ابن باديس..وعبقرية الحراك الإصلاحي
بقلم: د. سكينة العابد-
إن قراءة منهج ابن باديس في الإصلاح بتقزيمه ضمن أطر الإصلاح الكلاسيكية هي قراءة طوباوية تنفي عن الرجل سمة العبقرية والتفرد في تسيير قارب الإصلاح المحاصر بأعتى استعمار عرفه القرن العشرين.
فقد كان ابن باديس شاهدا على مأزق كبير عاشه الشعب الجزائري وهو التمزق والتشتت الهوياتي الذي كان رهان الاستعمار الفرنسي، الذي ما انفك يلوح بإضعاف السلطات الأساسية لأي شعب وهي ثالوث الأرض الأمة، والذاكرة وإبعادها عن دائرة فهمه، أولوياته وتطلعاته.
فقاوم ابن باديس تلك الرهانات الكبرى ، وممارسات القمع الفكري التي كادت أن تصبح مسلمات أو نهايات لدى فرنسا خصوصا وأن مائة عام قد مرت على احتلالها للجزائر ، فبنظره الثاقب وذكاءه المتقد ومنطقه المتمرس عرف أن المقاومة لا تكون بالمواجهة المعلنة، لأن المجتمع الجزائري آنذاك كان يغرق في الجهل والتبعية، وكان المستعمر يمتلك كل مقومات إنتاج أساليب التحطيم ،لذلك فاستخدام شعب أنهكه المستعمر لعقود متتالية في المواجهة ستكون عواقبه مهلكة له ونضاله سيحمل بذور الفناء فكان ولا بد من الخضوع لمرحلة التكوين وتجديد دماء المقاومة والنضال.
إن المهمة النضالية والإصلاحية أصيلة في فكر ابن باديس، لكن الأهم من ذلك هو عبقريته في تشخيصه لواقع المجتمع بعقلانية للوصول إلى تحقيق ثنائية التفسير والتغيير، أو إعادة تشكيل هذا المجتمع من خلال تنويره وتذليل صعوبات الحصول على مفاصل يصحح بها ما علق به من انحرافات خطط لها، والعمل على نفضها ومقاومتها.
فمن خلال قراءتي في المسار الإصلاحي للشيخ ابن باديس تبين لي أن الرجل أراد أن يبني قواعد تحتية على نحو مبتكر بدل أسلوب المشاريع المعلنة والانغلاق خلف صور النماذج العليا أو الزعامات، وبهذا الأسلوب فإنه ومن خلال حراكه الإصلاحي الفريد، جعل الشعب يسهم هو نفسه في تغيير ذاته والعلو بها، وفهم ما يدور أمامه وخلفه.
لقد أسس ابن باديس حسب تصوري لحراك ساكن هو حراك الشعب برمته من خلال نقد الذات أولا، ثم القفز على الحواجز الثقافية والسياسية وحتى العسكرية التي بناها المستعمر حياله .. بل خرج بهذا المجتمع من دائرة الشكوى والاستسلام إلى دائرة العمل والحراك لتفكيك آليات مشروع المستدمر ونمطية ممارساته من خلال الانفتاح على الثقافة الذاتية والاعتصام بأصولها الحقيقية عبر طاقات الخلق والابداع التي ظلت كامنة تحت سياط المستعمر وأجندته. أي باختصار ممارسة الغزو المضاد المبني على خطط ووسائل مختلفة ومتزامنة وهذا ما قام به ابن باديس واستطاع من خلاله تحريك العقول والزج بها نحو مساحات معرفية أوسع وأنجح.
بهذا المعنى بوسعنا القول أن الرجل أراد أن يبني الرجال والنساء ليكونوا حصنا ووقودا قبل أي حراك واقعي الذي لن يجني أكله مع شح الزاد الفكري، فكان من الضروري بناء أدوار جديدة تبتعد عن أي نضالات فاشلة قد يتغدى منها الاستعمار ويجعلها مشاريع للمحو والتدمير.
ويعجبني في هذا المقام ما قاله المفكر الجزائري مالك بن نبي معترفا بعبقرية ومعجزة ابن باديس وهو اعتراف مفكر فذ يدرك قيمة الرجال: لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب المخدر يتحرك ويالها من يقظة جميلة مباركة.
ومن هنا فلا عجب أن يقول أحدهم يوم وفاته مبتهجا: آن لفرنسا أن تطمئن على بقائها في الجزائر فقد مات ألد أعدائها.