محمد بن شنب
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي -
ما هذا الجمع الحاشد؟ وما هذه الزمر المحدودة؟ وما للأحياء حشروا في صعيد الأموات؟ أجل، ما لهذا الفريق الممتاز من إخوان الأدب وأخدان العلم وعشراء البحث ورصفاء التفكير وأسرة الكتابة والقلم- يظهرون بهذا المظهر الرهيب. وينزعون هذا المنزع الغريب، - لولا داع دعا وباعث بعث وسايق حث فأزعج.
بلى ما هذا الحشد فوق التراب إلا لقضاء حق عزيز ثوى تحت التراب.
مات محمد فعرفت هذه الطائفة من مات، وعرفت أنه مات فبكت فضله المدفون ونفعه الذي فات.
مات محمد فأسف العارفون لفضله على فضله وما هو بالذخيرة المنزورة ولا الحظ المنقوص ولكنه البحر فيضا وسعة جوانب. وأسف المشفقون على هذا الوطن البائس أن ينقصف علمه المفرد وواحد الآحاد فيه قبل أن تتحقق آماله في العلم أو تتحقق آمال العلم فيه.
مات محمد فأيقن زملاؤه وشركاؤه في الصنعة أنهم فقدوا بفقده ركنا من أركان العلم الصحيح، وعلما من أعلام التاريخ الصحيح، ومثالا مجسما من الأخلاق العالية والخلال الرفيعة، لا بل فقدوا معيارا من أصدق المعايير لقيم الروايات وعينا لا تغر صاحبها بالسراب، لا بل فقدوا عقلا هذبه العلم وعلما هذبه العقل فأنتجا خير النتائج، لا بل فقدوا مثالا كاملا من حياة العمل والنشاط والعبادة للعلم والفناء في العلم.
مات محمد فلم يخسر تلامذته تعليمه وإرشاده ونصحه واجتهاده، بل خسروا وراء ذلك الغاية التي يصبون إليها وينتظرها الوطن منهم، وهي الانطباع بطابعه في الذوق، في الأخلاق، في أسلوب البحث، في طرز التفكير، في الاعتماد على النفس، في الانقطاع للعلم والإخلاص له في الأدب النفسي، في الصبر على العمل- وإن شق- حتى الوصول إلى النهاية.
في المحافظة على القومية الصحيحة. في اطراح الحظوظ والرعونات، في استخدام البصيرة في كل شأن من شؤون الحياة، في القصد.
ذلك أن الرجل محافظ والمحافظة ألزم ما يكون لنهضة كنهضتنا لم تزل في طور الاختمار، تتجاذبها العوامل الخارجية أكثر مما تكيفها الضرورات الداخلية، فنحن أحوج ما نكون في هذا الموقف إلى محافظة مهذبة تسايرنا في أطوار الانتقال وتكون لنا قنطرة نعبر عليها من قديمنا إلى الصالح الذي ننشده، وتقينا شر الذبذبة التي هي وليدة الطفرة.
الرجل كان محافظا حقا ولكنه محافظ بالمعنى المعقول، محافظة البصير الناقد الذي يرى أن مشخصات الأمم منها جوهر ومنها عرض، وأن الجوهر منها هو الصالح للبقاء وأنه لا يد للفرد ولا للجماعة في تكييفه كما يشاء أو كما تشاء، وأن تطوره موكول إلى تدبير الاجتماع لا إلى تدبير الجماعات- وأن العرض منها هو محل التبديل والتغيير يصلح لزمن فيؤخذ، ولا يصلح لآخر فينبذ. فالمحافظة على جوهر المقومات ليست محافظة وإنما هي حفظ للقومية من الاندغام والتداخل وعماد لها أن تتداعى وتسقط، وأما الأعراض فهي قشور تتحول وتزول فهي كأوراق الخريف توجد وتعدم والشجرة شجرة.
والرجل مخلص في أعماله وما نجاحه في حياته العلمية إلا نتيجة إخلاصه، والإخلاص أحوج ما تحتاج إليه ناشئتنا في وقت ذهب فيه الإخلاص ضحية المداجاة والنفاق والغش والمؤاربة ومجموعها هو الرياء الخادع.
الرجل صبور والصبر مطية النجاح وقوام الحياة كلها.
الرجل معتمد على نفسه، يظهر ذلك في جميع أطوار تعلمه وإن الهمة التي سمت به إلى تعلم عدة لغات حية أجنبية وإتقانها هي عنوان هذا الخلق العظيم، خلق الاعتماد على النفس، والاعتماد على النفس خير ما حمل الآباء عليه أبناءهم فهو الرائد إلى السعادة وهو أساس الحياة الاستقلالية.
الرجل مؤدب النفس مهذب الطباع وهذا الخلق أساس حسن العشرة وحسن العشرة أساس الجاذبية وما أحوج ناشئتنا إلى هذا الخلق القويم إذا لكانت الإفادة إذا أفادوا والاستفادة إذا استفادوا على قاب قوسين منا.
أما طرز التفكير فالإنصاف في حق الرجل أنه لم يكن مفكرا اجتماعيا بالمعنى الواسع ومن وصفه بذلك فقد ظلمه اللهم إلا مشاركة قومه في شعورهم الخاص وإحساسهم الخاص، واللهم إلا معنى آخر يماس التفكير وهو صدق الاستنتاج وسلامة الحدس، فقد كان نصيبه من هذا الخلق نصيبا موفورا. أما أسلوب البحث العلمي وبناؤه على المحاكمة والنقد فهو ظاهرة الرجل الخاصة به ونعته الصادق، ولا أكتمكم أني ما كنت شديد الإعجاب بالرجل إلا من هذه الخلة، ولا كتمكم السبب الذي أودع هذا الإعجاب في نفسي بهذه الناحية من نواحي الرجل دون نواحيه الكثيرة وكلها أجواء صافية، السبب هو أنني نظرت في جميع ما لدينا من تراث الأوائل مما نسميه علما وأمعنت في تتبع أطوار العلوم الإسلامية من النقطة التي وصل إليها مداها في الاتساع إلى المنشإ الأصلي فوجدت أن جميع علومنا الإسلامية في جميع أدوارها يعوزها الاختبار والنقد، يعوزها الاستقلال في الرأي، تعوزها الشجاعة إلى أن جاءت عصور الانحطاط فكان ذلك الاعواز بذرة فاسدة للتقليد في جميع علومنا حتى أصبحت أشباحا بلا أرواح، فلا عجب إذا أكبرت الرجل وأكبرت كل من يوفق إلى غرس هذه الملكة فيه في نفسه.
العلوم الإسلامية موضوع تاريخي كسائر المواضيع التاريخية والباحثون في هذا الموضوع ثلة من الشرقيين وقليل من الغربيين، وجهات هذا الموضوع مترامية الأطراف ولا نعلم موضوعا لقي في أثناء تكوينه من الفواعل الداخلية والخارجية ما لقيه هذا الموضوع، لذلك قل من يجيد البحث فيه وقل في هذا القليل من تنتهي به أبحاثه إلى نتيجة يرتضيها التاريخ الصحيح.
ولئن كان في طريق باحثي الغرب في هذا الموضوع عقبات تقوم لهم بالعذر عن التقصير فيه، فليس في طريقنا معشر الشرقيين من عقبة لولا تلك العلة المشؤومة التي هي عائقنا الأكبر عن الإنتاج الفكري والخصب العقلي، بل هي السبب الوحيد في موت ملكة الابتكار فينا، تلك العلة هي التقليد الذي أصبح ظاهرة من ظواهر العلوم الإسلامية وتاريخها.
وإن المفكرين منا لينشدون نهضة تقضي على التقليد وتغرس ملكة الاستقلال في البحث التاريخي، وإن بوادر هذه النهضة قد ظهرت من عهد غير بعيد، وإن فقيدنا اليوم من الطلائع المبكرة لهذه النهضة بهذا الوطن وأن تبكيره هو سر خموله.
نشأت العلوم الإسلامية في ظروف متفاوتة وفي أمم متفاوتة يجمعها الإسلام، فكان للظروف أثر في تكوين تلك العلوم ولاختلاف الجنس أثر في تكوينها أيضا، وكانت منذ نشأتها خاضعة للدين، فكان للدين أثره الأقوى فيها أيضا ثم تطورت تلك العلوم تبعا لتطور الحياة العامة، فكان للآداب الجنسية الخاصة وللآداب الدينية العامة أثر في ذلك التطور
وأصبح تاريخ العلوم الإسلامية يتناول تاريخ رجالها وتاريخ انتقالها في ظل الإسلام من الشرق إلى الغرب وتاريخ أطوارها قوة وضعفا، فلا عجب إذا أعجبت بهذا الفقيد وهو الذي إذا بحث في هذه المواضيع الشائكة أرضى الحق وأرضى التاريخ، وإن ناشئتنا لفي شديد الحاجة إلى تلقين هذا النوع من العلم في مبدإ نهضتنا العلمية وإلى الانطباع بهذا الطابع طابع الاستقلال والنقد.
لست في موقفي هذا شاعرا أؤبن فأجري وراء الخيال في تصوير عظم المصيبة بفقيدنا العزيز لأجري دمعة جامدة أو أحرك عاطفة خامدة، كلا ليس هذا من شأني ولست بصاحبه وإني لتاركه إلى شعراء الحفلة فليبكوا ما شاءوا وليستبكوا ما شاءوا فالموقف حقيق باستنزال العبرات وتصعيد الزفرات وذهاب النفوس حسرات.
وإنما وقفت لأبين لكم ناحية من نواحي الفقيد، وهي ناحية عرفها القليلون منا وجهلها الكثيرون، هذه الناحية هي الغرة اللائحة في حياة الراحل الكريم، وهذه الناحية هي في نظري سر نبوغه أو سر تفوقه أو سر غربته في هذا الوطن.
هذه الناحية هي التي لاحت للعلماء من غربيين وشرقيين فاكبروا الرجل وأنزلوه المنزلة التي هو بها حقيق- هذه الناحية هي العظة البالغة والعبرة النافعة للناشئين منا في العلم وهي المثال الذي يجب أن يحتذه، حياة العلماء الذين وقفوا حياتهم لنفع البشر إلا أمثلة تحتذى ولها بعد ذلك أثرها في النفوس إن خيرا وإن شرا.
امتاز الفقيد بعدة خلال جليلة مجموعها هي تلك الحياة الجليلة التي يبكيها الباكون منا اليوم ويعتبر بها المعتبرون.
هذا الفقيد العظيم يصفه الواصفون بالمحافظة فيمدحها قوم ويذمها آخرون، ويصفه الواصفون بالنزعة الإسلامية الشاذة فيمدحها قوم ويذمها آخرون.
ويصفه الواصفون بسعة الاطلاع على تاريخ العلم الإسلامي والتوفر على البحث فيه على المنهج العلمي المبني على المحاكمة والنقد والاستدلال. فتجتمع الآراء وتتفق المشارب وتلتئم الأهواء.
يا ساكن الثرى ومستبدل الوحشة بالأنس، هذه طائفة من قرنائك وعارفي قدرك وتلامذتك جاءتك وأنت في ثراك تجدد بك العهد بعد الأربعين وإنها لغيبة طويلة لولا أن ما بعدها أطول.
جاءت تجدد- ذكراك الخالدة وتعدد ما خلفت من تراث وما هو إلا علم صحيح ومبدأ صريح وكفى بهما ذخرا لك ولنا.
يا ساكن الثرى إن ذكراك هي الشعاع الهادي لهذه الطائفة فيما يعرض لهم من شؤون الحياة وتجاريبها.
يا ساكن الثرى ومستبدل الغربة بالأهل، هذه الجزائر تناجيك بلسان طائفة من أبنائها البارين بك وبها وتقول: عرفك الغرب والشرق ولم تعرفك الجزائر حق المعرفة في حياتك، فهي تبكي عليك حق البكاء بعد وفاتك، وهذه الألفاظ هي دموع المقصر بعد العتب، والتائب بعد الذنب.
يا ساكن الثرى نم هنيئا في جوار ربك، فهذا آخر العهد بشخصك الكريم ولكنه ليس آخر العهد بآثارك الخالدة.
وإنا عليك يا محمد لمحزونون.
* خطبة ألقاها الشيخ محمد البشر الإبراهيمي في حفل تأبين الفقيد محمد بن شنب بالعاصمة، مجلة الشهاب: الجزء الرابع، المجلد الخامس، ماي 1929، ص7