جهود المدرسة الإصلاحية الجزائرية في دراسة المصطلح القرآني –تفسير ابن باديس أنموذجًا- (3)
بقلم: نبيل صابري-
المبحث الرابع: معالم في مدى اهتمامه بمنهج الدراسة المصطلحية:
الدراسة المصطلحية ضرب من الدرس العلمي لمصطلحات مختلف العلوم، وفق منهج خاص؛ بهدف تبيّن وبيان المفاهيم التي عبرت أو تعبر عنها تلك المصطلحات في كلّ علم، في الواقع والتاريخ معًا، وسر الصناعة في المنهج المعتمد، فهو مفتاح المفتاح؛ الذي به يتم الكشف عن الواقع الدلالي لمصطلح ما في متن ما، ووصفه، وهو الذي به يتم رصد التطور الدلالي لمصطلح ما، وتاريخه، وهو الذي به -أثناء ذلك- يتم التبيّن والبيان للمفاهيم؛ إذ بدراسة النصوص التي ورد بها مصطلح ما دراسة معينة يحصل التبين، وبعرض نتائج تلك الدراسة على نمط معين يحصل البيان، وبهما معًا -متلازمين متكاملين- يتحقق الهدف المتوخى من الدراسة المصطلحية(82).
ولمنهج الدراسة المصطلحية مفهومان: عام، وخاص، أما العام فهو طريقة البحث المهيمنة المؤطرة للمجهود البحثي المصطلحي كله، وهو الموصوف بالوصفي أو التاريخي...، وأما الخاصّ فهو طريقة البحث المفصلة المطبقة على كلّ مصطلح من المصطلحات المدروسة، في إطار منهج من مناهج الدراسة المصطلحية بالمفهوم العام، وهذا الذي يمكن تلخيص معالمه الكبرى بإيجاز شديد في خمسة أركان:
- الإحصاء.
- الدراسة المعجمية.
- الدراسة النصية.
- الدراسة المفهومية.
- العرض المصطلحي؛ بذكر (التعريف، الصفات، العلاقات، الضمائم، المشتقات، القضايا)(83).
هذا المنهج الذي يعد من الآليات العصرية لم نكن لنجده في التفاسير السلفية أو المتأخرة -قبل ظهور المنهج-، فعملية التأويل تجري على سنن وقواعد معتبرة، جرى العمل عليها من قديم الزمان، ورغم فاعلية مناهجها وسلامة نتائجها إلى حدّ بعيد -خاصة ما تم تجديده من المدرسة المنارية والبيانية- تبقى في «غياب شبه تام لمنهج هادف وناظم لسمات المصطلح الدلالية، أو استقراء شامل لكلّ نصوصه، وتصنيف دقيق لاستعمالاته في القرآن الكريم، وما حُصّل من معانيه إنما تم -في الغالب- في ضوء فهوم العلماء والمفسرين والدارسين؛ مما جعل دراسته أقرب إلى الدراسة الأدبية أو الفكرية أو التفسير الموضوعي منها إلى الدراسة العلمية والمنهجية التي تقرب صورة المصطلح كاملة إلى الفهم»(84).
وعند الفحص لتفسير ابن باديس، خلصت نتائج مدى اهتمامه بمنهج الدراسة المصطلحية إلى ما يلي:
عنصر الإحصاء: يكثر عنده جمع الآيات ونظائرها من القرآن والسنة في الموضوع الواحد، ولكن منهجية الاستقراء قليلة، ومنها ما ذكره عرضًا عن امتزاج المواعظ الحسنة بالحكم البالغة؛ حيث قال: «فتتبعها في جميع سوره تجدها، وتدبرها تقع منها على علوم جمة وأسرار غزيرة»(85)، وما ذكره عن عباد الله، حيث نفى أن توجد آية واحدة دالة دلالة صريحة على ذكر عباده دون خوف أو رجاء(86)، فالمثال الأول يرشد إلى الإحصاء، والثاني يدل على أنه أعمله في منهجه؛ إذ لا نفي إلا بعد السبر والتأكد.
عناصر العرض المصطلحي: وهي متفاوتة في الاهتمام، تكثر في الحدود والقضايا، وتقلّ في غيرها.
التعريف: وهو أبرز العناصر اللافتة التي تكرر الحديث عنه في كلّ آية تقريبًا، فلا يكاد يمضي في التفسير وتجلية المعنى العام حتى يبيّن مفاهيم المصطلحات، وغرائب الآيات، يضع شرحه على المراد بذكر أصله اللغوي، ووجه اشتقاقه من غير اطراد، ومناسبة الاصطلاحي للغوي أحيانًا، ثم يختار ويعلل بعد التنقيح والتمحيص.
أمثلة: قوله عن مصطلح التأويل: «مصدر أول، بمعنى رجع، من آل يؤول أَوْلًا، بمعنى رجع، وهو هنا بمعنى المرجع والمآل، أي العاقبة»(87).
قوله عن مصطلح الفتنة: «البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم، هذا معنى الفتنة لأنها ذكرت في مساق الوعيد»(88).
قوله عن مصطلح نُزِّل في آية الفرقان: «يأتي مرادفًا لأنزل، والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيداً للتكثير؛ فيفيد تكرر النزول وتجديده، وخرج على هذا قوله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}[آل عمران:3]، وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج؛ لئلا يناقض قولهم جملة واحدة، فيكون من التضعيف المرادف للهمزة. وعندي أن (نَزَّلَ) المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته، فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية؛ لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كلّ جزء من الأجزاء بمفرده»(89).
الصفات: هذا العنصر يكاد ينعدم، ولم أجد له تمثيلًا في الصفات المبينة أو الحاكمة، وإنما وجدتُ له مثالًا في الصفة المصنفة عن موقع لفظ البشر في سياق سورة الناس، وسبب اختياره، حيث يقول: «واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية؛ لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق، وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه، فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبًا عليه، وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر»(90).
العلاقات: وهي بأنواعها الثلاثة متوسطة الحضور، وهذه أمثلتها:
- علاقة الائتلاف:
قوله عن مصطلح الفلق: «الفجر المفلوق المفري، ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم»(91).
- علاقة الاختلاف:
قوله عن مصطلح المكروه: «هو المبغوض المسخوط عليه، وهو ضد المحبوب المرضي عنه»(92).
- علاقة التداخل والتكامل:
قوله عن مصطلح العلم من حيث معناه الأصلي والفرعي: «والعلم إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء كانت تلك البينة حسًّا ومشاهدة أو برهانًا عقليًّا، كدلالة الأثر على المؤثر والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظنّ، هذا هو الأصل، ويطلق العلم أيضًا على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جدًّا»(93).
الضمائم: من أمثلته: لما درس مصطلح الخسار ذكر أنواع إضافاته فقال: «الخسار: النقص والضياع يكون في الأموال، يقال: خسر ماله إذا ضيعه، ويكون في النفوس فيقال: خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خلقت له من الطاعة والكمال، ويكون في الدين فيقال: خسر دينه إذا ضيعه ولم يعمل به، فخاسر القرآن هو من ضيعه ولم يؤمن به»(94).
المشتقات: وهي قليلة التعرض، خاصّة إذا حددنا المشتق بكلّ لفظ اصطلاحي ينتمي لغويًّا ومفهوميًّا إلى الجذر الذي ينتمي إليه المصطلح المدروس، ومن الأمثلة المتعلقة بهذا الباب تفصيله الاشتقاقي لمصطلح تبارك، حيث يقول -رحمه الله-: «تبارك: مادة برك كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها بروك الإبل استناختها، والبركةكالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء، والبراكاء الثبات في الحرب، ومنها البركة بمعنى النماء والزيادة، ولا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينمو ويزيد، فلم تخرج عن الثبوت، وتبارك من البركة، فمعناه تزايد خيره، والله تعالى له الكمال ومنه الإنعام، فتبارك؛ أي: تزايد كماله وإنعامه فلا تحصى إنعاماته ولا تُحَدّ كمالاته»(95).
القضايا: وهو العنصر الذي طغى على بقية العناصر؛ حيث تمثل تقريبًا بأنواعه في كلّ آية مفسرة، سواء الأنواع، أو الأقسام، أو الأركان، أو الشروط، وهذا بعض ما جاء منها:
- حديثه عن شروط السعي المشكور في آية: {وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}[الإسراء:19](96).
- حديثه عن أنواع القضاء في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23](97).
- حديثه عن أقسام الشياطين لما فسّر قوله تعالى:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6](98).
- حديثه عن أركان الدعوة من خلال قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}[النحل:125](99).
- بسطه لمسائل تتعلق بالتكريم الرباني للنوع الإنساني من خلال قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ}[الإسراء:70](100).
خاتمة:
يعد تفسير ابن باديس من التفاسير التي جمعت بين العتيق والجديد، عتيق في التأصيل، جديد في التفعيل، ولكن الباحث فيه عن أثر الدراسة المصطلحية بمميزاتها العلمية والمنهجية وبالمقاييس التي نريدها اليوم لن يجد فيه شيئًا كثيرًا، فحقيقة الاعتناء بالمصطلح القرآني موجودة، ولكن بالكَمِّ الذي يتصوره المعتني بالدراسة المصطلحية ضئيل، ويزداد قلّة في مفتاح المفتاح الذي هو منهجية البحث المقررة، ورغم محاولتي المتواضعة في حصر جهوده بتتبع تفسيره كلمة كلمة، إلا أني لا أدعي الإحاطة والشمول.
هذا الحضور لعناصر المنهجية المصطلحية، وإن لم يلتزم فيه ترتيب معين، أو اهتمام متقارب، أو تنظيم وفق ما تم اقتراحه والعمل عليه في الدراسة الحديثة؛ لكن مع ذلك يجب التنبيه إليه، والاعتذار لصاحبه بتقدم وفاته، وأول التجديد -كما قيل- قتل القديم فهمًا، فلا يسعنا ونحن نروم دراسة عصرية تجديدية أن نضرب صفحًا عن تراث أسلافنا، فهم السابقون، والمصطلحيون، والمصلحون، ونحن نسير خلفهم مُلَمْلِمين ما استطعنا بما خلفوه، ودراسته وتخليصه وقتله درسًا واستقراء، وفق آليات العصر التي فرضت نمطًا من البحث لم يفرض من قبل؛ لمواكبة زمن المتغيّرات بالثوابت الراسيات، والمناهج القرآنية المستمدة من تاريخ تراثنا الغابر، والممتدة في عصرنا ومستقبلنا؛ بإبداع مصطلحي لبناء الذات، واستقلال مصطلحي لحوار الذات، وتفوق مصطلحي لشهود الذات.
والذي يسعني أن أقدمه من اقتراحات أو توصيات في خاتمة هذا البحث، والتي أحسبها قد كشفت جانبًا مظلمًا من أهم جوانب تفسير ابن باديس، العناية بالمصطلح القرآني والاهتمام به، ما يلي:
- اعتماد تفسير ابن باديس في تأريخ مفاهيم المصطلحات القرآنية، فدرسه كان بحقٍّ تجديدًا معرفيًّا حديثًا لكثير من المصطلحات التي كساها الزمن عوامل التحوير والتحريف.
- مواصلة الكشف عن مواضع الجِدّة في التراث التفسيري الحديث؛ لاعتماده أو إهماله في عملية الجمع والتوثيق.
- تأطير الطلبة في مراحل دراستهم الجامعية بأصول المنهج المصطلحي، وذلك بمحاولة التنسيق مع رؤساء الجامعة لإدخال المادة في برامج الدراسة، وتدريبهم بالبحوث، فجلّ الدارسين في غيبةٍ عن وعي وفقه المنهج.
الهوامش:
[82] دراسات مصطلحية، الشاهد البوشيخي، ص44 و45 باختصار.
[83] المصدر نفسه، ص47 وما بعده باختصار.
[84] منهجية البحث في المصطلح القرآني من الدراسة المصطلحية إلى التفسير الموضوعي، جميلة زيان، ص12.
[85] مجالس التذكير، ص 70.
[86] المصدر نفسه، ص 283، ينظر أيضًا: ص419.
[87] المصدر نفسه، ص 134.
[88] المصدر نفسه، ص 222.
[89] مجالس التذكير، ص 254.
[90] المصدر نفسه، ص 417.
[91] المصدر نفسه، ص 405.
[92] المصدر نفسه، ص 147.
[93] مجالس التذكير، ص 136.
[94] المصدر نفسه، ص 188.
[95] المصدر نفسه، ص 226.
[96] المصدر نفسه، ص 83.
[97] المصدر نفسه، ص 96.
[98] المصدر نفسه، ص 419.
[99] مجالس التذكير، ص 67.
[100] المصدر نفسه، ص 169.