مذكرة إيضاحية عن جمعية العلماء
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
(للمذكرات التي قدّمتها لوزارة المعارف المصرية ولمشيخة الأزهر الشريف وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية في يناير الماضي 1953)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رفعت في الشهر المذكور مذكّرات لوزارة المعارف المصرية ولمشيخة الأزهر الشريف وللأمانة العامة لجامعة الدول العربية عرضت فيها أعمال جمعية العلماء الجزائريين إجمالًا، وما تمّ على يدها في داخل القطر وفي خارجه، ومنها توجيهها بعثات من تلامذتها إلى الشرق العربي ليدرسوا في معاهده على نفقة حكوماته، وفتحها لمكتب في القاهرة ليشرف على هذه البعثات وليحقق الغاية من إرسالها، وهي اكتساب التربية الصالحة وتحصيل العلم النافع، ثم الرجوع إلى الجزائر لحمل الأمانة التي اضطلعت بها جمعية العلماء.
وقد استعرضت- بعد تقديم تلك المذكرة- جميع الاتصالات التي تمّت بيني وبين المسؤولين في الحكومات العربية في شأن جمعية العلماء والتعريف بها، وشرح أعمالها التي كانت نتيجتها تثبيت عروبة الجزائر وتصحيح إسلامها. واستعرضت الاتصالات التي تمت بيني وبين الهيئات وقادة الرأي في هذا الشرق العربي، مقرّرًا لهم وللحكومات لزوم إمداد هذه الجمعية بالعون المادي والمعنوي لأنها في الحقيقة عاملة لهم، مجاهدة في سبيلهم، محافظة لهم على رأس مال عظيم، ومؤتمنة على ذخيرة من ذخائرهم وهي العروبة والإسلام. فلولا هذه الجمعية لضاع على العرب نصف عددهم، وهو ثلاثون مليونًا هم سكّان المغرب العربي، وجرفهم تيّار الاستغراب والبربرة، ولولا هذه الجمعية لضاع على المسلمين هذا العدد من الملايين.
استعرضت كل ذلك التعريف بالجمعية، وذلك الشرح لأعمالها وآمالها وتحسّست وقعه في نفوس الإخوان الذين حادثتهم، فرأيت أنني مهما عرّفت بهذه الجمعية وشرحت من أعمالها، ومهما صوّرت من حال الأمّة الجزائرية وتطلعها إلى الشرق العربي ليعرف حقيقتها ثم يأخذ بيدها- مهما فعلت من ذلك- فإن تعريفي لم يزل قاصرًا لا يوصل إلى إخواننا في الشرق الصورة الحقيقية لهذه الجمعية ولهذا الوطن. وخشيت أن يتصوّر إخواننا جمعية العلماء الجزائريين على قياس الجمعيات والأحزاب المتشابهة في المشرق والمغرب ... أشخاص ودوران حول أشخاص، وشخصيات وسعي وراء الشخصيات، وهدم من دون بناء، وأقوال مردّدة، ومقدمات من دون نتائج، ودعاوٍ لا دليل عليها، وغايات تطلب من غير إعداد لوسائلها.
فدفعًا لهذا التقصير عن نفسي، ولهذا الوهم الذي ربّما ساور بعض الأذهان فلبس عليها شيئًا كله حق بشيء بعضه باطل، ثنيت (بهذه المذكرة الإيضاحية)، أصوّر فيها جمعية العلماء الجزائريين تفصيلًا، والجزائر وأحوالها إجمالًا، حتى أؤدّي الأمانة كاملة، واستبرئ لله وللحقيقة والتاريخ، وأنا أحرص الناس على أن يبنى تاريخ الجزائر الحديث بأحجاره الأصيلة، ويؤلف من مواده الصميمة لا الدخيلة، وأنا وافد إخوان إلى إخوانهم، فمن حق الفريقين عليّ أن أعرف بعضهم إلى بعضهم حتى يكون غائبهم كالشاهد.
الشعب الجزائري
الشعب الجزائري فرع من فروع الدوحة العربية الموروثة، لم ينسَ أبوّته، ولم يتنكّر لنسبه على وفرة قواطع الأرحام، ولم يبت صلته بسلائله الأولى المتحدّرة من قحطان وعدنان، ولم تنحرف الضاد عن مجراها في لسانه على كثرة أسباب الاستعجام.
وهو- مع ذلك- عضو في الأسرة الإسلامية الكبرى لم يبتغ بدينه بديلًا منذ هداه الله إليه، ولم تختلف به المذاهب فيه، فَقَلَّتْ بينه أسباب الخلاف والعصبية، ومن سدّ الله عليه بابًا من أبواب الخلاف، فقد فتح له بابًا من أبواب الوفاق.
وقد جرى هذا الشعب من أجياله الأولى على خير ما في العروبة من خلال وعلى أمهات الفضائل الإسلامية، وحافظ عليها محافظة الوارث الصالح على التراث، إن لم يزد فيه لم ينقصه، وامتاز هذا الشعب بخصائص إنسانية، حظ غيره منها قليل، منها الصلابة في الحق، والكرم والصدق والصبر على الشجاعة والجد، والحفاظ للعرض والدين والكرامة، ومنها الاعتزاز بالعروبة والإسلام والشرف، حتى أنه يرضى- عند الضرورة- بإضاعة كل شيء إلا هذه الثلاثة، وقد حلّ به من كوارث في تاريخه الطويل ما ينسي المرء دينه ونسبه وموطنه، ولكن عقيدته في هذه الثلاثة لم تتزلزل، وأصيب منذ مائة واثنتين وعشرين سنة بالاحتلال الفرنسي، وهو في شتات من أمره، واضطراب في أحواله، لعوامل سبقت ذلك الاحتلال وكانت تمهيدًا له، فدافع عن كرامته وكرامة دينه ووطنه كما يدافع العربي الخالص والمسلم المخلص، ووقف المواقف الخالدة عشرات السنين في حماية حقيقته والذود عن حماه، مع فقد الأنصار وانقطاع الوسائل، فلما غلب على أمره خسر الدنيا وما يتبعها من مال وسلطان، ولم يخسر الدين وما معه من رجاء الله يطرد اليأس، ويحفظ الصبر، ويستنزل النصر ويبقي على الأمل، ويغري بمعاودة الكرة، ولكن عدوّه كان أنفذ بصيرة في مكامن القوة، فعلم أن سلاح المسلم هو دينه ويقينه، ثم علمه وماله، فسلّط على دينه عوامل المحو الظاهرة والخفية، ورمى يقينه بأسباب الشك الحسية والمعنوية، وحارب علمه بالتجهيل ومحق حاله بالتفقير، وضرب بينه وبين مأرزه في الشرق سورًا محكمًا، فما أفاق على صوت الدعوة الجهير من جمعية العلماء- وهو أول صوت صك آذانه وفتح أذهانه- إلا وهو فقير من دينه ودنياه، جاهل بدينه ودنياه، مفلس من عقله وفكره، مسلوب من عزيمته وإرادته، ولكن بقي فيه مكمن لم تمتدّ إليه يد الاستعمار وهو مكمن الإيمان بالله وبالنفس، والعلاقة باللغة وبالجنس، وفي هذه المعاني عوض عن كل فائت وسلوى عن كل ضائع، وعلى هذه المعاني وضعت جمعية العلماء أساس أعمالها ومن هذه النقطة بدأت السير إلى غاياتها.
جمعية العلماء
ليس بمبالغ من يقول: إن جمعية العلماء الجزائريين هي أعظم جمعية من نوعها في العالم الإسلامي، على شرط أن يكون ميزان المقارنة هو العمل ومادته ونتيجته، والزمان والمكان وملابساتهما، ثم الموضوع ... فإذا اعتبرنا هذه المعاني في المقارنة وجدنا جمعية العلماء الجزائريين تبذ جميع الجمعيات العاملة في الإصلاح الديني والاجتماعي، والدين يستتبع العلم، والاجتماع يستتبع السياسة، وقد وضعت الجمعية الخطوط الأولى لهذه العصور المتشابكة المتلازمة من أول يوم ثم أتبعتها في الخطوات السديدة فيها جميعًا، على نظام لا ينقض آخره أوله.
وجمعية العلماء صاحبة رسالة مقرّرة ومبدأ ثابت وهدف واضح، ومن خصائصها أن تقول وتعمل وتهدم المتداعي لتبني على أساس صحيح، وتسعى إلى الغايات بوسائلها الطبيعية أو المعقولة، وتراعي سنّة الله في الأنفس والآفاق، وتجري مع أوليائها وخصومها على الجدد الواضح. فلا تسلك بُنَيَّات الطرق، ولا تتبع مضلات العقول ولا خيالات الخياليين، ولما كانت تأوي إلى الركن الشديد من الدين فهي لا تتكثر بغير المؤمنين ولا تعتمد على غير الصادقين المخلصين؛ ولما كان موضوعها الأمة بنت أمرها معها على الصدق والثقة، تعمل للأمة بصدق، وتعمل معها بثقة؛ ولما كان الاستعمار الفرنسي هو الذي قضى على دين الأمة الجزائرية ودنياها، فقد جاهرته بالعداوة وتتبعته في كل ميدان، وفضحت مكايده، وكشفت عن مخازيه، وتحدت قوانينه بالرفض.
والعلاقة بين الجمعية والأمة علاقة روحية، ولذلك فهي تزداد مع كل حادث قوة وتماسكًا، لأن أول الدين وآخره سواء، وزاد هذه العلاقة متانة وتوثقًا أن الجمعية تعمل للأمة في النهار الضاحي وتعاملها على المكشوف، وتبني لها قبل أن تطالبها بالثمن، وتشركها في العمل. فالأمة هي التي تأخذ وهي التي تعطي، ويد الأمة هي التي تقبض وهي التي تدفع، فإذا مرّ شيء من المال بيد الجمعية مرّ عليها وهو منطلق إلى مصلحة شاركت الأمة الرأي المقرر لها والوسيلة المحققة لوجودها.
ونثبت لإخواننا الشرقيين في هذا الموضع حقيقة تاريخية، وهي أن كل ما يوجد اليوم في الجزائر من حركات فهو مدين لجمعية العلماء بوجوده، وكل ما يعلو فيها من أصوات فهو صدى مردد للكلمات النارية التي كان يقذفها لسان مبين يترجم عن علم مكين ودين متين، وهو لسان المرحوم باني النهضات الجزائرية من غير منازع الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه الحية وخطبه المثيرة من يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى أن توفّاه الله في أوائل الحرب العالمية الثانية.
نشأة هذه الجمعية:
أطوار نشأة هذه الجمعية كأطوار نشأة الإنسان، فقد كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى فكرة تجول في خواطر جماعة قليلة من أصحاب الشواعر الحية والتأمّل العميق من علماء الجزائر، ثم استقرّت في ذهنين متجاوبين، أحدهما ذهن جبّار وهو ذهن عبد الحميد ابن باديس، ثم تناولها الذهنان بالإشاعة حتى أصبحت عقيدة ثم تتابعت الدواعي من انتشار الوعي في الأمة فأصبحت حقيقة، وكأن المتلاحق من أحوال الأمة قال لها: كوني فكانت، وجلاها الله لميقاتها، بلا بطء ولا إسراع.
تكوّنت في شكلها القانوني في أواسط عام 1931 ميلادية، وكأن الله جعلها تنقيصًا للاستعمار، فقد كان نشوانًا بخمرة الفرح لمرور مائة سنة على استقراره في الجزائر وقد قضى السنة التي قبلها في مهرجانات صاخبة دعا إليها العالم كله فما لبّى إلا قليل، فما دخلت السنة الثانية حتى فوجى بتكوين جمعية العلماء في غمرة من ابتهاج الأمة بهذا المولود الجديد، ووجم لها الامشعمار وظنّ الظنون، ولأمر يعلمه الله لم يعارض في القانون الأساسي المجمل، ولم يتشدّد في الإجراءات القانونية، أما الإرهاصات التي أفضت إلى هذه المعجزة فقد سبقتها بأكثر من عشر سنوات، هي فترة استعداد بمقدّمات، وتمخّض عن حقائق واحضار للوسائل، وتجاوب بين العقول وتفشِّ للخير في السرائر، وتقويم للأخلاق بواسطة القرآن، وتوجيه صحيح للعناصر الصالحة التي بقيت محتفظة بشيء من سلامة الفكرة ليكونوا أساسًا للدعوة، وألسنة للدعاية.
تشكيلات الجمعية في الوقت الحاضر:
تتكوّن جمعية العلماء- كسائر الجمعيات- من مجلس إداري يتركّب من سبعة وعشرين عضوًا من العلماء، ينتخبهم اجتماع عام، من جميع العاملين في التعليم والتدرش! والوعظ، وشعقد هذا الاجتماع في مدينة الجزائر في شهر سبتمبر من كل سنة إلا لضرورة، ثم ينتخب المجلس الإداري من أعضائه مكتبًا دائمًا، يتوثى تسيير الأعمال، وتنفيذ القرارات، وشقسم بقية الأعضاء على لجان فرعية مسؤولة للمكتب الدائم وتتخصّص كل لجنة بفرع من فروع الأعمال، وهي لجنة التعليم العليا وهي أوسع اللجان وأكثرها أعمالًا، لأنها تنظر في البرامج والكتب والمعلمين والتفتيش والتدريب، والامتحانات الابتدائية، ولجنة الفتيا الدينية، ولجنة الوعظ والإرشاد، ولجنة المراقبة العامة، ولجنة الدعاية، ولجنة تسيير جريدة «البصائر» وهي لسان حال الجمعية، ولجنة ضبط الحسابات المالية، ولجنة البعوث إلى الخارج، ولجنة الاتصال بالشُّعَب المنتشرة في القطر، ولجنة الاتصال بالجمعيات المحلية للمدارس بم ولكل لجنة لائحة داخلية تحدّد اختصاصها، زيادة عن اللوائح العامّة للجمعية، وكلّها شرح للقانون الأساسي، ومن وراء هذه التشكيلات مجلس المسؤولين عن المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، ومن وراء الجميع الشُّعب المنتشرة في مدن القطر وقراه، وعددها الآن يزيد على ثلاثمائة شعبة، وكلها مرتبطة بالمركز العام بواسطة لجنة الشّعب ارتباطًا وثيقًا، ولهذه الشعب نظام وتقسيمات إدارية، فلكل مجموعة من الشعب شعبة مركزية ترجع إليها لتسهيل العمل، وتعقد مؤتمرًا إقليميًا في كل شهر أو شهرين، ثم تعقد الشعب المركزية مؤتمرًا في عاصمة المقاطعة في كل ستة أشهر أو في أقل إن دعا الحال، ثم يعقد رؤساء الشعب كلهم مؤتمرًا سنويًا في مدينة الجزائر قبيل انعقاد الاجتماع العام لتنظيم ومراقبة قوائم الانتخابات ثم ينعقد مؤتمر المعلمين قبيل ابتداء السنة الدراسية للنظر في شؤون التعليم كلها بحضور ممثلين للجنة التعليم العليا.
وتأتي بعد ذلك تشكيلات الجمعيات المحلية، وهي بعدد المدارس، لكل مدرسة جمعية محلية من أهل البلد التي بها المدرسة، وتقوم هذه الجمعيات بالجانب المادي للمدرسة، فهي التي تجبي المال وتؤثث المدرسة وتدفع رواتب المعلّمين شهريًا ثم تقدم الحساب في آخر السنة الدراسية للمكتب الدائم.
العضوية في الجمعية:
أعضاء الجمعية غير الإداريين ثلاثة أقسام: العاملون، وهم أهل العلم، والشرط الأساسي فيهم أن تكون لهم قيمة علمية تؤهّلهم للتسجيل في قوائم الانتخاب على وفق القانون الأساسي، وعدد هؤلاء بضعة آلاف؛ والمؤيدون، وهم الملتزمون بدفع اشتراك سنوي حدّده القانون الأساسي، ولا حق لهؤلاء في الانتخاب، وعدد هؤلاء يبلغ في بعض السنين مئات الآلاف، والأنصار وهم الأتباع العاملون بمبدإ الجمعية في الإصلاح الديني، المعتنقون لفكرتها ... المناصرون لها في الأزمات، وعدد هؤلاء يبلغ الملايين.
جرائد الجمعية:
في طور الاستعداد والتمهيد كان لسان حال الفكرة الإصلاحية هو جريدة «المنتقد» وقد أسّست لهذا الغرض، على قاعدة أن الباطل إذا استحكم ورسخ فمن الحزم أن تصدمه صدمة عنيفة تضعضع أركانه، لذلك كانت شديدة اللهجة قاسية الأسلوب صريحة التجريح، فضاق بها الاستعمار وأعوانه فعطّلوها، وخلفتها مجلة «الشهاب» الشهرية داعية إلى الحق في الدين والدنيا، صادقة الحملة على الضلال في الدين والسياسة، متحدية للاستعمار وهو في عنفوان طغيانه، وكانت حليتها الفاخرة إعلانها لآراء الإمام عبد الحميد بن باديس في الدين والسياسة أو في فصول من تفسيره للقرآن بقلمه البليغ، و «الشهاب» مجلة ولدت راقية، ويقل نظيرها في المجلات العربية في حرارة الدعوة وجرأة الرأي، وقد حماها الله من التعطيل، بما كانت تحمله من دعوة الحق، فهي أطول صحف الجمعية عمرًا، وعاشت ماهدة للدعوة سنوات، ولما تشكّلت الجمعية كانت لسانها المبين، إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية فعطّلناها اختيارًا، ثم لم تعد إلى الصدور.
ولما اتسعت الحركة عزّزتها الجمعية بجريدة أسبوعية اسمها «السنة» فعطلتها حكومة الجزائر، لأنها- إذ ذاك- لم تتعوّد سماع تلك اللهجات الحارّة، فأصدرت الجمعية في الأسبوع نفسه جريدة «الشريعة» وكانت أشدّ على الاستعمار من سابقتها فعطّلتها الحكومة بعد أسابيع من صدورها، فأصدرت الجمعية في الحين جريدة «الصراط» أحدّ لسانًا وأقوى بيانًا من أخواتها، فعاجلتها الحكومة بالتعطيل، وكان تعطيلها بقرار وزاري من باريس، وفي هذا القرار من العجائب أنه صرّح بأن اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، وأن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء فهي معطلة من قبل أن توجد، ولا يشبه هذا القانون المجنون إلا الحكم بالإعدام على من لم يخلق.
وسخرت الجمعية من هذا القرار، وأصدرت- بعد مدة- جريدة «البصائر» فسكت الاستعمار ومحا قراره بيده، وبقيت «البصائر» سائرة في طريقها، ناصرة لفريقها إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية، فعطلناها باختيارنا، لأننا لا نستطيع أن نقول ما نريد، ولا نرضى أن نقول ما يراد منّا، فلما انتهت الحرب وما استتبعته من نفي واعتقال أعدنا صدورها، وهي سائرة على منهاجها القويم إلى الآن، فخورة بالمواقف المشهودة التي وقفتها في قضايا الجزائر ومراكش وتونس وليبيا وفلسطين، وقد شهد الموافق والمخالف بأنها مواقف لم تقفها جريدة عربية على الإطلاق، ومجاميعها بلغت تسعة مجلدات، مسجّلة لأعمال جمعية العلماء.
من علم ما في هذا الفصل- وهو الواقع - علم مصدر الصيحة الأولى في وجه الاستعمار الفرنسي.
مالية جمعية العلماء:
ليس لهذه الجمعية الكبيرة الأعمال، الكثيرة المشاريع، مورد مالي قار وهي تعتمد في تسيير مشاريعها الضخمة على الأمة من طريق اشتراكات سنوية يدفعها الأعضاء العاملون والمؤيدون أو تبرعات الأنصار أو زكوات يدفعها الموسرون المؤمنون، وفرنسا واقفة بالمرصاد: فكل من بلغها إعانته لجمعية العلماء انتقمت منه بتعطيل مصالحه حتى رخصة الحج، أو بفرض ضرائب ثقيلة على مورد رزقه.
وصندوق جمعية العلماء يموّن عدّة مشاريع متمايزة بميزانيتها. فـ «البصائر» تعيش معيشة ضيّقة على أثمان الاشتراكات والمبيع، والعجز السنوي ملازم لميزانها كما هو الشأن في جرائد المبادئ، والمكتب الدائم ينفق على موظفيه وكتابه وسائر ضرورياته من حساب الاشتراك السنوي الذي تجمعه الشُّعب، والمعهد الباديسي له ميزانية خاصة على التفصيل الآتي، تتغذّى من الزكوات التي يدفعها المؤمنون بالله، ومن اشتراكات سنوية تشترك فيها طبقات كثيرة.
هذه الأمة الفقيرة التي أجاعها الاستعمار هي التي بنت بِدُرَيْهِمَاتِهَا صروحًا للعلم وحصونًا لأبنائها، وهي التي تعهّدت بتعمير تلك الحصون والإنفاق عليها.
أعمال الجمعية لحفظ الإسلام على مسلمي فرنسا:
في فرنسا جاليات إسلامية مختلفة تبلغ مئات الآلاف، وفيها من العمّال الجزائريين وحدهم نحو أربعمائة ألف، وهم في ازدياد مطرد، بسبب ما ضيّق الاستعمار على الجزائر من سبل المعيشة، فهاجرت هذه الجالية تطلب العيش من طريق العمل واستقرّت في مراكز الصناعات في فرنسا، وتزوّج كثير منهم من أوربيات عاملات وولد لهم في أرض مسيحية من زوجات مسيحيات، فكانت النتيجة اللازمة لهذا أن الآباء أضاعوا دينهم بتأثير البيئة فضلًا عن الأبناء الذين اجتمعت عليهم البيئة والأمهات والقانون، إنهم بلا شك ينشأون مسيحيين خالصين.
هال جمعية العلماء هذا الخطر الذي يسلخ من الأمة الجزائرية على التدريج أجيالًا، فيكون ذلك نقصًا منها وزيادة في عدوّها، فصمّمت على أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذا العدد الضخم، فندبت أحد شبابها المجاهدين، وهو الاستاذ الفضيل الورتلاني للقيام بهذا العمل في باريس سنة 1936، فأسّس في سنة واحدة ثمانية عشر مركزًا تعليميًا في باريس وأطرافها، ثم وسّع الحركة إلى المدن الكبيرة في جنوب فرنسا وشمالها، وتعددت المراكز وأمدّته الجمعية بالمعلّمين، فكانت تلك المراكز تعلّم الأطفال العربية والدين ساعات من النهار، فإذا جاء الليل أقبل الكبار فتلقّوا دروسًا سهلة في أصول الدين وفروعه ومارسوا العبادات العملية، فكانت هذه المراكز كخلايا النحل لا تنقطع منها الحركة، وكان الإقبال عظيمًا، وقد أثمرت تلك الحركات ثمرات ما زالت حديث الناس، وتردّد على تلك المراكز عظماء العرب من الزوّار وأبناء العرب من التلامذة فأعجبوا بالعمل ونظامه وأعظموا نتائجه، وكانت جمعية العلماء الجزائريين مضرب المثل بينهم، ولكن الحرب الأخيرة قضت على ذلك العمل المثمر فلم تبق إلا الأحاديث والأماني والحسرات، وحاولت جمعية العلماء الجزائريين إطلاقه مجددًا، فأوفدت منذ عامين رئيسها ووكيلها إلى باريس ليدرسا المشروع ويحاولا إحياءه بقدر المستطاع، فاعترضتهما عقبة أخرى بعد عقبة المال وهي استحالة وجود الأماكن إلا بأثمان فاحشة، ولم يحصلا من رحلتهما إلا ما يثير العبر، ويسيل العبرات، وهو أن عدد العمّال الجزائريين في باريس وأطرافها جاز مائة وخمسين ألفًا، وأن عدد الأولاد الذين نسلوهم من أمهات مسيحيات يزيد عن عشرين ألفًا من بنين وبنات، وهذا في باريس وحدها، وهو قليل من كثير ... وما زاد وفد الجمعية على أن اشترى مركزًا متواضعًا ليكون رمزًا للمشروع ونقطة بدء في تحقيقه.
إن هذا المشروع لا تقوم به إلا حكومات إسلامية متضامنة تمدّه بالمال وإن هذا الواجب ليس مقصورًا على جمعية العلماء الجزائريين وحدها، بل على المسلمين كلهم، وفي طليعتهم الحكومات العربية، فهل يبلغ آذانهم هذا الصوت؟ وهل يحرّك هممهم إذا بلغها؟
ليت شعري ... لو يشعر هؤلاء المترفون من إخواننا الشرقيين الذين ينفقون مئات الملايين في ملاهي باريس، وعلى شياطين باريس وموبقات باريس ... لو يشعرون بأن في باريس التي يهرعون إليها في كل عام عشرات الآلاف من أطفال المسلمين يسبيهم الكفر في غير حرب، وأنهم مسؤولون عنهم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. أم أن الهوى أصمّهم وأعمى أبصارهم؟
مواقف مشهودة لجمعية العلماء:
ولهذه الجمعية- بتوفيق الله- في كل حادثة غريبة موقف مشهور، ولها في كل ملمة تلمّ بالمسلمين في الشرق أو في الغرب موقف مشهود، ومن تتبّع مجاميع صحفها وقف على الكثير من ذلك، ولكننا نقتصر على المواقف ذوات الغرر والشيات.
موقفها من المبشّرين المسيحيين:
الجزائر مركز ممتاز لجمعيات التبشير المتعددة التي يصبّ عليها المال هباءً والتي تتخذ من المال أدوات للتنصير، والاستعمار الفرنسي مسيحي بالطبع، وإن غطَّى ذلك بألف ثوب، ولذلك نجده من وراء كل حركة تبشيرية يحميها وييسّر لها ويمهّد السبل للانتشار، ومن هذه السبل الشيطانية خلقه للمجاعات في وطن كله خير وفير، ليحمل العراة الجياع على الالتجاء إلى رسل الرحمة المبشّرين، وان الحاكم المدني العام في الجزائر، لرهن بإشارة من إشارات رئيس الكنيسة الكاثوليكية، بل ان هذا الرئيس المسيحي هو الحاكم في الحقيقة.
وجمعية العلماء عملية واقعية، فرأت أن تيّار التبشير المؤيّد بأسباب القوة لا يقاوم بالأقوال وأنه لا يقاوم إلا بتقوية المعاني الدينية في النفوس، ومنها القيام بحق الله في البائس الفقير والرحمة باليتيم، والبر بالمساكين، وشرحت للأمة المنافذ التي يتسلّل منها هؤلاء المبشّرون. وما كادت آثار تربية جمعية العلماء تظهر وتأخذ مأخذها من النفوس حتى أحسّ المبشّرون بالشرّ يطرق ساحتهم وحتى تنادوا مصبحين واستَعْدَوا الحكومة على جمعية العلماء، وكانوا أقوى الأسباب فيما نالها من عنت، وجَدَّتْ الجمعية في حرب التبشير بالعمل فلا تواتيها فرصة لفتح مدرسة عربية إسلامية، في مركز من مراكز سلطانهم، إلا بادرت إلى تشييدها تحت أسماعهم وأبصارهم، إغاظة لهم وسدًّا دون أمانيهم وإبطالًا لكيدهم وما أغنت قوّتهم ولا حماية الحكومة لهم شيئًا.
ونحمد الله على أننا خفّفنا من شرور هذه الفتنة، وعلى أن في الجسم الجزائري مناعة تدفع عنه غوائل هذا البلاء، والمبشّرون أنفسهم يشهدون أنهم لم تستنزل رقاهم إلا واحدًا أو اثنين في الآلاف من جرائمهم، وأن جمعية العلماء هي أقوى خصم لهم في هذا الباب.
موقفها من الإلحاد:
دخل داء النزعات الإلحادية إلى الجزائر في ركاب الاستعمار، يتمشّى مع الحضارة الغربية ويتفشّى في علومها وآدابها، وأمدّه الاستعمار بالقوّة، ليغالب به العقائد الثابتة وليضلّ به المهتدين، أو يحول به بين الضالين وبين الهداية، وقد حالت جمعية العلماء بينه وبين الانتشار بما أفاضت على العقول، وأشاعت في النفوس من الهدي المحمدي، وحاصرته بحقائق الإسلام فحصرته في أضيق الأمكنة، وفي نفوس كأنها رموس.
موقفها من الخمر:
يعترف بائعو هذه المادة الخبيثة أن كل بلدة تمكّنت فيها دعوة جمعية العلماء بارت فيها سوق الخمر، وقد أفلس كثير منهم بهذا السبب، وهذه حقائق ملموسة لا يختلف فيها اثنان.
موقفها من تعليم المرأة:
كان الجمود واقفًا في سبيل المرأة ومانعًا من تعليمها، فجاءت جمعية العلماء وأذابت الجمود وكسرت السدود وأخرجت المرأة من سجن الجهل إلى فضاء العلم في دائرة التربية الإسلامية والمنزلة التي وضعت المرأة فيها، والجمعية تبني أمرها على حقيقة، وهي أن الأمة كالطائرة لا تطير إلا بجناحين، وجناحاها هما الرجل والمرأة. فالأمة التي تخصّ الذكر بالتعليم تريد أن تطير بجناح واحد، فهي واقعة لا محالة، ولجمعية العلماء جولات موفّقة في هذا الميدان، فالنساء أصبحن يشهدن دروسًا خاصّة بهن في الوعظ والإرشاد ويفهمن ما للمرأة وما عليها، وشهد الرجال بتبدّل الحال وظهور النتائج في المحافظة على العرض والمال وفي إحسان تدبير المنزل وتربية الولد، وفي مدارس جمعية العلماء نحو ثلاثة عشر ألف بنت، يشاركن الأولاد في السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية، ثم ينفردن ببرنامج محكم، وينعزلن في صفوف خاصة مع الشدة في التربية الإسلامية، والدقة في المراقبة.
موقفها من السياسة الجزائرية:
إذا كان الإسلام دينًا وسياسة، فجمعية العلماء دينية سياسية، قضية مقنعة لا تحتاج إلى سؤال ولا إلى جواب، وجمعية العلماء ترى أن العالم الديني إذا لم يكن عالمًا بالسياسة ولا عاملًا لها فليس بعالم، وإذا تخلّى العالم الديني عن السياسة فمن ذا يصرفها ويديرها؟ لا شك أنّه يتولاها الجاهل المتحلل فيغرق السفينة ويشقي الأمة، وكثيرًا ما غلطنا الاستعمار حين يضيق ذرعًا بنا، فيقول أنتم علماء دين فما لكم وللسياسة؟ إن الدين في الإسلام سياسة، وإن السياسة دين، فهما- في اعتباره- شيئان متلازمان، أو هما شيء واحد، وقد جاراه في النغمة الممجوجة بعض ضعفاء الأميين من سماسرة السياسة منّا، والغرضان متقاريان: فالاستعمار يريد أن يزيحنا عن طريقه فيزيح خصمًا عنيدًا يمنعه العلم أن يخدع ويمنعه الدين أن يساوم في حق قومه، وضعفاء الإيمان من قومنا يريدون أن يخلو لهم الجو فيعبثوا ما شاء لهم العبث ولا علم يصدع ولا دين يردع.
لجمعية العلماء في كل نقطة من السياسة الجزائرية رأي أصيل، تجهر به وتدافع عنه وتذيعه في الناس وتخالف رأي غيرها بدليل، وتوافقه بدليل، لأنها لا تقبل التقليد في الدين وكيف تقبله في الدنيا؟ وصفوة رأي الجمعية في السياسة الجزائرية تحرير الجزائر على أساس العروبة الكاملة والإسلام الصحيح والعلم الحي، وعلى ذلك فهذه الجهود الجبّارة التي تبذلها جمعية العلماء في سبيل العربية والإسلام والتعليم كلها استعداد للاستقلال، وتقريب لأجله، ولكن كثيرًا من قومنا لا يفقهون، أو لا يريدون أن يفهموا، ولو أرادوا أن يفهموا لحكموا المحسوس الذي لا يرتابون فيه، وهو أن جمعية العلماء حرّرت العقول وصقلت الأفكار وأيقظت المشاعر. والنتيجة الطبيعية لذلك كله هي تحرير الأبدان، لأن الأول مدرجة إلى الثاني.
إن أوربا ما استعبدت الشرق إلا بعد أن أفسدت أخلاقه وأضعفت روحانيته، وهيهات أن ينقذ الشرق نفسه من العبودية لأوربا إلا بعد أن ينقذ نفسه من نفسه، وقد مرّت على مصر سبعون سنة وهي في كفاح متواصل مع خصمها، ولو أن قادة الرأي فيها ربوا جيلًا واحدًا على الروحانية القوية لما قامت للخصم قائمة مع الجيل الثاني.
هذه حقيقة عريانة من أنكرها فهو ساعٍ إلى الحقيقة على جسر من الخيال.
موقف فرنسا من الجمعية:
تعتقد فرنسا أن أعدى عدو لها هو جمعية العلماء الجزائريين لأنها كشفت عن مكايدها الخفية، وناقضت كل عمل لها بضده، فهي تهدم وجمعية العلماء تبني، وهي تُجهّل، والجمعية تعلم، وهي تنوم والجمعية توقظ، وكفى بهذا سببًا للعداوة التي لا صداقة معها، ويمنعنا الخجل أن نذكر ما لقيته الجمعية من فرنسا ... فإنه في سبيل الله.