العلامة المصلح الشيخ الشّريف محمد الطاهر بن عمارة شوشان وجهوده العلمية والأدبية
بقلم: فرحات الأخضري-
سنحاول التعريف بواحدة من أفخم الشخصيات الثّقافية، العلمية والأدبية وأجلّها ممن عرفتهم منطقة الجنوب الشرقي الجزائري، و تحديدا في ولاية ورقلة ،ببلدية العالية من دائرة الحجيرة. ويتعلق الأمر ههنا بقطب الإصلاح والتنوير،حجة المذهب المالكي على أيامه ، ولسان أهل السنة والجماعة ، الأديب النسّابة ، والمؤرخ المحدّث الثبت ، العلاّمة جامع المنقول والمعقول الشيخ محمد الطاهر بن عمارة شوشان دفين المحروسة القرارة ، النفطي مولدا؛ والذي عاش بين عامي 1865م و1946م ،والذي قضى جلّ حياته الزاخرة إصلاحا وتربية وتأليفا وعلما وأدبا بحاضرة المعرفة والأدب المحروسة العالية .
وللحقيقة، فأنّ الكلام عن الرّجال صعب مخيف،ناهيك بالحديث عن العظماء منهم؛ولكن لابدّ ممّا لابدّ منه.
وفي الواقع فانه لكي يستقيم الحديث عن هذه الشخصية المميزة, و حتى عن غيرها كذلك من الشخصيات التي كان لها أثرها البالغ في الحركة الثقافية التنويرية عموما ،و في مناهضة الفكر الاستدماري ، والتصدي للسياسات الممنهجة، والمنظمة لتجهيل الجزائريين أرى أنه لابدّ من محاولة تمثل الجو الثقافي العام الذي كان سائدا في بدايات الاستدمار الفرنسي المشؤوم ،و حتى قبيله بقليل؛وذلك من اجل امتلاك صورة صحيحة وصادقة عن ضخامة النّضال الذي قام به اولئك الأعلام المجاهدون لا في الميدان العلمي فحسب؛وإنما من اجل تمثّل جهودهم القومية في إطار اعمّ وبصورة أكثر موضوعية .
وأعتقد أنّ ذلك مدخل مهّم لما نحن بصدده ،و بدونه ستضل محاولة التّعرف الى جهود هؤلاء الأعلام ناقصة إلاّ تكن مشوهة.
وإذا فسأستسمحكم لأعوج على قضيّتيين أعتقد خطورتهما و تتعلّقان بموضوعنا تعلقا جدليا،وهما من الحساسية بحيث لا يمكن تجاوزهما ، أو القفز عليهما إذا نحن أردنا أن يكون عملنا هذا أكثر منهجية و تماسكا .
ويتعلق الأمر في القضية الأولى بقيمة هذه الأعمال التراثية لهؤلاء الأعلام في منطقة الجنوب الشرقي الجزائري بشكل عامّ.هذا من ناحية، وأما القضية الثانية فترتبط بالعلاقة بين الفكر النظري من جهة ،والعملي التطبيقي من جهة ثانية ، وأيهما له السبق و الأولوية؟
والمشكلة ههنا مرتبطة بالقيمة مرة أخرى ، وأقصد بعبارة واضحة أنه قد يسأل سائل: ما قيمة الحديث في إطار مخبر للغة والأدب عن تراث كان أغلب جهد صانعيه هو تحفيظ القرآن الكريم ،وإذا هو تجاوز ذلك فلكي لا يخرج عن دائرة الفكر الديني واللغوي ا لعام ؟ فلا فكر فلسفيا يعتدّ به، ولا علميا يمكن أن يحصى في خضم ذلكم التراث ؟
هذا من جهة،ومن جهة ثانية،وأمام معضلة المشافهة والّتي طالت كثيرا من جهود أعلام هذه المنطقة؛هل يجوز لنا اعتبار التاريخ النضالي الشفهي لكثير من أولئك الأعلام،وكذا ما يروى عن بعضهم ممّن له جهود تكوينية وتعليمية ضمن إطار ما نحن بصدده؟.
إن العائق الموضوعي- في اعتقادنا - هذه المرة هو أن ههنا كلاما كثيرا يمكن أن يقال ،وأن ثمّت مسائل شائكة التعقيد وتحتاج إلى غير قليل من الجهد ؛و إلى كثير من الوقت الذي لا نملكه الآن في هذه الورقة المستعجلة . إنّ المسألة ههنا تحتاج إلى إثارة ماهية العلم،وحدوده، والغايات المتوخّاة منه؛كما تستدعي الانخراط المباشر في إشكالية التّراث بكلّ ما تحيل عليه من الصّراعات الفكرية؛ والنّقاشات العلمية والتي - كما تعلمون – ما تزال رحاها دائرة الى يوم النّاس هذا، وبالكاد يعثر فيها على اتّفاق حول مسألة من مسائلها؛و مع ذلك سنحاول - مجتهدين - اختصار القول قدر الإمكان في توضيح ما استشكل في القضيتين ، وفي غير إخلال أو تسطيح .
انه بالنسبة الى القضية الأولى سنلاحظ، ومن عجب أنه في الوقت الذي يتكئ فيه الغربيون على تراثهم ،كل تراثهم ومن عهد يونان ،و يجتهدون في قراءته كل مرة ، ويعيدون تأويله ، وتلميعه بكل ما يملكون من وسائل لإظهاره في ثوب المعرفة العلمية المعاصرة . وهذه المرة يتم ذلك ليس بقصد النهوض ،فلقد حققوا ذلك كما هو معلوم ؛ ولكن يجري ذلك اليوم في إطار تعميمه وعولمته .
وفي الوقت الذي لا يألو اليهود فيه جهدا من أجل إعادة صياغة كل تراثهم الفكري الأسطوري و الخرافي ،والمرتبط أصلا( بالكابالا) وما يعرف باللامعقول اليهودي ،وهم حين يلطفون التسمية قليلا يتحدّثون عما يسمونه التصوف اليهودي .
أقول في هذا الوقت بالذات، يطلب من العربي و من المسلم أن يزهد مجّانيا في ماضيه وتراثه ، وأن يتخفف من ارثه الحضاري لأنه مجرّد ماض لا قيمة له ، ولا يمكن أن يعثر فيه – ولو حاول ذلك – على أمر ذي بال .
واضح أننا ههنا أمام عدوّ شرس ، عدوّ حضاريّ يستبيح كلّ الأدوات القذرة، والوسائل أللأخلاقية في سبيل القضاء على الآخر وعلى مكوّناته ،ومقوّماته الضّرورية؛ باستهداف تاريخه وحضارته وثقافته، ولا آخر غيرنا .
ولا أحسب أنّني مضطرّ في هذا المقام للتّذكير بأننا اليوم - و في خضمّ الصّراع الحضاريّ المحتدم على مستوى الثّقافي :لغة ودينا وعلما وفنّا – أحوج ما نكون إلى تاريخنا وماضينا،إلى تجربة آبائنا وأجدادنا المميّزة. هذا تاريخ زخم،وكم هو مشرّف،ومضيئ بالمواقف في الصّمود وفي الانتصارات.!
فما المانع إذا من العودة إليه،وفي كلّ مّرة،نستلهمه أدوات الصّراع الصّلبة ؛و نستمدّه وسائل النّزال والاعتراك الكافل للانتصار؟
من هذا المنطلق ،وفي هذا السّياق تحديدا لابد من تسجيل الملاحظات الآتية فهي ذات دلالة:
انه قبل سنة 1831 يجمع كل المؤرخين المنصفين ، وتتضافر كل الروايات التاريخية على أن التعليم في الجزائر كان منتشرا في مؤسساته المختلفة في العهد العثماني ،وأن نسبة الأمية كانت يومئذ بالجزائر أقلّ منها في فرنسا الاستدمارية ؛لأن الناس حكّاما ومحكومين كانوا ميّالين إلى المعرفة ؛ هذا فضلا عمّا عرف عن الجزائريين يومها من تقدّم عسكريّ و اقتصاديّ فرضوا من خلاله هيبتهم على اعتى دوّل تلك المرحلة التاريخية.
نعم، في العهد العثماني انطفأت حواضر عالمية كبجاية بعد احتلال الأسبان لها ؛ والذي دام لسّتة وأربعين عاما ،ولذلك كثرت في ضواحيها –غرب زواوة- الزوايا والتّكايا وكانت مقصد الطلبة من المغرب الأقصى و من السودان .
وفي هذا السياق يعيب المؤرخ الدكتور محمّد بن خروف من جامعة الجزائر على العثمانيين عدم اهتمامهم بالعلوم التجريبية و الدقيقة. ولكن يمكن تفسير ذلك بالضعف العام الذي كان يدب ّ في أوصال الإمبراطورية العثمانية أواخر أيامها . وإلا فانّ صناعة الشمع كانت مزدهرة في بجاية ،ولم يعرفها العالم إلا من خلال الجزائريين ، كما أنّ ازدهار صناعة السفن بالمرافئ الجزائرية لا يحتاج إلى تدليل.
هل نضيف شهادة الرحالة الألماني مالتيسان الذي يقول متعجّبا : لقد بحثت قصدا عن من لا يعرف القراءة والكتابة بالجزائر فلم أجد ، في حين كانت نسبة المتعلمين في جنوب أوروبا جد ضئيلة.
لا علينا من ذلك الآن ، ولكن يمكن الاطمئنان عموما إلى شهادات المؤرخيين الذين يجمعون على وضاءة الجو الثقافي و العلمي بربوع الجزائر قبيل الاحتلال الفرنسي الغاشم . ومرة أخرى نجتزئ في هذا المضمار بشهادة الأستاذ الدكتور بن خروف الذي يعّدد الحواضر العلمية في الجزائر في بديات الإستدمار الفرنسي فيذكر تلمسان و العاصمة و زوايا بجاية كما يذكر ورقلة ،وقسنطينة و زوايا أدرار وغيرها .
كما يرى الدكتور بأننا مازلنا في حاجة إلى رصد الجهود الثقافية التي كانت بتلك الحواضر على أيام العثمانيين.
وههنا نلفت الانتباه إلى فكرة تستحق الإثارة, وهي أنّ الناس دأبوا كلما ذكروا الجنوب الشرقي الجزائري ، وراموا الخوض في الشأن الثقافي للمنطقة وبخاصة محور بسكرة وادي ريغ ،ورقلة ،غرداية، الأغواط تداعى إلى الأذهان أعلام الأخوة الأباظيين ، وسلّطت الأضواء على جهود أعلام وادي ميزاب الثقافية وهي حتما أهل لذلك ؛ في حين يعّد هذا المحور أغنى بكثير من هذا التحجيم و الأختزال، وأثرى بكثير مما قد يتوهمه متوهم .
ولا شك أنّ سكان وادي ميزاب عرفوا بوفرة جهودهم الثقافية، وأكثر من ذلك كانوا قد تنبّهوا في وقت مبكر إلى خطورة التدوين ،فكانوا من السباقين في هذا المجال بلا شك .
تلك إذا هي الحقيقة الأولى في هذا المضمار، وأمّا الحقيقة الثانية،والتي يخجل التاريخ من التذكير بها،ويندى لها جبين الإنسانية كلّما تذكّرها فهي أن فرنسا الاستدمارية كانت بعد نهب المخطوطات من المكتبة الوطنية العامّة بالعاصمة قامت بحرقها ،وتكرّرت الفعلة الشّنيعة حين احتلال قسنطينة حين أحرقت مكتبتها عن آخرها.
هل نمضي مسترسلين في إحصاء فضائع فرنسا الاستدمارية؟ هل يمكننا ذلك؟ لنكتف بهذين المثالين الآن ؛ فهما كافيان وحدهما لإحراج أيّ زاعم بأنّ فرنسا إنما جاءت إلى الجزائر لتحضّر الجزائريّين.
وهنا كذلك تقفز أمامنا معضلة أخرى،وهي أنّ تراثنا الثّقافي والذي تعرّض جلّه للنّهب والحرق ؛وربّما ما سلم منه لا يتجاوز كثيرا ما بقي منه في صدور الرّجال ظلّوا متشبّثين به ،يتداولونه حتّى لا يضيع ويندثر.
تراث يكاد يكون معظمه شفويا،هذا واقع لا يمكن القفز عليه؛ولكن كيف نقيّمه؟ وعلى أيّ أساس يستخلص صحيحه من ملفّقه؟
أنا لا أروم الآن الانخراط في محاولة الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، بقدر ما أميل إلى محاولة تفسير الظاهرة،وهي أن الشعوب والأمم كما الأفراد- وكما يلاحظ ذلك فيلسوف العرب المعاصر محمّد عابد الجابري – تضطر ّتحت وطأة الهجمات العدائية المدمّرة والمتكرّرة؛ وحين تهدّد في كينونتها،أي حين تصير المسألة مسألة بقاء أو فناء؛تضطرّ حينئذ إلى التراجع إلى المواقع الخلفية،وتتخندق في الحصون الأخيرة لها؛وهي هنا محاولة الحفاظ على أخطر المقوّمات التي يعتقد أنّها ضامنة لعدم الاندثار و هي اللّغة والدّين.(1)
وهذا أمر مفهوم تماما.ومن ثمّة لا يمكنك أن تبحث لدى من هذه وضعيته على ما يتعلّق بالتّرف الفكري؛والحضاري من مثل الانجازات العلمية أو الإبداعات الفنّية والأدبية.
أما بخصوص المسألة الثانية ،مسألة العلاقة بين الفكري و العملي ،فنحن نرى هذه العلاقة إنما هي في أخر التحليل، جدلية بين النظرية و تطبيقها ؛ على أن ثمة أسبقية حتى على مستوى الوجود ، للنظري و الفكري على العملي و التطبيقي .
نحن لا نقول هذا من منطلق استعلائي أرستقراطي يتباهى بالتّأمّل المجرّد و النظر ، ويحتقر في مقابل ذلك كل ما هو تجربة و ممارسة ميدانية ، كلاّ. نحن ندرك أنّ ذلك ضرب من الصفاقة الفكرية ،ولا أحد عاقلا ، ويحترم نفسه يتورط في القول به . وإنما و من ناحية تحليلية منطقية صرف، نسّلم كغيرنا بأولوية الفكري على العملي وأسبقيته عليه .
إذا نحن تجاوزنا هذه العتبات، والتي نعتقد ضرورتها وأولويتها مدخلا لهذا الموضوع متعدّد المداخل؛والتي تكون قد طالت نوعا ما،ولكنّها- في اعتقادنا – ضروريّة بكلّ تأكيد لما نحن فيه حتّى تصير الأمور في أنصبتها الحقيقية.
أقول إذا نحن تجاوزنا ذلك، استطعنا الآن ثني عنان القلم،و العودة إلى صلب موضوعنا .
ترجمة العلاّمة الشّيخ محمّد الطّاهر شوشان بن عمارة:
وإذا فهو العلامة الشيخ الشّريف محمد الطاهر شوشان بن عمارة الجريدي كان قد ولد بتوزر في الجنوب التونسي سنة 1865م،وتعلّم أول الأمر في زوايا الأشراف بموطنه الأصلي فأخذ معارفه الأولية ، من حفظ للقرآن الكريم ، ومبادئ الشريعة الإسلامية ، ودروس العربية في مسقط رأسه ، ثم تعرّف على خيرة علماء عصره بتونس فدرس عليهم وأحكم كثيرا من الفنون كالأصول و المنطق والجدل ،والفقه المالكي ،والفرائض و الحساب والتاريخ ،والنحو على طريقة البصريين المشتهرة بالمغرب العربي ثم شدّ الرحال بعد ذلك إلى الجزائر قاصدا الجنوب الشرقي أين استقر به المقام في المحروسة العالية وكانت يومها حاضرة عامرة بالأعيان من الأشراف والعلماء العاملين ،وذوي الجاه ، والنفوذ فلقي ما لقي من الحفاوة و الإجلال مما يليق بمقام أمثاله من المثقفين .
وسرعان ما توطدت علاقته بأهل المنطقة وأعيانها حين تزوج فيهم ، وزوّج بعد ذلك كريماته (بناته) لخيرة أبنائهم ، مثل ،الشّيخ الفاضل الجليل الصّغير بن محاد الأخضر قادري ،والذي عرف بملازمته للشّيخ العلاّمة،و الأخذ عنه، وربّما كان من أكثر المنتفعين بعلومه ومعارفه. وكذلك من أصهار العلاّمة، الشّيخ حمزة بلعلمي؛ و الشّيخ محمد العيد حمزي ؛وكذا الشيخ الحاج المازوزي حمّاني ؛والشيخ بلقاسم موهوبي. وللشّيخ العلاّمة أحفاد كثيرون منهم العالم ومنهم السّياسي وفيهم الضّابط وما دون ذلك؛وهم بغير مكان من أرض الله الواسعة .كما أنّ للشّيخ العلاّمة خمسة أبناء هم : عمارة ،وعبد الرّحمان ،والعربي،وإبراهيم،ومحمد الأخضر،وكلّهم كانوا رجالا،ربّوا على الفضيلة وحبّ الوطن؛ فكان جميعهم من خيرة مجاهدي هذه البلاد. وهكذا قضى العلاّمة بقية عمره بين ظهراني أهل العالية، إلا قليلا، حين سافر إلى بلدة القرارة و التي كانت وفاته بها في حدود 1946 م .ولقد كانت حياة هذا الشّيخ الإمام المصلح مفعمة بالنّشاط الدّؤوب،ما بين نشر للعلم والفضائل،وبثّ للوعي القومي التّحرّري،إلى أن اختاره الله إلى جواره الكريم؛تغمّده الله برحماته الواسعة،وأسكنه فسيح جنانه ؛وجازاه عن أبناء بلاده أفضل الجزاء. وقد ترجم له ،مؤرّخ الجزائر و وادي ميزاب العلاّمة الشهيرعلي دبّوز،في التّاريخ الكبير؛وقد أثنى عليه كثيرا.
مكانته العلميّة، ومقامه المعرفي :
هذا الإمام القطب - فضلا عن تضلّعه في الأصول و الفروع – كان جامعا لتاريخ العرب و المسلمين ، عليما بأيامهم ومآثرهم، فهو مؤّرخ متبحر في أبواب التاريخ ، خبير بفرق الإسلام و المسلمين ،نسّابة عليم بالقبائل العربية وغير العربية ، وبخاصة ممن استقر بالمغرب العربي أدناه وأوسطه و أقصاه عبر عصور التاريخ الإسلامي. وقد ألّف_كما أشيع_ مجموع رسائل في ذلك على أنّنا لم نتحقق من ذلك بعد؛ إلا أنّ أشهر أعماله التاريخية مشجّرته لأنساب الأشراف بالمغرب العربي ،و هي مخطوطة في جلد طوله 6أمتار ،وعرضه60 سم ،ولقد عاينّا نسخة المخطوط لدى حفيده محمد بن الصغير قادري ببلدية العالية ،وهذا الأخير هو حفيده من ابنته الموصوفة بالكمال مريم شوشان . وأمّا المخطوط الأصلي لهذه المشجّرة فهي ضمن مكتبته الكبرى، أي مكتبة الشّيخ رحمه الله لدى حفيده الثاني الحاج محمد حمّاني المازوزي بالقرارة .
وللأمانة العلمية فانّ حفيد الشيخ، الحاج محمد حمّاني هذا، كان أبدى – حين التقائنا به على هامش الملتقى الدّولي الثاني لشاعر الجزائرالكبير محمّد الأخضر السّائحي،وحديثنا بخصوص أعمال جّده العلمية – كثيرا من الأريحية ،و التعاون ،وقد وعدنا بتسهيل كل ما نحتاج إليه في هذا الشأن .وقال بأنّه في الخدمة ،وأنّ المكتبة العامرة هي تحت تصرفنا متى أردنا ذلك ؛ فجزاه اللّه كلّ خير ،ولا عجب فهذا الشبل من ذاك الأسد .
الجهود العلميّة للعلاّمة :
هذا المخطوط النفيس كان قد اجتلبه الشريف الشيخ الفاضل العلامة محمد الطاهر شوشان بعد نقله بيده من مشجّرة الأنساب الكبرى الكائنة بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم بن أحمد الشريف الأدريسي في بلاد نفطة بتونس ،وكاتبها هو الشيخ محمد بن على التليلي ، الشريف النفطي سنة 1308هجرة عن النسخة الأصلية القديمة ،والتي تعود إلى عهد الحفصيين،و تحديدا مستهل القرن التاسع الهجري سنة 802 للهجرة ؛ وعلى هذا المخطوط أختام ملوك بني حفص ، وأختام قضاتهم ال22.
غير ان قيمة هذا المخطوط انما هي في كونه إرثا علميا، وهو بعلم التاريخ والأنساب الصق منه بأي فنّ آخر، ويرتبط بالتاريخ لبعض القبائل العربية، والتركيز فيها على ذات الصّلة بالنّسب المحمذي الشّريف من طريق الادارسة.
وواضح من المخطوط الأصلي،واقصد هنا المخطوط الحفصي لهذا المشجرّ انه غير ذي صلة بما نحن فيه الآن؛غير أن مخطوط المشجّر لصاحبها الشريف العلاّمة القطب الشيخ محمّد الطاهر شوشان يضّم في آخره ارجوزة على درجة عالية من الفنية؛مصوغة بعبارة سهلة ومتماسكة وهي لذلك؛تستحقّ العناية بها وتمكين العالم منها بتحقيقها ونشرها.
وإما موضوع الأرجوزة فهو مدح آل البيت ،وبقيّتهم الصالحة في هذه الربوع من أرض الوطن والمقصود هو الوليّ الصالح العامل العابد سيدي محمّد السايح دفين بلدة عمر وكذا مدح الأقطاب العارفين من نسله الشريف.
وربّما لأنّ هذه الأرجوزة تمحورت حول التأريخ لأشراف هذه المنطقة؛وخصّت بالمدح هؤلاء المعروفين في الجهة الشّرقية بأولاد سيدي محمد السّايح،الشّريف الإدريسي المعروف ؛فلقد غطّت شهرتها على بقيّة أعمال الشيخ الأخرى ذات الأهمية الأكبر.وهذا مفهوم؛إذ أن النّاس يميلون فطرة إلى أن يمدحوا؛ولعون بمن يخلّد ذكرهم ،ومآثرهم ؛وقدما قال المتنبّي :
( يهوى الثّناء مبرّز ومقصّر *** حبّ الثّناء طبيعة الإنسان )
والواقع أنّ عملية إخراج التراث الفكري و العلمي لهذا العالم الجليل يحتاج إلى غير قليل من الجهد ؛ على أننا سنجتهد في إماطة اللثام عن هذه الكنوز ما وجدنا إلى ذلك سبيلا .
من الجهود العمليّة الخالدة للشّيخ العلاّمة :
وأمّا عن الجانب العملي لهذا العالم العامل المجتهد فسنكتفي في هذه الورقة المستعجلة بالإشارة إلى أهمّ منجزاته وأفضاله على المنطقة وأهلها ، وما أجلّها ، ويمكن أن نسجل :
أنه فضلا عن الدروس الدينية اليومية والتي كانت لعموم الناس ،وفضلا عن الاجتماعات الدورية مع أعيان حاضرة العالية والتي كانت تعقد لمدارسة الشأن العام كان العلامة الموسوعي، والمصلح الفذّ الشريف محمد الطاهر بن عمارة بعيد الهمة ،نبيل المهمة حين استهدف الوقوف في وجه المستعمر، ومخطّطاته الجهنمية الرامية إلى عزل الجزائريين عن محيطهم الخارجي ، حتى لا يتأثّروا بالحركات المقاومة في الوطن العربي ، إلا أن الشيخ رحمه اللّه ،استطاع و بفضل جهوده التنويرية التوعوية ، ومن خلال نشره للوعي القومي بين أبناء حاضرة العالية،وبثّ روح الوطنية فيهم؛ وكذا من خلال تسهيلاته لأبناء المنطقة عمليات الاتصال بتونس الشقيقة من أجل التحصيل العلمي والتكوين القومي ، قلت استطاع الشيخ أن يكون وراء تخريج جيل كامل صالح من المثقّفين النهضويين ، أو( المثقّفيين العضويين) بتعبير أنطونيو غرامشي ،والذين كان لهم ،هم بدورهم فيما بعد ،أبعد الأثر في تكوين شباب وطنيّ مثقّف عالم توّاق إلى الحرية ، مجاهد في سبيل الوطن ،نيّف عدد الشّهداء منهم عن الأربعين في بدايات الثورة التحريرية المجيدة وحدها، حتى لقد انزعجت القوات الفرنسية من هذه الجهة ، وحتى أفتكت العالية المباركة من الحاكم الفرنسي للمنطقة ، وبجدارة لقب : (( مشتلة الفلاقة )) ....
وان ينس التّاريخ ،فانّه لا ينسى أبدا جهود هذا الشّيخ الجليل في الوقوف بكل شجاعة في وجه المخطّطات الأستدمارية الرّامية إلى تفريق الجزائريين. وذلك من خلال العمل على التّقريب بين أتباع المذهبين المالكي والاْباضي؛مراعاة للوحدة الوطنية الملحّة؛ومراعاة كذلك للمصالح المشتركة لأبناء الجهة الواحدة.وذلك من خلال التنصيص ،والتذكير في كلّ فرصة بأنّ المذهبين غير متباعدين في الرّؤية،و أن ما يجمع أبناء الأمة الواحدة أكثر مما يفرقهم؛ والحث على وجوب التفطن باستمرار لمكائد المستدمر .
لقد استمرّت جهود الشيخ في هذا الاتّجاه، خاصّة بعد أن استقرّ به المقام في القرارة،فكان يعمل بكلّ ما في وسعه لقطع الطّريق على المستدمر الفرنسي الهادف الى تسميم العلاقات بين إتباع المذهبين في كلّ مرّة.
ومازال أبناء منطقة العالية يتداولون أحاديث تتعلّق بالمناظرة الشّهيرة التي جمعت القطبين: محمّد الطّاهر بن عمارة شوشان مناظرا باسم السّادة المالكية؛ ويوسف بن طفيش مناظرا باسم السّادة الاباضية؛ إلا أنّنا لا نملك الآن بحوزتنا وثائق تؤكّد حصول هذه المناظرة أو التّاريخ الذي تمّت فيه ؛ أو تفاصيلها إن هي حصلت حقّا.
فإذا نحن افترضنا وقوع هذه المناظرة، فالاحتمال قائم حينئذ في أنّها كانت في أيام شباب الشّيخ، أي في أواخر القرن التاسع عشر؛ وحتّى على أبعد تقدير، لا يمكن أن تتجاوز بدايات القرن العشرين؛ لانّ القطب يوسف بن طفيش كان قد توفي في حدود 1914 وفي سنّ جدّ متقدّمة.
رحم اللّه قطب الإصلاح، وحجّة المالكية، العالم العامل العلاّمة الشّيخ محمّد الطّاهر بن عمارة شوشان، وجازاه عن أمّته خير الجزاء.
الهوامش :
(1) محمد عابد الجابري, نحن و التراث (قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي), الطليعة,ط1, 1980, مركز دراسات الوحدة العربية.
(2) المسألة الثقافية في الوطن العربي, مركز دراسات الوحدة العربية,ط1, 1994, بيروت.
فرحات الأخضري- قسم اللغة و الأدب العربي - جامعة ورقلة