هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
لم تتّسع العربية- على رحب آفاقها- لذلك المعنى الجليل الذي بدأ تاريخًا، وأنهض أمّة واستأنف عالمًا، فسمّته بأقرب الكلمات إلى معناه، وبما يدلّ على ظاهره الذي هو انتقال جسماني- من بلد إلى بلد- كما لم تتّسع لمعنى حركة الشمس في أفلاكها فسمّته بأضعف مظاهره وبما تدرك العين منه وقالت: سبْح جرَيَان وجاء العلم فشرح ووضّح وفسّر وتوسّع، وهذا شأن اللغة كلما عجزت عباراتها الوضعية عن تأدية معنى عظيم، وضاقت عن تحديده، أطلقت عليه كلمة، تردّدها الألسنة، ويتعارفها الناس، وتشير ولا تحدّد، وتركت للعقول التوسع في تصوير الحقيقة، وإبعاد النجعة في طلبها؛ أما الاسم الذي جُعل عنوانًا على الحقيقة فلم يعدُ أن كان منبهة، كما جعلتْه اللغة، وهذا شأنها في الكلمات ذات المدلول الواسع مثل الخير والعلم والحق والجمال، ولغات العالم في هذا الباب واحدة، لأن عقول الناس فيه واحدة أو متقاربة.
انتهى الحكم في ذلك المعنى الجليل إلى التاريخ بعد اللغة فسمّاه الهجرة النبوية المحمدية، وكشف بهذين الوصفين بعض السر، ونبّه العقول إلى أنها هجرة من نوع آخر، ومضى يربط سوابقها بلواحقها، ويصف، وفي كل وصف مثار للإحساس، ويقصّ، وفي كل قصّة موضع للعبرة، ويروي الوقائع، وفي كل واقعة جيش لجب من الحماس، ويحكي الأقوال، وفي كل قول مجال للحكمة، ويسلسل الحوادث، وفي كل حادثة مسرح للعقل، ويسمّي الأشخاص، وفي كل شخص وقفة للتوسم، ويستعرض الآراء، وتحت كل رأي نسق من التدبير، ثم يبني النتائج على المقدمات، ويصل الآثار بالمؤثّرات، وينتهي وقد كشف عن ذلك المعنى الجليل الذي ضاقت عنه كلمة (هجرة) أتمّ كشف، وفسّره أكمل تفسير.
لا كاشف للحقائق الكونية كالبحث، ولا شارح للأسرار الدينية كالتدبّر، ولا محلِّل للأحداث الاجتماعية كالتاريخ، أما اللغة فوظيفتها وضع العنوان ورسم الخطوط، ومن طلب من اللغة ما هو فوق ذلك فهو لاغٍ.
كانت الهجرة- بهذا المعنى الخاص- وما زالت، هروبًا من الباطل والمبطلين، ونجاءً بالنفس أو بالعقيدة أو بهما، فهي في خلاصتها انهزام يعتذر بالضعف إلى أن يجد القوّة، وفرار بعزيز يخاف عليه إلى حيث يؤمَن عليه، لم يخرج عن هذا المعنى حتى هجرة الأنبياء والصدّيقين كإبراهيم ولوط هاجرا من بابل إلى كنعان، ولم يرجعا إلى بابل من كنعان، أما هجرة محمد وأصحابه فكانت هجرة قوّة كاثرها الباطل المتهافت، والشِّرك المتخافت، وعاقها عن امتداد العروق، وبُسوق الأفنان في أرضها التي فيها نبتت. وجوّها الذي فيه تنفّست، وقد طاش ذلك الباطل الطيشة الكبرى، وبحث عن حتفه بظلفه، فأخرج تلك القوّة إلى حيث تزداد قوّةً ورسوخًا، وهذا من عجيب صنع الله لهذا الدين القويّ الراسخ.
من اللطائف أن القرآن ذكر قصّة الهجرة المحمدية من مكة إلى يثرب بأسلوب ليس من نسق التاريخ فسمّاها إخراجًا من الذين كفروا ولم يسمّها هجرة بصريح اللفظ، وإن سمّى الصحابة المهاجرين، ونوّه بالهجرة، وحضّ عليها، وقرنها بالإيمان، وجعلها شرطًا في الولاية فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} وبعض الحكمة في ذلك أن التذكير بالإخراج من الديار يُذكي الحماس، ويُبقي الحنين إلى الديار متواصلًا، ويُنمّي غريزة الانتقام والأخذ بالثأر، وأن إيجاب الهجرة بتلك الأساليب المغرية البديعة، هو جمع لأنصار الحق في مأرز واحد، بعد تشتّتهم لينسجموا ويستعدّوا إلى الرجعة والكرّة.
وانظر إلى بدر والحديبية وعمرة القضاء تجدها كلها تعبِّر عن اتجاه وتحويم، وعن حنين إلى مكّة تدل مظاهره على خفاياه، ثم انظر أية ثورة تثيرها في النفوس الحرّة آية: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وآية: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
إن للإخراج من الديار لشأنًا أيّ شأن في القرآن، فهو يُبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه، وهو يقرنه بالقتل تشويهًا له وتشنيعًا عليه، وإن له في نفوس الأحرار لأثرًا يتعاصى عن الصفح والعفو، وإن له في نفس سيد المرسلين لوقعًا مؤلمًا من يوم قال له ورقة: "إذ يخرجك قومك"، فقال: "أوَ مخرجيَّ هم؟ " إلى يوم أخرجه قومه بغير حق، إلى يوم أخرجه ربّه إلى بدر بالحق، إلى يوم صدَقَه ربّه الرؤيا بالحق.
ما زلت منذ درست السيرة بعقلي، أقف في بعض مقاماتها على ساحل بحر لجيٍّ من العبر والمثُلات، ومن بين تلك المقامات حادثة الهجرة. فلا يكاد عقلي يستثير بواعثها الطبيعية حتى أتلمَّح العوامل الإلهية فيها فأستجلي من بعض أسرارها التمهيد للجمع بين أصلي العرب اللذين كانا في الجاهلية يتنازعان ملاءة الفخر. ويُؤَرّث الرؤساءُ والشعراءُ بينهما نار العصبيّة، حتى أضعفتهما العصبية، وحتى أطمع الضعف فيهما جاريهما القويين: جار الجنوب الحبشي، وجار الجنب الفارسي، وكادا يستعبدان هذا الجنس الحرّ لولا أن فال رأي أبرَهَة في الفيل، ومالتْ رايات فارس في ذي قار.
جاءت النبوّة من مكة إلى المدينة تعمل عملها في جمع القوّتين اللتين أحالهما التفرّق ضعفًا. فجمعت المهاجرين والأنصار، وكأنما جمعت عدنان وقحطان في دار، يتصافحان على العروبة، ويتآخيان على الإسلام، ويُحيِيان من الأواصر والشوابك ما أماتته عِبِّيَّةُ الجاهلية، ويُميتان من النعرات المفرّقة ما كانت تحييه المنافرات والمفاخرات، وفي عقد التآخي بين المهاجرين والأنصار عنوان ذلك ودليله، ولو دامت للقرآن هيبته في الأفئدة وسلطانه على القلوب لما نبض عرق اليمانية والقيسية في الدولتين الأمويتين بالشرق والأندلس، ولما نجمت تلك النواجم التي ذهبت بريح العرب، ولما وجَّهت الدعوة العباسية وجهتها إلى خراسان، ولما بقيت هذه العروق الدساسة التي ما برحت تنفث السم في قلب الجزيرة العربية إلى الآن.
ليت شعري ... وليتٌ يقولها المحزون، هل تحمل ذكرى الهجرة المتكرّرة مع كل عام، أولئك اليمانيين الراكدين وهم جمهرة أنساب قحطان، وأولئك الحجازيين الراقدين، وهم منحدَر دماء عدنان، على أن يتداعَوا إلى ما تداعى إليه أجدادهم، وأن يتآخوا على ما تآخوا عليه؟
هل يرجعون بالذاكرة إلى بيعة العقبة وما جرت للعرب من أخوة وسيادة، وعزّة وسعادة، فيتبايعون على حماية الحوزة العربية والذب عن حياض العروبة؟
هل آن لهم أن يعلموا أن هذه المذاهب التي صيّرتهم أوزاعًا في الدين والدنيا هي السبيل المفرّقة عن سبيل الله الواحد، وهي التي نهى الله عن اتّباعها؟
هل يعلمون أن طلّاب الغاز غزاة، وأن الشركات أشراك، وأن رؤوس الأموال الأجنبية ذات قرون ناطحة، وأن الوطن الذي يعمر بمال الأجنبي ويد الأجنبي وعلم الأجنبي! محكوم عليه بالخراب، وإن تعالت في الأفق قبابه، وكُسيت بوشي السماء هضابه، وسالت بذهب الأرض شعابه؟
* نُشرت في العدد 14 من جريدة «البصائر»، 17 نوفمبر سنة 1947.