مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية: عبد الحميد بن باديس (1359 هـ)

بقلم: محمد بن عبد الرحمن المغراوي-

هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس(1) أبو الفتوح، بمدينة قسنطينة ولد يوم الحادي عشر من ذي القعدة عام سبع وثلاثمائة وألف للهجرة من أسرة ثرية بربرية صنهاجية عريقة؛ كان لها الملك والسلطان خلال القرن الرابع الهجري، وأبرز رجالها الأمير المعز لدين الله بن باديس المتوفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة (2)؛ الذي نصر السنة وحارب البدعة وقضى على العبيديين الباطنيين وأبعدهم عن الغرب الإسلامي، وأعلن مذهب أهل السنة.

ظهرت على الشيخ علامة النجابة وحب العلم منذ صباه، فسخّر الله له أباً صالحاً وطّأ له سبل العلم وشجعه عليه وكفاه المؤنة حتى قال له: (اكفني همّ الآخرة أكفك همّ الدنيا).

حفظ القرآن كاملاً على محمد الماداسي أشهر قراء قسنطينة في وقته، وأتم دراسته بالزيتونة، ودرس بها. من شيوخه الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي والبشير صفر وغيرهم كثير.

رحل إلى عدة بلدان منها: الحجاز وسوريا ولبنان ومصر، والتقى بعلمائها كمحمد بخيت المطيعي الذي أجازه، وغيره.

ومن العوامل التي نهجت به المسلك الصحيح عقيدة وسلوكاً التقاؤه بعلماء الدعوة السلفية بالحجاز، فترعرعت فكرة الإصلاح في نفسه، والتقى للمرة الأولى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالمدينة النبوية وتدارسا الإصلاح في الجزائر وسبله مدة ثلاثة أشهر يلتقيان كل ليلة.

رجع إلى الجزائر ودرّس بمساجدها، وقد فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروس يومية، كما شرح موطأ مالك خلال هذه المدة. وأسس مع مجموعة من العلماء (جمعية العلماء الجزائريين) وكان رئيساً لها منذ تأسست إلى أن مات. وقد أصدر رحمه الله عدة صحف منها 'المنتقد' و'الشهاب' و'البصائر' وغيرها.

توفي بعد معاناة شديدة من المرض في ربيع الأول عام تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بمسقط رأسه رحمه الله.

من آثاره:

'العقائد الإسلامية' وجمع له من مجلة 'الشهاب' كتابات في التفسير بإشراف محمد الصالح رمضان وتوفيق شاهين وطبعت بعنوان: 'مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير'.

وله مقالات كثيرة جداً في الفقه والحديث في جرائد ومجلات (جمعية العلماء) وقد جمع عمار الطالبي قسطاً طيباً من آثاره ولا يزال قسط آخر لم يجمع بعد.

[موقفه من المبتدعة:]

- قال رحمه الله في سبب اختياره الدين على السياسة للنهوض بالأمة: وبعد: فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.

ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه -ولا يخفى على غيرنا- أن القائد الذي يقول للأمة: إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتك)، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها. وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا، وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله لماضون، وعليه متوكلون. (3)

- وله 'الدرر الغالية في آداب الدعوة والداعية' قال فيه:

تحذير:

خطبة الجمعة اليوم: أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر، وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيرا ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.

هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية، سد بها أهلها بابا عظيما من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن عظيم من أركان الإسلام. فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيبا في الناس. وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون. (4)

- وقال: بماذا تكون الهداية؟ كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون، إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين، فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال. ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر، جاء بالضمير مفردا في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} (5).اهـ (6)

- وقال: تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيرا مرتبكا: كمن يكون في ظلام: منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى، والمقلد للآباء من دليل يطمئن به، ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه؛ ومنها حالة الشك؛ ومنها حالة اعتراض الشبهات؛ ومنها حالة ثوران الشهوات.

وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والاهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات والشهوات، وما فيها من حيرة وعماية إلى الحالة التي تطمئن فيها القلوب، كما تطمئن في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام. فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات، وتكسر سلطان الشهوات. فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من اعرض عنهما، أو خالفهما، يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة، وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (7).اهـ (8)

[موقفه من المشركين:]

داوم في جريدة 'الشهاب' على حرب المشعوذين، فكان يقول فيها: احذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل.

[موقفه من الصوفية:]

حارب التصوف وحذر الناس من سلوكه حتى بلغ بهؤلاء الحقد إلى محاولة اغتياله سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لسبع وعشرين وتسعمائة وألف ميلادي. وكان بعضهم يسميه: (ابن إبليس).

[موقفه من القدرية:]

له كتاب: 'العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية' بين فيه مسألة القدر فقال: العمل بالشرع والجد في السعي مع الإيمان بالقدر:

الشرع معلوم لنا، وضعه الله لنسيّر عليه أعمالنا. والقدر مغيب عنا، أمرنا الله بالإيمان به لأنه من مقتضى كمال العلم. والإرادة من صفات ربنا. فالقدر في دائرة الاعتقاد، والشرع في دائرة العمل. وعلينا أن نعمل بشرع الله ونتوسل إلى المسببات المشروعة بأسبابها، ونؤمن بسبق قدر الله تعالى: فلا يكون إلا ما قدره منها، فمن سبقت له السعادة يسر لأسبابها، ومن سبقت له الشقاوة يسر لأسبابها. (9)

ثم ذكر بعض الأدلة فقال:

الاحتجاج بالقدر: لا يحتج بالقدر في الذنوب، لأن حجة الله قائمة على الخلق بالتمكن والاختيار والدلالة الشرعية، لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ()} (10).

الحذر والقدر: مع الإيمان بالقدر، يجب الأخذ بالحذر، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (11)، وقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (12).

الحكمة والعدل في القدر: القدر كله عدل وحكمة، فما يصيب العباد

فهو جزاء أعمالهم. وقد تدرك حكمة القدر ولو بعد حين، وقد تخفى، لأن من أسمائه تعالى: الحكيم، ورد في الآيات والأحاديث الكثيرة. ومن أسمائه تعالى: العدل، ورد في حديث الأسماء عند الترمذي (13). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكرب: «عدل في قضاؤك» (14).

ولقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (15).اهـ (16)


الهوامش:

(1) الأعلام (3/ 289) ومعجم المؤلفين (5/ 105) وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعبد العزيز دخان.

(2) وقد ذكره ابن خلدون في تأريخه للدولة الصنهاجية.

(3) مدارك النظر (294 - 295).

(4) الدرر الغالية (40).

(5) المائدة الآية (16).
(6) الدرر الغالية(59)

(7) المائدة الآية (16).
(8) الدرر الغالية (61 - 62).

(9) العقائد الإسلامية (ص.74).

(10) الزخرف الآية (20).

(11) النساء الآية (71)

(12) النساء الآية (102).

(13) أخرجه الترمذي (5/ 496 - 497/ 3507) وقال: "حديث غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح". وابن ماجه (2/ 1269 - 1270/ 3861) وقال البوصري في الزوائد: "لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره، غير ابن ماجه والترمذي. مع تقديم وتأخير، وطريق الترمذي أصح شيء في الباب. قال: وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد". وقال الحافظ في الفتح (11/ 258): "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج" اهـ. والحديث ورد بدون تعيين الأسماء الحسنى. من حديث أبي هريرة. وقد تقدم تخريجه ضمن مواقف إسحاق بن راهويه سنة (237هـ).

(14) أحمد (1/ 391) والطبراني (10/ 209 - 210/ 10352) والحارث بن أبي أسامة (بغية الباحث 1063) وصححه ابن حبان (3/ 253/972) والحاكم (1/ 509) كلهم من حديث ابن مسعود. والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/ 136و186 - 187) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان ".

(15)الشورى الآية (30).

(16) العقائد الإسلامية (ص.76 - 77).


المصدر: كتاب موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.