ذكرى وفاة ابن باديس: مذكرات محمد الطيب العلوي 16 أفريل 1998

بقلم: محمد الطيب العلوي-

اليوم تحل ذكرى وفاة الرجل العظيم، عبد الحميد بن باديس، فمن هو عبد الحميد؟ إنه الرجل الذي نشأ في أسره ثرية، ومن سلالة عائلة ملوك، ومن الأعيان في الفترة الاستعمارية، في هذه البيئة تفتحت عينا عبد الحميد، وفي وسط البذخ والترف ترعرع. أرسله والده لتعلم القرآن فحفظه صغيرا، وظهرت نجابته فتبناه الشيخ حمدان الونيسي الذي كان يعتبر عميد العلماء المربين في قسنطينة والذي تخرج على يديه علماء بارزون.

كان الأب يُعد لابنه مستقبلا محددا، أن يدرس، ويخرج عالما جليلا تتباهى به العائلة، كموظف محترم مهاب في أسلاك الإدارة الفرنسية، فأرسله إلى جامع الزيتونة بتونس. تابع دراسته سنوات، تحصل فيها على علم غزير، وأجازه علماء كثيرون، وانتهت إقامته في تونس، فعاد إلى مسقط رأسه، حيث حظي باستقبال رائع من الأسرة، ومن والده بصفة خاصة.

قضى أياما بين أحضان الأسرة. أخبره والده بأنس يبتدئ في المساعي لتعينه في وظيفة سامية.. التمس عبد الحميد من والده فرصة للتفكير، لأنه الآن بصدد التفكير في القيام بأداء فريضة الحج، وبجولة في البلدان العربية الإسلامية. حاول الوالد بأسلوبة أن يثنيه عن فكرة الحج والزيارة، فلم ينجح..

ها هو عبد الحميد في أرض الحجاز، حيث وجد علماء أعجب بهم وبإخلاصهم لله وللعلم، وحيث عقد صداقات.. أقام بالحجاز حوالي ثلاثة أشهر، انتقل بعدها إلى بغداد ودمشق والقاهرة. تمكن في جولته هاته أن يطلع على معالم نهضة عربية إسلامية في طريقها إلى الظهور، بفضل رجلين: الأول جمال الدين الأفغاني هذا الرجل من عائلة محترمة، وتوفرت لديه إمكانيات أن يكون شخصا له مكانته في الأفغان أو في إيران، لكن الرجل فضل الدعوة إلى تحرير الشعوب الإسلامية من نير الاستعمار، فبدون حرية لا ينهض المجتمع العربي الإسلامي، ولا يغادر محيط الانحطاط، تفرغ لهذه الدعوة، كان ينتقل من بلد إلى بلد، ينشر أفكاره بشجاعة، وبأساليب جذبت الانتباه، فأحاط به شبان وتحمسوا لأفكاره، وضاقت به الأنظمة فحاربته وضايقته مما اضطره إلى الانتقال من قطر إلى قطر.. لم تشغله أسرة أو منزل أو ثروة إلى ان انتقل إلى رحمة الله.. أما الثاني فهو الشيخ محمد عبده، شيخ جليل له مكانته العلمية في ربوع مصر، كان على صلة وثيقة بالأول، آمن بدعوته. ولما أعلن أحمد عرابي عن انتفاضته، انضم إليه عبده، وكانت النتيجة إخفاق الانتفاضة وإلقاء القبض على الذين قاموا بها أو دعوا إليها، فنفي محمد عبده إلى الخارج إلى لبنان ثم انتقل إلى باريس، وبها التقى جمال الدين الأفغاني، وأنشأ مجلة "العروة الوثقى".

ثأثر ابن باديس بالرجلين، تأثر بفكرة جمال، لكنها غير صالحة للتطبيق في الجزائر، وتأثر بفكرة عبده معتقدا أنه يمكن تطبقها ولو بصعوبة..

عاد ابن باديس، وما كاد يحل بين أسرته حتى طلب من والده أن يقوم بالتدريس، لا في الإطار الحكومي، ولكن في الإطار الحر التطوعي.. وطلب السماح له بالتعليم في مسجد العائلة على صغره.. رغم امتعاض الوالد، فإن الشاب شرع في تعليم الكبار من حفظة القرآن ومن الراغبين في التعلم.. وبدأ العدد يتزايد، والإقبال يتضاعف..

فرض عبد الحميد أسلوبه ومشروعه على أسرته، وعلى مدينة قسنطينة التي كانت الزوايا تتجاذبها، وتتحكم كل زاوية في جي من أحياء قسنطينة، وفي أسر معينة..

الحديث عن عبد الحميد ليس بالحديث العادي، وأنا لا أريد الغوص فيه، وإنما تذكرت في هذه المناسبة كيف عرفت ابن باديس.

1) في مساء يوم وبين الصلاة المغرب وصلاة العشاء، كان الوالد يستعد ليؤم بالناس. دخل شخص غير عادي، تقدم من الوالد، وقال له: هذه الرسالة للشيخ عبد الحميد، وهي مستعجلة.. وبين الوالد والشيخ علاقة وثيقة جمعت بينهما عدة صفات، ويكنان لبعضهما البعض الاحترام والتقدير. التف الوالد نحوي، وقال:

- هل تستطيع إبلاغ هذه الرسالة للشيخ؟

- لكني لا أعرف أين يسكن..

- هل تعرف مكتب السيد السعيد حافظ مدير مدرستكم

- نعم أعرفه.

- إذن ستجد الشيخ بالمكتب.. ناوله هذه الرسالة، ولاتنس إلقاء التحية عليه وتقبيله.

لم أكن مستريحا لهذه المهمة، فقد تسرب إلي الخوف، وشيء من الرعشة مرفقة بتساؤل بيني وبين نفسي: أنا أقف أمام الشيخ وأراه وجها لوجه. هذا مستحيل..

كان اسم الشيخ عبد الحميد كافيا لأن يبعث حركة غير عادية في أي مكان يمر به، وكان اسمه كافيا لأن يجعل الأطفال المتشاجرين، يتركون شجارهم، ويهربون خوفا من الشيخ.. كانت للرجل هيبة ورهبة..

تحاملت على نفسي، والشجاعة لا تطاوعني، والتردد يساورني، والخوف من عقاب الوالد لايفارقني..

وصلت إلى المدرسة، داخلني الشك حتى في مدرستي، أهذه هي مدرستي التي أجيء إليها كل صباح؟ صعدت إلى الطابق الأول، وما كدت أنتهي من سلمه حتى لاح لي ضوء ينبعث من مكتب المدير في هذه اللحظة تضاعفت نبضات قلبي، واعتراني عرق. أتقدم نجو الباب بخطوات خائفة ثقيلة، لكن صوت الشيخ من عمق المكتب ناداني:

- تفضل يا يني..

وجدته منكبا على أوراق يكتب عليها. فتقدمت منه، وألقيت التحية، وقبلته.. قال لي:

ما الذي جاء بك يا بني؟

قلت:

- لقد أرسلني والدي إليكم لأسلمكم هذه الرسالة المستعجلة.

-ومن هو والدك؟

- الشيخ عمر العلوي.

إذن، أنت ابن أخينا الشيخ عمر.. بارك الله فيك، وسدد خطاك..

وعادت إلي حرارة الحياة، وأحسست بدفء وانتعاش.. فسلمت عليه قبل أن أغادر المكتب، وعدت إلى والدي الذي كان ينتظرني بالمسجد بعد تأديته لصلاة العشاء. لا ينتظرني لشخصي وإنما ينتظر وصول الرسالة إلى الشيخ، لم يسألني إلا عن الرسالة: هل سلمتها للشيخ يدا بيد.. وراح يتأكد.. أما أنا فلم أعد الطفل الذي أعرفه أو أحمل أثقاله، لقد ارقني هذا الحدث، وراحت أحلامي بعيدا. سأزهو غدا على زملائي بأني كلمت الشيخ وسلمت عليه..

2) أجبرني والدي في مساء يوم أن أرافقه إلى الجامع الأخضر، لأستمع لدرس الشيخ عبد الحميد في تفسير الحديث النبوي، وإن أنا فهمت درس الشيخ فسيكافئني بعشرة سوردي.. أولا لم أقبل الإجبار، ثانيا هل يمكن لمراهق مثلي أن يحضر دروس الشيخ؟.. لا أستطبع مخالفة الأوامر. امتثلت ورافقت الوالد إلى الجامع الأخضر، وتراءت لي صورة شراء كتاب "قرطاجنة في أربعة عصور، فقيمة الكتاب عشرة سوردي بالضبط.. ودخلت وجدته مكتظا، مما زاد في الرهبة، وكأن لا صلة لي أبدا، مع أن صلتي بالجامع وثيقة، إذ قضيت فيه صحبة الوالد أشهرا بالغرفة المجاورة لقبور الباي مؤسس المسجد.. وجدت الناس منتظرين لخروج الشيخ من المقصورة. خرج الشيخ؛ وعليه وقار العلماء بلباسه: برنس أسود، وعباءة، يلف على رأسه عمامة تغطي رأسه وأذنه.. سار بخطوات وأيدة إلى أن وصل إلى كرسي، جلس والأنظار مصوبة نحوه تنتظر في لهفة وشوق درس المساء.. شرع الشيخ في إلقاء الدرس بصوت خافت، ثم بدأ صوته يرتفع، وترد جدران المسجد أصداء الصوت.. كان درسه حول الحديث النبوي حول: "الصلاة عماد الدين" تابعت الدرس باهتمام، فلم أفهم كثيره، ولكنني احتفظت بالنص، وبقيت أستعيده إلى أن انتهى الدرس.. عدت رفقة والدي الذي سألني: فهمت الدرس؟ قل له: لم أحفظ إلا نص الحديث.. فطمأنني، وقال هذا يكفي.. وسلمني المكفأة، وكانت بالنسبة لي أعز شيء في تلك الفترة من حياتي، بل لا تزل راسخة في ذهني إلى الآن. سألني الوالد: مذا تشتري بهذا المبلغ؟ أجبت بدون لعثمة "قرطاجنة في أربعة عصور".. رافقني الوالد إلى مكتبة "النجاح" استقبلنا صاحبها مامي إسماعيل مرحبا بالوالد، ولربما بعرفان بعضهما البعض، ثم قال

لوالدي:

- أهذا ابنكم؟

أجاب الوالد:

سر صاحب المكتبة، وقال للوالد:

- إنه يتردد دائما على المكتبة يتأمل الكتب ثم ينصرف..

لأول مرة يسمع الوالد هذا الخبر، ففهم أسباب تأًخري أحيانا..

3) مما علق بذاكرتي، هذه القصة:

عند مأعلنت ألمانيا الحرب ضد فرنسا، داهم المرض المميت الشيخ عبد الحميد زاره والدي وسي عبد السلام خزناجي (فيما أظن) أحد المترددين على دروس الشيخ، وأحد جيرانه، بعد تبادل أحاديث المجاملة، قال لهما الشيخ: "لقد أعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا، ومن المؤكد أن فرنسا ستهزم. أطلب منكم أن تزوروا قبري وأن تسمعوني خبر انهزام فرنسا. قال له عبد المسلام: "لا زلت يا شيخنا في ربيع شبابك، ما أبعد الموت عنك.. أجابه الشيخ بأنه يشعر بدنو الأجل، فقال له عبد السلام: إذا أقترب أجلك -لا قدر الله- وفارقتنا إلى العالم الآخر، فهل تسمعنا وأنت في قبرك، عندما نخبرك باندحار فرنسا؟ قال له الشيخ: "أخبرني فقط، فإن سقوط فرنسا بين مخالب ألمانيا أسمعه جيدا، ويريحني في قيري "مات الشيخ.. احتلت الحيوش الألمانية الأرض الفرنسية، واحتلت باريس.. زاره الشخصان وأخبراه بما طلبة منهما!..

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.