الصراع بين الإسلام وأعدائه
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي -
الصراع بين الحق والباطل قديم، كان منذ خلق الله البشر وجعل للأهواء حظًا من السلطان على نفوسهم. ومن فروع هذا الصراع، الصراع بين الإسلام والكفر، فقد صرع الإسلام في عنفوان قوّته السماوية الأولى كل ما كان قائمًا من الأديان والنحل الباطلة ومزّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطّية على العقول حتى استقرّ في قراره من النفوس والأقطار وضرب بجرّانه في القطعة العامرة من أرض الله.
وأصبح برهانه لائحًا وبيّناته واضحة وقوّته غالبة فإما مسلم وإما ملق بالسلم، ومن كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمة باقية في أهله تتوجّه إلى الضال ليهتدي وإلى المهتدي كي لا يضل.
فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال وما خالط عزائمهم من وهن، ثم تلاشت بتفرّقهم فيه واشتغالهم بالجدل الداخلي وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم وبعدهم عن منبع هدايته الأولى هاجت عليهم دعايات الأديان الأخرى وما تفرّع عنها من مذاهب مادية تغري بالمادة وتؤلّهها ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمروق من الدين وخلع ربقته ثم تشعّبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين: واحدة تسعى سعيها وتبذل وسائلها لفتنة المسلم عن دينه وإدخاله في دين آخر، وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها، وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين لما يصحب الشباب من قوّة الإحساس وسرعة التأثّر وتأجّج العاطفة والميل إلى الانطلاق.
والشعبتان معًا تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين وهم قوة في العدد عن دينهم وهو مناط قوّتهم الروحية ليتم للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين واستغلال خيرات أوطانهم. ومن ظن من عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليستْ مدبرة وليست منظّمة وليست متعاونة متساندة وليست مرصدة لوقتها ورامية إلى هذا الهدف، من ظنّ هذا فأقل درجته أنه مغفل جاهل مغرور.
ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم وكانت لهم دعاية منظمة يمدّها الأغنياء بالمال والعقلاء بالرأي والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية وبالتوجيه لغاية الغايات فيه وهي إسعاد الانسانية وتحقيق السلام بين البشر والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم، وإقامة العدل بين الناس ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن لكانوا اليوم فيصلًا بين الكتلتين المتطاحنتين وحاجزًا حصينًا بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة التي لا تبقي على بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر، بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا انه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام محسنون للإبانة عنها ولعرضها على العقول لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر، الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية ولم تقم الموازين القسط بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون متطلعون إلى حال تغيّر هذه الأحوال، وفي الإسلام ما يقوم بذلك كله ويرجع بالناس إليه وإلى اختياره حكمًا ترضى حكومته لو وجد من يدعو إليه على بصيرة ويبيّن حقائقه ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
لم يمضِ على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم.
فمن سننه أن من لم يدافع دوفع وأن من لم يهاجم هوجم وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل، ولم يَمْضِ عليهم زمن تألّبت فيه قوى الشرّ عليهم وتألّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات كما تألّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية والبوذية والوثنية بجميع ألوانها والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت أَئبًا على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق صادرة في ذلك عن عهد وميثاق يسند بعضها بعضًا ويقرض بعضها بعضًا العون والتأييد، وأن العقلاء من هذه الأمم المتعاونة على حرب الإسلام مسوقون بأيدي الساسة الطامعين والقساوسة المتعصّبين والملاحدة المستهترين حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره وهو أنهم قوة متحدة لحرب الإسلام
يشارك فيها ذو الدين بدينه وذو المال بماله وذو العقل بعقله. ويشارك فيها الساكت بسكوته ... لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرون من عداوة الإسلام وما يعلنون ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللوم برادّهم على ما هم ماضون فيه بعد أن ابتلوا سرائرنا وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عورات ومنافذ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنّا، ومن المناعة التي يتوقّعونها منَّا فسدّدوا الغارة على ديارنا فاكتسحوها، وشدّدوا الحملة على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثم شنّوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها، إذ بذلك وحده يضمنون التمتعّ بخيراتنا والتلذذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك، فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضيه وأحد أطوار تاريخه فهو حاقد عليه يتخيّل في شبحه مفوّتًا للعز والسلطان، ومقيّدًا للشهوات في اتّباع الشيطان، أو مانعًا من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيّد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلّط والشهوة ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفق أسمى، وهم بعد ذلك عمون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع، ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عز بالله وعدل في أحكامه بين عباده رحمة بهم وإحسانًا وإلى ما فيه من انطلاق ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة وعلى إهمال الدعوة لدينهم والعرض لجماله ومحاسنه وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عونًا لها على هدم ديننا ومحو فضائلنا والقضاء على مقوّماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم، وكأن الأمر لا يعنيهم وكأن الدين ليس دينهم، وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمرّ لا يبقي لهم عرضًا ولا مالًا ولا متاعًا، وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يعين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله وكأنه يقلّد عدوّه سلاحًا قتّالًا يقتل به دينه وقومه، ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوّه اقتلنى به. إننا لا نكون مسلمين حقًا ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا تارة باسم العلم وتارة باسم الخير والإحسان وأخرى باسم الرحمة بالإنسان إلا إذا علمنا ما يراد بنا وفقهنا الغايات لهذه الغارات وتحديناها بجميع قوانا المعنوية والمادية وحشدها في ميدان واحد هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتم لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله وإلى دينه الإسلام على أساس قوي من أحجار العالم الربّاني والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجّهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضالّ قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين وأرجعتهم إلى ربّهم فاتصلوا به فتمسّكوا بكتابه وهدي نبيّه وتمجّدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه كنا قلّدناهم سلاحًا لا
يفلّ وأسبغنا عليهم حصانة روحية لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة وحصانة أخرى مادية ملازمة لها لا تهزمها الجموع المجمعة ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية تهدي ضالهم وتصلح فاسدهم تبتدئ من البيت وتجاوزه إلى الجار والقرية حتى تنتظم المجتمع كله. فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة أعطت ثمراتها الصحيحة وجاء نصر الله والفتح ربطًا للوعد بالإنجاز ووصولًا إلى الحقيقة على المجاز، ويومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها، فلا مذهب إلا مذهب الحق ولا طريقة إلا طريق القرآن ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو ولا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب.
لا يأس من روح الله ... فهذه مخايل نصر وهذه مبشرات القطر وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية، وهؤلاء عصب من علماء الإسلام قائمون بإحياء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام تفتّحت بصائرهم على نوره يحملون ألسنة قوّالة للحق وعقولًا جوّالة في ميدان الحق وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد، وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد، فما على القاعدين إلا أن ينضمُّوا وما على الغافين إلا أن يهتموا ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيّدوا وما على الغافلين عن ذاك الشر المستطير إلا أن ينتبهوا إلى هذا الخير فيعملوا على نمائه وبقائه، وإن أثمن هدية يقدّمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق والاقتداء بأهل الحق.
* مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد العاشر، السنة الثانية، بغداد، 1 شوّال 1373هـ الموافق 2 جوان 1954م.