ابن باديس.. مقاومة الاستعمار بالعلم وتحرير العقول

بقلم: محمد حماد-

هو الإمام المصلح المجدّد عبد الحميد بن محمّد المصطفى بن المكّي بن باديس القسنطيني الجزائري، (4 ديسمبر 1889-16 إبريل 1940)، واحد من أهم رجال الإصلاح في الوطن العربي ورائد النهضة الفكرية والقدوة الروحية لحرب التحرير الجزائرية، ومؤسس ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لقب بألقاب عديدة فهو المصلح الثوري، والشاعر الصحفي، والعالم المفسر، والمعلم المربي، والكاتب السياسي، وقد ارتبط اسمه لدى الجزائريين بالعلم، ولذا يحتفلون في 16 إبريل من كل عام بيوم العلم تخليداً لذكراه.

ولد الإمام ابن باديس يوم 11 ربيع الثاني 1307 الموافق 4 ديسمبر 1889 بمدينة قسنطينة من مدن شرقي الجزائر، وسط أسرة عريقة، مشهورة بالعلم والفضل والثراء والجاه، ترجع في أصولها إلى المعز بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية، الذي أعلن انفصال الدولة الصنهاجية عن الدولة الفاطمية، وأعلن فيها مذهب أهل السنة والجماعة، وأبوه محمد المصطفى بن باديس كان حافظاً للقرآن ومن أعيان المدينة، واشتغل قاضياً وعضواً في المجلس الجزائري الأعلى.

نشأ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة ولم يلتحق بالمدارس الفرنسية، وحفظ القرآن على الشيخ محمد المداسي، ثم اختار له والده أحد الشيوخ الصالحين، وهو الشيخ حمدان الونيسي، فدرس معه مبادئ العربية والعلوم الإسلامية، وقد أوصاه بأن يقرأ العلم للعلم لا للوظيفة ولا للرغيف، وأخذ عليه عهداً ألاَّ يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا، وقد نفذ ابن باديس وصية شيخه تنفيذاً كاملاً.

زيارات مثمرة

أرسله والده في عام 1908م إلى تونس لتحصيل العلم في جامع الزيتونة العريق. فدرس الأدب العربي على الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وتفسير القرآن على العالم الكبير محمد النخلي، والتاريخ العربي والإسلامي على الأستاذ البشير الصفر، وكان هؤلاء العلماء الثلاثة من خيرة أساتذة الزيتونة ورواد النهضة في تونس.

في 1913م سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والاتصال بعلماء الشرق، فالتقى أستاذه الشيخ حمدان الونيسي ومحمد البشير الإبراهيمي والعالم الكبير الشيخ حسين أحمد الهندي وألقى دروساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

في عام 1332ه -1913م ارتحل عبد الحميد بن باديس إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والالتقاء بأستاذه الونيسي، الذي صار مدرساً بالمسجد النبوي. وفي المدينة التقى لأول مرة الشيخ البشير الإبراهيمي العالم والأديب الجزائري الذي سبقه إلى المدينة عام 1911م.

وكان في نية الشيخ ابن باديس أن يستقر في الحجاز، إلا أنه سرعان ما استجاب لنصيحة الشيخ الهندي بالرجوع إلى الجزائر لخدمة دينه ووطنه. وفي طريق عودته إلى الجزائر في 1914م، مر ابن باديس بالشام واجتمع بعلمائها وأدبائها، وزار مصر وعلماءها، والتقى الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك فأجازه، وزار أيضاً الجامع الأزهر واطلع على مناهج التدريس فيه.
وقد سمحت له تلك الفترة بالاطلاع على العلوم الحديثة وعلى ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من إصلاحات دينية وسياسية، في مصر وفي الشام وغيرهما، وقد كان لهذا المحيط العلمي والبيئة الاجتماعية، والملازمات المستمرّة لرجال العلم والإصلاح الأثر البالغ في تكوين شخصيته ومنهاجه في الإصلاح.

مقاومة الخرافات

عاد ابن باديس إلى الجزائر التي أنهكها الاحتلال الفرنسي ثقافياً وعسكرياً، وعلم أن الرجوع إلى محاضن التربية المفتقدة ونشرها بين الصبية والفتية هو الأمر الواجب في ذلك الوقت، لمقاومة الجهل والأمية ثم لمقاومة الخرافات والبدع التي كانت قد انتشرت بفعل انحراف الطرق الصوفية، فشرع في نشر الكتاتيب والمدارس في كل مكان يستطيع أن يصل إليه.

اتخذ الإمام عبد الحميد بن باديس الجامع الأخضر مركزاً لنشاطه التربوي وكان يحضر دروسه أكثر من ثلاثمائة طالب. ويدّرس فيه التفسير والحديث والفقه والعقيدة وعلم التجويد والنحو والصرف والحساب والجغرافيا. وكان يحث طلبته على تعلم اللغة الفرنسية إذ صارت مادة مقررة على التلاميذ في جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي يشرف عليها في قسنطينة.

راسل ابن باديس علماء الزيتونة والأزهر للحصول على منح دراسية لطلبته، فأوفد بعثات طلابية إلى القاهرة وتونس ودمشق. وكان ابن باديس يضع آمالاً كبيرة فيها وينظم حفلاً كل عام لاستقبال المتخرجين بتفوق وتكريمهم، وكان ينشر أسماءهم في مجلة الشهاب تحت عنوان: «نجوم الجزائر» تشجيعاً لهم وتعريفاً بهم.

«الوطن قبل كل شيء»

أنشأ ابن باديس أولى جرائده وسمّاها «المنتقد» بما يحمله الاسم من دلالة واضحة، وكان شعارها «الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء»، وشاركه في إصدارها رفيق دربه العلامة محمد البشير الإبراهيمي أحد أكابر مصلحي الجزائر، وقد عملا من خلالها على مقاومة الجهل والتخلف ومواجهة البدع من دون التعرض للأشخاص، ويعزو كثير من المؤرخين لحياة ابن باديس اتجاهه لإنشاء هذه الجريدة إلى تأثره بالدور الذي قامت به مجلة المنار المصرية التي كان الشيخ محمد رشيد رضا هو المشرف والقائم عليها.

لم تصبر السلطات الفرنسية على جريدة «المنتقد» طويلاً فأغلقتها، لكن ابن باديس ورفاقه لم يتوانوا عن إنشاء صحيفة أخرى، وظهرت صحيفة «الشهاب» التي كان لها صولات وجولات في فنون التفسير والحديث والتربية والتقويم والشأن السياسي والاجتماعي، واستمرت في الصدور حتى توقفت بضغط فرنسي إبان الحرب العالمية الثانية في سبتمبر سنة 1939م.

في عام 1930م أقامت السلطة الفرنسية في العاصمة الجزائرية احتفالاً صاخباً بمناسبة الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، واعتبر ابن باديس ذلك الاحتفال إهانة للجزائريين وفكّر في تلك الفترة في تجديد النداء للعلماء والأئمة الجزائريين لتأسيس جمعية قوية لمقاومة الاستعمار والرد على أعوانه من الطرقيين والعلماء الرسميين، فتأسست «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» في 5 مايو 1931م، وعُيِّن عبد الحميد بن باديس رئيساً للجمعية، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائباً له، ومن أهدافها: محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر، وكل ما يحرمه الشرع وينكره العقل. والواقع أن الجمعية خاضت في السياسة بطريقة أخرى عندما أنشأت المدارس العربية في مدن الجزائر وقراها، وعندما نادت بالأخوة الإسلامية وحقوق الإنسان ومناهضة الظلم والاستعباد.

وكان هدف هذه الجمعية لم شمل علماء الجزائر وتوحيد صفوفهم لمقاومة الأدواء الأخلاقية والتربوية والسياسية التي تعانيها الجزائر، وانبثقت عن جمعية العلماء مجموعة من الآثار منها إنشاء العشرات من المدارس والكتاتيب في طول الجزائر وعرضها، كما انبثق عن الجمعية عدد من الجرائد المتتابعة لنشر الوعي ومقاومة الجهل والخرافات.

ولعل أهم الأدوار التي قامت بها جمعية علماء المسلمين التي أسسها ابن باديس دورها في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية للجزائريين.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.