أوسع المعلومات عن بداية الثورة في الجزائر *
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
انفجر بركان الثورة المباركة في الجزائر ليلة اليوم الأول من نوفمبر الحالي وقد كنا نحن الجزائريين الموجودين خارج الجزائر نترقب هذه الثورة ونتوقعها، نترقبها لأنها الأمل الوحيد في تحريرنا من العسف الفرنسي الذي لا يعرفه إلّا من ابتلي به، ونتوقعها لأن هذا هو وقتها، ولأن فرنسا لا تفهم إلّا هذه اللغة ولا يفتح آذانها إلّا هذا الصوت.
ومضى على الثورة عشرة أيام ونحن نحترق شوقًا إلى الاطلاع على حقيقة ما يجري هناك، وكيف ابتدأت الثورة؟ وما هي العناصر التي قامت بها؟ وبأية صبغة تصطبغ؟ وإلى أي اتجاه تتجه؟ وهل انتشرت؟ حتى نبني على مقدماتها الصحيحة نتائج صحيحة. ونستطيع أن نتحدث عليها بالصدق ونصفها لإخواننا الذين لا يعرفون الجزائر، ونصورها بصورتها الحقيقية من غير مبالغة نغرهم بها، ولا تقصير يثبط العزائم، وحتى نغذيها بما نستطيع من وقود روحي أو مادي، إذ لا يستطيع العاقل أن يتحدث عن شيء يجهل تفاصيله وإن كان يعرف أسبابه.
لبثنا هذه المدة نتلقى الأخبار من محطات الإذاعات العالمية، ومن الجرائد المحلية المستقية من وكالات الأنباء، ولكنها لا تشفي غليلًا في هذا الباب، وقد توقعنا في الضليل حينما تذكر أسماء القرى والأماكن محرفة بسبب الترجمة، وأن استنتاجنا نحن الجزائريين العارفين بأجزاء وطننا لا يكون صحيحًا مفيدًا إلّا إذا عرفنا أسماء الأماكن والقرى صحيحة الألفاظ لنستخرج الفائدة من شلل المواقع والمسافات بينهما من التشابه في الخصائص، بحيث تكون طبائعها التكوينية تتعاضد على ما ينفع الثورة، ويدفعها إلى الدوام والانتشار.
واليوم وصلنا العدد رقم 292 من جريدة «البصائر» لسان حال جمعية العلماء الجزائريين المؤرخ بيوم الجمعة 9 ربيع الأول سنة 1374 الموافق 5 نوفمبر سنة 1954 وهو أول عدد يصلنا بعد الثورة.
وفي افتتاحيته سرد مرتب للحوادث التي حدثت في ساعة واحدة من الليلة الأولى للثورة، ففهمنا من هذا السرد المجرد من التعاليق أشياء كثيرة منها أن وقوع عدة حوادث في لحظة واحدة يشهد بحسن التدبير والنظام والإحكام، ومنها أن الثورة شعبية غير متأثرة بالتأثرات الحزبية، ومنها أن طابعها عسكري حازم، عارف بمواقع التأثير.
وها نحن أولاء ننشر جدول الحوادث التي وقعت في ظرف ست ساعات من ليلة واحدة، نقلًا عن العدد المذكور من «البصائر»، وقد استندت فيه إلى شهادة المعاينة، وإلى الرسميات:
ـ[حوادث الليلة الليلاء]ـ ...
ليلة 1 نوفمبر سنة 1954
ما نصّه بالحرف:
"فوجئت البلاد الجزائرية بعدد عظيم من الحوادث المزعجة، وقعت كلها ما بين الساعة الواحدة والساعة الخامسة من صبيحة الاثنين غرة نوفمبر، وهو عيد ذكرى الأموات (عند المسيحيين) ولقد بلغ عدد تلك الحوادث ما يزيد عن الثلاثين، ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة وهران، إلّا أن عمالة قسنطينة وخاصة جهاتها الجنويية كانت صاحبة المقام الأول فيها وكادت تتركز الحوادث في جهات جبال أوراس، في خط يسير من باتنة إلى خنشلة، ثم يشمل الجنوب.
وتلي عمالة قسنطينة بعض جهات العمالة الجزائرية، كبلاد القبائل والعاصمة الجزائرية وبوفاريك.
إننا إلى حدّ هذه الساعة لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث وأسبابها، وليس بين أيدينا إلّا ما تناقلته الصحف وشركات الأخبار (1)، فلا نستطيع أن نعلق عليها أدنى تعليق، إلى أن تتبين لنا طريق الصواب، فليس من شأن «البصائر» أن تتسرع في مثل هذه المواطن. لكننا، من جهة أخرى، رأينا أنه لا يمكن أن يخلو هذا العدد من جريدتنا من ذكر هذه الحوادث التي تناقلت صحف العالم بأسره تفاصيلها، فقررنا الاكتفاء بذكر أهمها، تاركين للزمن كشف الحقائق عن أسرارها، ولسوف نتتبع ذلك بغاية الدقة والاهتمام.
مدينة الجزائر: انفجرت قنبلة من الصنع المحلي أمام بوابة راديو "الجزائر" فاحدثت به أضرارًا، وقد وجدت قنبلتان لم تنفجرا.
ووقعت محاولات إحراق مستودع زيت الوقود الذي يملكه مسيو موري، والذي يخزن ثمانية أطنان من البترول في شارع دينا، ولقد تنبه الحرس وأطفئت النيران ولم تقع الكارثة.
في مدينة بوفاريك: انفجرت قنبلة في مستودع خزن الفواكه، فاحترق المستودع الذي تبلغ قيمته خمسة ملايين وأحرقت الصناديق الخشبية المعدة للتصدير، وقيمتها 25 مليونًا.
في بابا علي: وقع إحراق معمل الورق وتمكنت فرق المطافئ بعد جهد جهيد من إخماد النيران.
في مدينة العزازقة: وقعت مهاجمة دار الجندرمة (2) ورميت بسبع وأربعين رصاصة تبين أنها من رصاص البنادق الطليانية صنع سنة 1946.
وفي الوقت نفسه وقع إشعال النار في مستودع البهش (3) (قشر الفرنان) الذي تملكه إدارة الغابات والمياه، فكانت الخسائر به عظيمة جدًا، والتهمته النيران، وبلغت قيمة الخسائر نحو الخمسين مليونًا.
ولقد حطمت في ذلك الوقت أعمدة الأسلاك التابعة لإدارة البريد فأصبحت المدينة في عزلة تامة.
في بقية بلاد القبائل الكبرى، وحول مدن وقرى: بوغني- دلس- بوبراق- برج منايل- وغيرها وقع تحطيم وإتلاف أعمدة الأسلاك التليفونية.
في ذراع الميزان: وقع التحام قتل فيه أحد حراس الغابة.
في تيزي نتليته قتل أحد حراس الغابة أيضا.
إلى غير ذلك من مثل هذه الحوادث في عدة قرى ببلاد القبائل.
في عمالة وهران: وقعت محاولة تحطيم المولد الكهربائي في وليس، لكن العملية لم تسفر عن خسائر.
في جهة كسان: وقعت مهاجمة ضيعة أحد المستعمرين، وجرح أحد الحراس، والتجأ أحد أصحاب الضيعة إلى دار الجندرمة، لكنه لم يكد يصلها حتى أصابته رصاصة أردته قتيلًا.
ووقعت مهاجمة دار الجندرمة فجرح أحد حراسها الليليين.
في عمالة قسنطينة: كانت الحوادث كثيرة، وخاصة في شرقها وجنوبها.
وفي خنشلة: وقعت مهاجمة إدارة الحوز الممتزج (4)، وكوميسارية (3) البوليس كما وقعت مهاجمة رجال العسكرية، ووقع تحطيم الخزان الكهربائي، وقتل ثلاثة من رجال الجيش.
وسحبت السلطة من المنطقة حراس الغابة والسواحين، ثم احتلت فرقتان عسكريتان أريس ورفعت عنها الحصار.
وأعلنت حالة الحصار في كامل تلك الجهة وباتنة وبسكرة وخنشلة، ومنع التجول إبتداء من الساعة الثامنة.
وقطعت الأسلاك البرقية على طريق أريس.
في بسكرة: وقع تفجير قنبلة أمام المعمل الكهربائي، كما انفجرت قنابل أخرى أمام الثكنة العسكرية، وأمام الكوميسارية، وفي محطة السكة الحديدية، ولقد جرح أحد رجال البوليس كما جرح أحد الحراس.
أما الطريق بين بسكرة وأريس فقد منع التجول بها، وأخذت طائرة عسكرية تحوم حول كامل تلك الجهات.
ولقد أرغم رجال مسلحون عربة نقل كبيرة على الوقوف وأنزلوا ركابها واختاروا منهم ثلاثة ثم أمروا الباقين بالرجوع إلى مقاعدهم.
أما الثلاثة فهم قائد مْشُونَشْ، ومعلم فرنسي وزوجته- لم يمضى على زواجهما أكثر من شهرين- فقد أطلقوا عليهم الرصاص، فمات القائد والمعلم وجرحت زوجته جراحًا خطيرة، وهي الآن في مستشفى أرّيسْ.
في الأوراس: وهي المنطقة الجبلية الوعرة الشاسعة، وقعت عدة حوادث في شتى الجهات، وكان الرجال المسلحون يباشرون العمليات ثم ينسحبون إلى الجبال ويدمرون وراءهم الجسور، ولقد قتل واحد منهم وجرح آخرون، وحاولوا الاستيلاء على منجم ايشمول، لكنهم انسحبوا بعد معركة عنيفة أطلقت خلالها ستمائة طلقة نارية.
وحوصرت مدينة (أرّيسْ) المركزلة في الأوراس من طرف الرجال المسلحين.
في باتنة: وقع إطلاق الرصاص بقوة مدى ساعة من الزمن، كان يسمع على مسافة كيلومترين من المدينة، وهوجمت ثكنة فرقة الشاسور (6) فقتل بها جنديان، واكتشفت قنبلة في مستودع التنكات، لكنها لم تنفجر.
في الخروب: وقع إطلاق القذائف النارية على حارس مستودع الوقود العسكري، لكنه لم يصب بسوء.
في السمندو: وقعت مهاجمة دار الجندرمة وكسر بابها الخارجي، وأطلق الرصاص على من بداخلها.
وأسفرت كامل هذه الحوادث عن سبعة من القتلى، وعدد من الجرحى لم يعرف بعد.
هذه خلاصة وجيزة عن الأعمال التي وقعت يوم الاثنين، لخصناها بغاية الدقة عن الصحف الفرنسية، ولربما عدنا إليها في مستقبل الأيام بشيء من الإطناب، إن اقتضى الحال ذلك.
ولقد قابلت الحكومة (7) هذه الحوادث بتجهيز كامل قواها العسكرية، واستنجدت بفرنسا فأمدتها سريعًا بثلاث من فرق المظلات، وسلحت البوليس وشددت الحراسة في المدن والقرى حول الإدارات والجسور وغيرها، ثم ألقت القبض، يومي الإثنين والثلاثاء، على جماعات مختلفة في عدة مدن.
ولقد عقد الوالي العام ندوة صحفية تكلم فيها عن هذه الحوادث، فقال إنها حوادث أمليت إملاء من الخارج، واستشهد طويلًا بأقوال مذياع "صوت العرب" من القاهرة، وقال إن الذين دبّروا هذه الحوادث ونفذوها، يريدون أن يتخذوا منها حجة لدى هيئة الأمم المتحدة لتفنيد ما تقوله فرنسا من أن الأمن مستتب بالقطر الجزائري.
أما الصحف الفرنسية فقد انقسمت إلى قسمين، سواء بالجزائر أو بالبلاد الفرنسية، فالقسم الملي المتطرف ينادي بوجوب الزجر والبطش واستعمال الشدة لاستئصال جذور هذه الحركات، أما الصحافة الحرة والتقدمية والمنصفة، فتنادي بوجوب استئصال الداء بواسطة دراسة عادلة للوضعية الجزائرية وتحقيق العدل والإنصاف في سائر الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالمشاكل الكبرى لا تحل بالعنف والبطش والإرهاب، إنما تحل بالدراسة والمفاهمة الصريحة والرجوع إلى الحق".
عن مكتب جمعية العلماء الجزائريين بالقاهرة
محمد البشير الإبراهيمي
والفضيل الورتلاني
* بيان صدر عن مكتب الجمعية بالقاهرة يوم 11 نوفمبر 1954 ووزع على وسائل الإعلام المصرية ووكالات الأنباء. ونشر في كتاب "الجزائر الثائرة" للأستاذ الفضيل الورتلاني.
1- شركات الأخبار: وكالات الأخبار.
2- الجندرمة: الدرك.
3- البهش: الفلّين.
4- الحوز الممتزج: وحدة إدارية يسكنها الجزائريون والفرنسيون.
5- كوميسارية: محافظة الشرطة، وهي كلمة فرنسبة.
6- الشاسور: القنَّاصَة، وهي كلمة فرنسية.
7- الحكومة: هي الولاية العامة الفرنسية في الجزائر.