هل لمن أضاع فلسطين عيد ؟
للناس عيـد ولـي همّان في العيــد……فـلا يغرّنـك تـصـويبي وتصعيـدي
هـم التـي لبثـت في القيـد راسفة……قرنا وعشرين في عسف وتعبيد
وهم أخـت لهـا بالأمـس قـد فنيـت……حمـاتـهــا بيـن تقتـيـل وتـشريــد
كان التياخي لها في صفته عقدت……من ساسـة الشـر تعريبـا بتهويــد
جرحـان مـا برحـا في القلب جهما……مـود وتـــركـهـا - لشـقوتي - مـود
ذكـرت بيتـا لـه فـي المبتدأ خــبـر……في كل حفل من الماضين مشهود
إن دام هــذا ولـم تحـدث لـه غـيـر……لـم يبـك ميـت ولـم يفرح بمـولــود
ويح إحياء القلوب وإيقاظ الإحساس ماذا يتجرعون من جوع الأسى في هذه الأعياد التي يفرح فيها الخليلون ويمرحون، أيتكلفون السرور والأنباط قضاء لحق العرف ومجاراة لمن حولهم من أهل وولدان وصحب غافين وجيران، أم يستجيبون لشعورهم وينزلون على حكمه فلا تفتر لهم شفة عن ثغر ولا تتهلل لهم سريرة ببشر ولا تشرق لهم صفحة بسرور.
ويح النفوس الحزينة من يوم الزينة أنه يثير كوامنها ويحرك سواكنها فلا ترى في سرور المسرورين إلا مضاعفة لمعاني الحزن فيها ولا ترى في فرح الفرحين إلا أنه شماتة بها.
مرت علي وأنا في الجزائر عدة أعياد من السنوات الأخيرة التي صرح فيها الشر للعرب والمسلمين عن محضة فكنت ألقى تلك الأعياد بغير ما يلقاها به الناس، ألقاها بتجهم اخطراري وانتباض نفسي وكان الرائي يراني وأنا معه وأراه وكأنه ليس معي، فقد كانت تظللني في العيد سحائب من الكآبة لحال قومي العرب وإخواني المسلمين وأنا كثير التفكير فيهم والاهتمام بهم والاغتمام من أجلهم فأغبطهم لأنهم في راحة مما أنا فيه وأزدريهم حينا لأنهم لم يكونوا عونا لي على ما أنا فيه، وما أشبههم في الحالتين إلا بالغنم التي تساق إلى الذبح وهي لاهية تخطف الكلأ من حافتي الطريق لأنها لا تدري ما يراد بها.
وجاءت نكبة فلسطين فكانت في قلبي جرحا على جرح وكانت الطامة والصاخة معا وكانت مشغلة لفكري بأسبابها ومآسيها وعواقبها القريبة والبعيدة فلا تصور لي الخواطر إلى أشنع ما في تلك العواقب وكأن أحزان السنة كلها كانت تتجمع في يوم العيد وكنت أغطي باطن أمري بالتجمل فإذا عدمت المتنفس من الرجال والأعمال والأحوال رحبت إلى العيد الذي هو مثار أشجاني فجردت منه شخصا أخاطبه وأناجيه وأشكوه وأشكو إليه وأسأله وأجيبه وأبثه الشكاية من قومي غيظا على القادرين وتأنيبا للغادرين حتى اجتمعت لي من ذلك صحائف مدونة نشرت القليل منها بين الناس وطويت الكثير إلى حين. ثم رحلت إلى الجزائر في السنة الماضية فكانت بيني وبين الأعياد هدنة عقد أولها العراق ومخايل الرجاء فيه وعقدت آخرها مكة ومخايل الرجاء في الله وهذا هو العيد الثالث يظلني فبماذا أستقبله؟
أنا الآن أشد تأثرا بنكبة فلسطين مني في الماضي.
فقد لمست يدي الجرح وهو بالدم يثعب ورأت عيناي العربي وهو على البركان يلعب وسمعت أذناي غراب البين وهو بالفراق ينعب ثم سمعت أنين اللاجي وعذر المداجي وتفسير الأحاجي. فيا عيدا أقبل غير نحس ولا سعيد واذهب غير ذميم ولا حميد وان لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، لك علينا حق التجملة التي أوجبها الله لك شكرا على إتمام العبادة لا على مألوف العادة، ودعنا معشر المنتظرين لهلالك المستعدين لاستقبالك، نتحاسب أو نتعاقب، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، ليس لك ولا لأمثالك من الأيام ذنب إنما أنت وهي قوارير تلونها أعمالنا وتلونها سيئاتنا وآثامنا، فإذا لوناك بالسواد أو لوثناك بالشر فمعذرة وغفرا إن هي إلا مناظر تشهدها كلما أظللت وتراها كلما أطللت.
أيها العرب : ها هو ذا عيد الفطر قد أقبل وكأني بكم تجرون فيه على عوائدكم وتنفقون المال بلا حساب على الحلل يرتديها أولادكم وعلى الطعام والشراب توفرون منه حظ بطونكم وكأني بكم متسيرون فيه على مأثوركم من اللهو واللعب وإرخاء الأعنة لمطايا الشهوات من جوارحكم فتركبون منها ما حل وما حرم، كل هذا وأمثاله منه سيقع فإذا أعددتم للأخرى من الواجبات التي أدنى لروح العيد وأجلب لسرور الرجال في العيد وأقرب لرضى الله وهي حقوق فلسطين وأهل فلسطين ومشردي فلسطين ويتامى فلسطين وأيامى فلسطين والمسجد الأقصى من فلسطين أم قست قلوبكم فأنتم لها لا تذكرون؟
ويحكم.. إن هذا العيد يغشاكم في نهاية كل عام، فاعتبروه رقيبا يقدر الثواب أو مفتشا يوقع العقاب أو حسيبا يصفي الحساب فماذا أعددتم لهذه الافتراضات كلها؟
هبوه رقيبا -وأيقنوا أنه رقيب عتيد- فهل تداركتم أخطاءكم بالرجوع فيها إلى الصواب وتداركتم خطاياكم بالتوبة منها والإقلاع عنها أو تداركتم تضييعكم لفلسطين بالاستعداد الصادق لاسترجاعها أو تداركتم تعريضكم ليتامى القدس بالتنصر بالنظر لهم والسعي لإنقاذهم أو تداركتم إعراضكم عن اللاجئين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بالمساعي الجدية لإرجاعهم أو تداركتم إهمالكم للمسجد الأقصى الذي أصبح تحت رحمة صهيون بالحفاظ في حمايته وإعداد وسائل تلك الحماية، وهيهات.. ضاع المسجد الأقصى يوم ضاعت فلسطين ولا مطمع في إنقاذه إلا بإنقاذ فلسطين كلها.
وهبوه مفتشا –وأعتقد أنه مفتش لا تجوز عليه المغالطة- فهل أعددتم له شيئا على قياس ما تعرفون في هذا الباب وأيسره: جواب محرر لكل سؤال مقدر؟
وهبوه حسيبا – واعلموا أنه حسيب يناقش حتى في ذرة جرت ذرة- فهل استعرضتم جداول أعمالكم في السنة كلها وضبطتم ما لكم وما عليكم؟
ليس هذا ولا ذاك ولا ذلك بواقع منكم، وسيغشاكم فيجد السفينة غارقة في أحوالها ودار ابن لقمان باقية على حالها. لقد عودتموه ذلك وعودكم تضييق المسالك وحلول المهالك (وأول راض سيرة من سيرها).
أيها العرب : إن الواحد منكم يموت له الطفل الصغير فيلتزم الحداد ويتدثر السواد ويمر عليه العيد فلا تزدهيه ملابسه ولا تستهويه مجالسه، ولا ينزع لباس الحزن إلى وفاء السنة ليتحدى بذلك نصوص الدين المنصوصة وأحوال الدنيا المخصوصة وقد ماتت فلسطين وهي أعز شهيد وأحقه بالحزن عليه فويحكم أهي أهون مفقود عليكم؟ أم أن قلوبكم ماتت معها إنها والله الأولى بالحزن عليها من كل محزون عليه وإنها والله الأولى بعدم الصبر ممن قال فيه القائل:
والصبر يحمد في المواطن كلها……إلا عليك فـــإنــه مـــذمـــوم
وإن مما يذكي تحوتكم ويزيدكم حرارة على الفتيل، وخفته طيرة بثأره خسة القائل فأين أنتم يا هداكم الله؟
أيها العرب: إن الذنب في نفسه ذنب وإن عدم الإعتراف به يصيره ذنبين، ولكن التوبة الصادقة المصحوبة بالعمل تمحوهما معا، فتعالوا نعترف بما يعلمه الله منا فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
ألستم أنت الذين أضعتم فلسطين بجهلكم وتجاهلكم مرة وخذلكم وتخاذلكم ثانية وباغتراركم وتغافلكم ثالثة وبقبولكم للهدنة رابعة وباختلاف ساستكم وقادتكم خامسة وبعدم الاستعداد سادسة وبخيانة بعضكم سابعة ما عدوكم أعلم به منكم ثامنة، وفي أثناء ذلك كتب الحفيظان عليكم من الموبقات ما يملأ السجلات.
كانت نتيجة النتائج لذلك كله أن أضعتم فلسطين وأضعتم معها شرفكم ودفنتم في أرضها مجد العرب وعز الإسلام وميراث الإسلام وضاعفتم البلاء على نصف العرب في المغرب العربي كانوا ينتظرون انتصارهم في المعترك السياسي على أثر انتصاركم في المعترك الحربي ولكنهم باءوا من عاقبة خذلانكم بشد الخناق وشدة الإرهاق وكان من النتائج المخزية تشريد مليون عربي عن ديارهم ولو أن عشرهم كان مسلحا لما ضاع شبر من فلسطين ولو أن العشر وجد السلاح اليوم لاسترجع فلسطين وها هم أولاء يترددون على حافات فلسطين تتقاذفهم المصائب ويتخطفهم الموت من كل جانب ولكنه موت الجوع والعري والحر والبرد لا موت الدنيا والشرف.
وكان من النتائج المحزنة أن وضع صهيون رجله في ماء العقبة. أتدرون موقع الحزن من ذلك؟ إنه قطع لأوداجكم إذ لم يبق لكم بعد العقبة شبر من اليابسة تتواصلون عليه أو تمدون فوقه سكة حديدية تصل أجزاءكم أو طريقا للسيارات أو سلكا للمخاطبات وأنه بعد ذلك إيذان بغزوه لمكة والمدينة وتهديد صارخ لموالي الحجاز. وكان من النتائج الفرعية أن عشرات الآلاف من يتامى المجاهدين دفعهم الجوع إلى مدينة القدس تحت سمع وبصر بقية المسلمين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وكانت خاتمة النتائج أننا قربنا من بني صهيون ما كان بعيدا وأدنينا منه أمانيه فالقدس محطة الإسراء ومواطئ أقدام محمد صلى الله عليه وسلم وفتح عمر أصبح لقمة مسترددة بين لهواته والمسجد الأقصى كاثرته البيع والكنائس وتعاونت على إخفاء مآذنه وإسكات آذانه.
ويل للعرب من شر قد حل ولا أقول قد اقترب.
المصدر :
عن : آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الجزء الرّابع (1952 – 1954 م)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان 1997 م، ص : 215-218.
انظر مجلة "الاخوة الإسلامية"، العدد الخامس عشر، بغداد، 1 شوال 1372 هـ الموافق لـ12 جوان 1953 م، مع التقديم الآتي : ما زال سماحة الحبر الجزائري العلّامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يحلّ بين ظهرانينا، ولما وجد أن رمضان المبارك قد استعدّ للرحيل وأن هلال شوّال أخذ يقترب سريعا/ والعالم الإسلامي لا يزال كما عهده يستقبل عيدا ويودع آخر لا يلتفت إلى قبلة الجريح فلسطين الشهيدة وشرفه المثلوم ودينه المضيع، ولما أيقن سماحته أن العالم الإسلامي لا يزال في لهوه وغفلته اعتصره الالم فنفث ذلك القلب الذكي الكبير ما سطّره اليراع في هذه الكلمة القيّمة الموجّهة إلى العالم الإسلامي في مناسبة عيد الفطر المبارك، وقد اختصّ بها "الأخوة الإسلامية" فجزاه الله أحسن ما يجزى عامل عالم مؤمن عن عمله.