زيارة الشيخ ابن باديس لبرج بوعريريج 1934م وصدامه مع العليويين
بقلم: الصالح بن سالم-
بعد تعرض الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس لمحاولة اغتيال بقسنطينة بتاريخ 14 ديسمبر 1926م من قبل أحد أتباع الطريقة العليوية وينحدر من إحدى القرى الشمالية لولاية برج بوعريريج، قرر الشيخ بعد تأسيس جمعية العلماء سنة 1931م أن يولي هاته المنطقة عناية خاصة من خلال تكثيف العمل الاصلاحي بها ومحاربة الطريقة العليوية التي كانت متجذرة ومتغلغلة في المنطقة.
هذه العناية انعكست بالخير على المنطقة فتعتبر برج بوعريريج من أكبر الولايات التي تأسست بها شعب الجمعية ومدارس التهذيب في مختلف المدن والقرى والمداشر الصغيرة، كما اعتكف شيوخ الجمعية بالمنطقة على نشر مبادئ اللغة العربية والعلوم الشرعية، ونخص بالذكر: محمد البشير الإبراهيمي، ومحمد بن السعيد طورش، وعبد الكريم العقون، ونويوات موسى الأحمدي، والسعيد البيباني، وأحمد عاشور، والصديق بن طالبي، ومحمد الطاهر خبابة، والمدني بوعزيز ...
كما كانت تصل طلبات كثيرة للإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس لزيارة قرى ومداشر برج بوعريريج، ومنها الطلب المتكرر الذي وصله سنة 1934م حيث يذكر الفضيل الورثيلاني في جريدة الشهاب (س10/ج6) بأن إلحاح شعبة برج بوعريريج للجمعية على الشيخ بن باديس لزيارتهم جعله يقبل الدعوة، وقد اتصل به (الفضيل الورثيلاني) واختاره أن يكون رفيقه في هاته الرحلة يوم الخميس 16 ماي 1934م بحكم أنه يوم عطلة لطلبته، وقد أخذ الفضيل الورثيلاني تذاكر القطار الذي انطلق بهما من قسنطينة إلى سطيف، وقد كان في استقبالهما في سطيف رئيس فرع الجمعية محمد بن الحاج عمار ونائبه عبد الرحمن بن بيبي وبرفقتهما أحمد الدراجي، ومن سطيف انتقل الوفد لبرج بوعريريج وكان في استقبالهم رئيس شعبة الجمعية الحاج محمد بن السعيد لطرش (طورش)، وكان ذلك في حدود الساعة العاشرة صباحا.
وانتقل الوفد لأسرة آخروف التي تقطن بالمخرج الشرقي لمدينة برج بوعريريج وتعتبر من أهم الأسر البرجوازية إلى وقتنا الحالي، كما أنها أسرة متعلمة وتولت عديد المناصب الرفيعة في الدولة قبل وبعد الاستقلال، فاستقبلهم كبير العائلة السيد آخروف لحميدي الذي سيصبح أحد أعضاء الجمعية ونائب لرئيس الفرع لاحقا بعدما كان ضمن حزب أحباب البيان والحرية وشقيقه الطاهر، وبعدما أرسلوا لرئيس بلدية البرج بطلب منحهم رخصة لتقديم محاضرة من طرف الشيخ عبد الحميد بن باديس بقاعة الحفلات وصل الخبر بسرعة لأتباع الطريقة العليوية بالضاحية الشمالية لبرج بوعريريج، والذين وفدوا على المدينة وضغطوا على رئيس البلدية من أجل منحهم رخصة لاستغلال القاعة والتشويش على وفد الجمعية، وهو ما جعل أسرة آخروف تتصل بشقيقهم علي آخروف الذي كان من محبي الجمعية ونائبا عن عمالة قسنطينة، والذي تدخل واستعمل نفوذه وضغط على رئيس بلدية البرج وحاكم المعاضيد حتى تكون الرخصة لصالح الجمعية وهو ما تم في الأخير.
بعد احباط مخطط جماعة العليويين انتقلوا لمخطط ثاني وهو التجمع أمام القاعة وترصد الشيخ عبد الحميد بن باديس ولما لا الغدر به واغتياله، وهو الخبر الذي وصل لكل ساكنة برج بوعريريج فتجمع الشباب من مختلف المناطق والقرى وطوقوا قاعة الحفلات كما جاء أهل قلعة بني عباس بسياراتهم وشبابهم لحماية الشيخ وهم الذين يعشقون الجمعية لحد النخاع، فتفرق جماعة العليويين محبطين، ودخل الجمع الكريم قاعة الحفلات التي اكتظت عن آخرها وبقي عدد معتبر خارج القاعة، وعلى الساعة الخامسة والنصف مساء دخل الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس والوفد المرافق للقاعة فصفق له الحضور تصفيقا حارا، وقد تقدم بالكلمة نائب رئيس بلدية البرج الذي رحب بالحضور، وبعدها تناول الكلمة السيد الحاج محمد رئيس شعبة الجمعية ببرج بوعريريج، وقد أعجب الشيخ عبد الحميد بن باديس بكلامه ووصفه بابن الحرة.
وبعدها منحت الكلمة للشيخ الإمام أين أدلى بخطاب مثير للنفوس بلغة عربية فصحى، وكانت محاضرته بعنوان (التعليم والتعلم) ثم انتقل لاستعمال الدارجة لشرح بعض الأمور لعامة الناس الحاضرة بالقاعة، وختم الجلسة السيد الحاج محمد شاكرا الحضور ووفد الجمعية والسلطات التي منحتهم الرخصة.
وبينما افترق الحضور الكريم اجتمع الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بعديد الوجوه العلمية ببرج بوعريريج يجيب عن استفساراتهم منهم الوكيل الشرعي السيد محمد بن نويوة والسيد لحميدي آخروف الذي قال عنه الورثيلاني بأنه جمع بين اللغتين العربية والفرنسية وكان ملما بمختلف العلوم وأخبرهم أنه ينوي اكمال دراسته بالجامعة المصرية، وأيضا الحاج أحمد بن السعيد لطرش شقيق الحاج محمد رئيس فرع الجمعية ببرج بوعريريج، والذي كان عالما مثل شقيقه ووالده.
وبعد نهاية هذا الاجتماع العلمي أتى أولاد آخروف بسيارة خاصة وتم نقل وفد الجمعية على رأسهم الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس لمنزل الأسرة ومعهم أعيان برج بوعريريج وتناولوا جميعهم العشاء كما سهر الوفد في مناقشات علمية، وفي الصباح نقلتهم سيارات أسرة آخروف لوسط برج بوعريريج، وقد كان في استقباله حاكم المعاضيد وهو فرنسي مستشرق ملم وشغوف بالأديان والتاريخ والأدب على حد وصف الفضيل الورثيلاني، وقد استقبل الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس في مكتبه في حدود العاشرة صباحا وبرفقته الحاج محمد بن السعيد والسيد آخروف لحميدي ودخلا في نقاش علمي مطول في حدود الساعتين حول الأديان والتاريخ واللغة العربية قبل أن يعود الوفد من جديد لأسرة بن آخروف الذين أكرموهم بغداء فاخر، ومن هناك افترق الوفد وعاد الإمام لمدينة قسنطينة برفقة الشيخ الفضيل الورثيلاني ... أين نحن من تلك الأيام الخوالي التي لن تعود.