البرنامج اليومي للإمام ابن باديس
بقلم: د. محمد بابا عمي-
كم ساعةً يعمل الإمام ابن باديس يوميًّا؟ ومتى يلوذ إلى الراحة؟ وكم ساعة ينامُ؟
وكيف يقسِّم يومه؟ وما هي المحطات الثابتة في يومه؟ وما هي المحطات المرنة المتغيرة؟
وكيف يمارس الجمع بين الحاجات الأسَرية والأهداف العلمية والدعوية والحضارية؟
وما هي الحدود الفاصلة بين عمله وراحته؟ بين حقِّ نفسه، وحقِّ أهله، وحقِّ أمته؟
هي أسئلة كثيرة، طرحناها على المصادر أولا، ثم على بعض مَن تمرَّس فكر الإمام، وبرزَ في المعرفة بتفاصيل حياته؛ فاهتدينا إلى ما به تحقَّقنا أنَّ صورة الزمن عند الإمام مكثَّفة، ثريَّـــة، مختلفة عن المعتاد؛ موائمة لمقدماته النظرية، وقناعاته الفكرية، وإيمانه الصلب والعنيد.
فهو لم يكن يكتبُ عن أهمية الحركة وإعمار الوقت لمجرَّد التفكُّه، أو الشرحِ اللغوي والأسلوبي والنظري؛ وإنما كان يرسِم لنفسه، ولمن معه، ولمن على إثره، خطَّ السير، ويفتح لهم الآفاق الرحبة للتغيير، لا على أساس من الادِّعاء، ولكن على قواعد مِن فقه الاقتداء.
1- حلقة الدرس:
كان ابنُ باديس لا يغادر المسجد، ولا يتخلَّف عن حلقة الدرس؛ ولقد ذكَر في مقال له بجريدة الشهاب ما نصه: "لقد مات ابني الوحيد، ومات أخٌ لي عزيزٌ، فما شغل ذلك بالي مثل اليوم، ولا منعني من دروسي وأعمالي" .
ينقل الأستاذ محمد الصالح رمضان أنَّ الإمام كان "يقضي بياض نهاره وزلفا من ليله – غالبا – في إلقاء الدروس، واحدا تلو الآخر، وقد يصل عددُها إلى ثلاثة عشر درسا في اليوم الواحد" ، ويؤكِّد هذا ما ورد في جريدة البصائر عدد 28 جانفي 1938م، أنَّ "الأستاذ الرئيس يباشر هذه الأيام خمسة عشر درسًا يوميًّا".
ولقد عُرف عن الشيخ أنه "كان يحافظ على الوقت بصفة مثيرةٍ، بحيث لا تراه إلاَّ معلِّما، أو محاضرا، أو كاتبا، أو قارئا، أو ساعيا إلى زرع الخير... وحتى وهو راكب في القطار إلى الجزائر أو منها إلى قسنطينة، فإنه كان يقرأ أو يكتب أو يتلو القرآن" .
وفي شهر رمضان يزداد نشاط الشيخ ابن باديس، وتزداد حيويته، فيُضيف إلى دروسه درسا في شرح البخاري عادة؛ كما هو التقليد في التراث المغربي بعامَّة.
وعلى رأس دروسه المسجدية درسُ التفسير، وهو درس يلقَى يوميًّا بعد صلاة العشاء في الجامع الأخضر، ما عدا يوم العطلة الأسبوعية...
أمَّا عن حجم الدرس، فالغالبُ هو التقصير وعدم التطويل، ويلاحظ ذلك في دروسه المنقولة في الشهاب خاصَّة، والتي قد لا تزيد على ساعة واحدةٍ للدرس الواحد؛ بخاصة لو حسبنا ثلاثة عشر حلقة في اليوم، فالمعدَّل الخام هو ثلاثة عشر ساعة (13 سا)، عدا التحضير، وما بين الأوقات، والصلوات، واللقاءات، والتأليف.
وتوثِّق الشهادات أنَّ آخر درس ألقاه الشيخ قبل وفاته كان درسًا للنساء، ذكِر ذلك في رسالة كتبها أحمد بوشمال، وهو مرافق ابن باديس وأعرف الناس به؛ والرسالة كتبها بعد ثلاثة أيام من وفاة الشيخ، ونقلها الأستاذ محمد الهادي الحسني في كتابه "أشعَّة الشروق" موثَّقة، وفي الرسالة وصفٌ بليغ لآخر ثلاثة أيام في حياة الشيخ ابن باديس .
2- التأليف والكتابة:
كتب الإمام ابن باديس معتذرا لقراء "الشهاب" عن تتميم حلقات "مجالس التذكير" التي تعوَّدوا قراءتها في كلِّ عدد، فجاء الاعتذارُ متضِّمنا لوقت الكتابة عنده، وهي غالبا "طرفي النهار وزلفا من الليل"، ونصُّ الاعتذار هو:
"ما قرأتموه من التذكير بهذه الآية الكريمة في هذا الجزء، قد كتبتُ شطره مساء الاثنين، وشطره بكرة الثلاثاء الغد منه، وفي صبيحة هذه الثلاثاء ابتُدئت المحاكمة في قضية المفتي ابن دالي التي اتهم فيها الشيخ الطيب العقبي، والسيد عباس التركي باطلا، ظلما، عدوانا، فكان من واجبي أن أحضُر جميع الجلسات، فانشغل بالي عن تتميم مجالس التذكير... إنَّ هذه القضية اليوم هي قضية الإسلام والعربية والجزائر، لا قضية فرد أو جماعة، فمعذرة يا قرائي الأعزة، والله نسأل أن يظهر الحقَّ ويبطل الباطل" .
ومع ذلك فقد ترك الإمامُ موسوعة مؤلفة من التفسير، والحديث، والمقالات، والشعر، والتقارير؛ للأسف لم تنل العناية الكافية بعدُ، رغم الجهود الطيبة التي بذلت في نشرها .
3- الطعام:
حدَّث السيد شريفي عمرو صاحب المكتبة الجزائرية بالعاصمة، وهو ممن عاشروا الإمام عبد الحميد، وعرفوا عنه الكثير، ما مؤداه:
"خرج الشيخ من مقصورته بجامع سيدي قموش بقسنطينة ذات يوم، فطلب من السيد زواوي مولود، وهو من تجار بني عباس، أن يبحث عمَّن يشتري له نصف لتر من اللبن، وأعطاه آنية، فرآها فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه إلى شوَّاء واشترى صحنًا من اللحم المختار، فعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدَّمه إليه استشاط الشيخ غضبا، وقال له في لهجة شديدة وصارمة: ألا تعلم أنني ابن مصطفى ابن باديس، وأنَّ أنواعا مختلفة من الطعام اللذيذ تعدُّ كلَّ يوم في بيته، لو أردتُ التمتع بالطعام؛ ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك، وطلبتي يسيغون الخبز بالزيت، وقد يأكله بعضهم بالماء"
وفي حوارات متواصلة بتلمسان بين الشيخين ابن باديس والإبراهيمي، ينقل الأستاذ الحسني عن الشيخ بومدين التاجر، أنه حين يزوره في تلمسان، يأخذهما في سيارة مغطَّاة إلى هضبة "لالة ستي"؛ ثم يقول: "وكنتُ في منتصف النهار آخذ لهما كسرةً وحليبًا".
من خلال هاتين الشهادتين، وما ورد في تقارير الأسفار لابن باديس، وغيرها مما كتب في مصادر الترجمة؛ جميعُها مجمعة أنَّ ابن باديس كان مقلاًّ في الطعام، ولم يكن يمنح وقتا معينا لغدائه وعشائه؛ ولم يكن يستسيغ الإكثار، وهذا ما يفسِّر حفاظه على شبابه وصحته، وحتى على نصاعة وجهه، وقدرته على التحمُّل. وهو في هذا سار على سنة الرسول عليه السلام، وعلى أثر الصحابة الكرام، والأيمة الأعلام .
4- النوم والراحة:
تجمع مصادر "البحوث الزمنية" "وعلوم النوم والأرق" أنَّ معدَّل النوم اليومي يتراوح ما بين ستِّ ساعات وثماني ساعات يوميا (6-8 سا)؛ وأنَّ وقت النوم هو الأهمُّ، وليس عددُ الساعات؛ ولكنَّ المنقول عادة في المراجع المتخصِّصة هو "ثماني ساعات يوميًّا"؛ حتى صار كأنـه قانون علميٌّ محقَّق.
بهذا المعيار يصنَّف الإمام ابن باديس تحت الحدِّ الأدنى، ذلك أنه ينام أربع ساعات في اليوم، وذلك من منتصف الليل إلى الرابعة صباحا، وهو غالب نومه، وهو لا يقيل.
يقول الشيخ عمار مطاطلة، ناقلا شهادة عن الإمام ابن باديس حين كان طالبا في مدرسته:
"أخذتني سِنة فجر أحد الأيام، أثناء حلقة الدرس، فقال لي الشيخ: "أفِق"،
فسألني: "متى ظنك أني نمتُ، في تقديرك؟"
ثم أردف يقول: "نمتُ في منتصف الليل، واستيقظتُ في الساعة الرابعة، وهذا غالب أمري"