنت، أنا أنا إلى الحقيقة الناصعة الوضاءة التي وضع قاعدتها في خلاصة فلسفية:
شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب ».