رسالة إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
حضرة الأخ الأستاذ الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، أطال الله بقاءه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد ، فإنني أكتب إليكم - كتب الله لنا ولكم السعادة والتوفيق - وأدام علينا وعليكم نعمة الإيمان وأتمها، أذكركم ما لستم عنه غافلين من حال إخوانكم الجزائريين المجاهدين، وما هم فيه من الشدة والحاجة إلى العون والإمداد، وما أصبحت عليه الأمة الجزائرية كلها من ورائهم من البؤس والضيق.
أذكركم أن لكم بالجانب الغربي من وطن العروبة ومنابت الإسلام الأولى، ومجرى سوابق المجاهدين الأولين لإخواناً في العروبة وهي رحم قوية، وفي الإسلام وهو سبب مرعي، وفي ذلك المعنى الخاص من الإسلام وهو السلفية التي جاهدتم وجاهد أسلافكم الأبرار في سبيل تثبيتها في أرض الله، وقد لقوا من عنت الاستعمار وجبروته ما أهمَّهم وأهمَّ كل مسلم حقيقي يعلم أن الإسلام رحم شابكة بين بَنِيه أينما كانوا، وأن أقل واجباته النجدة في حينها والتناصر لوقته.
مضى على ثورة إخوانكم الجزائريين التي انتصروا بها لله ولدينه أربع سنوات، وما فترت لهم عزيمة، ولا بردت لهم فيها حمية، وأراهم الله من آيات نصره للفئة القليلة على الفئة الكثيرة ما دل على إخلاصهم له، وصدقهم في معاملته، وقد شهد لهم العالم حتى أعداؤهم فيما أظهروه من ضروب الشجاعة المقرونة بحسن التدبير والتقدير، وبالمواقف الجليلة المبيضة لوجه الإسلام التي بَعُد العهد بمثلها، غير أن الحرب كالحبلى لا ندري ما تلد، ولا على أية حال تسفر.
أيها الأخ ، إن العالِم المسلم - خصوصاً من أهَّله الله للقيادة مثلكم - مؤتمن على دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن ثمَّ فهو مسؤول عنه، فإمّا له إن قام بما يجب عليه من التثبيت له وتمكينه في الأرض والدفاع عن حقائقه؛ وإما عليه إن فرط في تلك الأمانة، وإنها لثقيلة.
إن الواجب الذي يفرضه الدين على أمثالكم أن تقوموا لله بحملة صادقة أنتم أهل للقيام بها في قضية الجزائر؛ فَتُوجِّهوا نداءًا جهيراً إلى المسلمين الذين يشهدون الموسم ليحملوه إلى من خلفهم من المسلمين حين ينقلبون إلى أوطانهم؛ تَحُضُّونهم فيه على مساعدة إخوانهم مجاهدي الجزائر، وتبيِّنون لهم ما يترتب على قعود المسلمين عن نصرة إخوانهم الجزائريين من آثار، أيسرها أن الاستعمار المتساند سينتقم - إن انتصر - لنفسه من المسلمين انتقاماً عاجلاً، وإن طرق الانتقام لكثيرة، وإن وسائله جميعها في يده.
ثم تُوجِّهوا نداءً خاصاً إلى إخواننا سكان المملكة العربية السعودية تُحَرِّضُونهم به على الجهاد بالمال، وأنه قرين الجهاد بالنفس، بل هو مقدم عليه في كتاب الله العزيز، وإن المال لهو الركن الركين في نجاح إخوانكم المجاهدين.
وقد قام الشعب الجزائري وحده بهذا الواجب في سنوات الثورة كلها، وكل ما وصله من إعانات مالية كان نوافل.
أما الآن فإن الشعب مضيق عليه ومحصور، وقد انقطعت به الوسائل المالية، فالتجارة معطلة، والفلاحة كذلك، والشعب الذي هو تحت قبضة العدو اشتدَّ عليه الخناق، وأرهقته المظالم والمغارم، وشتته القتل والتشريد، فقد مات منه نحو مليون شخص كلهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وأخرج منه نحو ذلك العدد من ديارهم حفاة عراة لا يملكون قوت يومهم، هائمين على وجوههم إلى مراكش غرباً، وإلى تونس شرقاً، كل ذلك انتقام من الجيش الفرنسي الذي عجز عن قمع الثورة، والقضاء على جيش التحرير المسلَّح، فلجأ إلى هذه الوسائل الوحشية.
وبهذه البلايا التى يصبُّها الاستعمار على الشعب الجزائري الأعزل بهضت التكاليف المالية على جيش التحرير الجزائري، فأصبح مطالباً بالإنفاق على نفسه في التسليح وتوابعه، وبالإنفاق على هؤلاء المشردين من الشعب، ونبشركم بأن الجيش والشعب كلاهما محتفظ بمعنوياته على أكمل ما يكون، وكلاهما مصمِّم على مواصلة الكفاح حتى النصر أو الموت.
وقد كان جيش التحرير مؤلفاً في أول أمره من ثلاثة آلاف مقاتل، فأصبح بعد أربع سنوات مؤلفاً من أكثر من مائة ألف مقاتل مسلَّح بما يلزم من السلاح على أكمل تنظيم وأحسن تدريب، وهو في كل يوم يذيق عدوَّه ألواناً من الهزائم، والحمد لله.
نحن نعلم أن المملكة العربية السعودية قامت بواجبها في فترات متباعدة، ولكن ذلك كله كان دون ما يطالبها به الإسلام، لا في المبالغ الحالية التي قدمتها، ولا في المواقيت التي كانت تقدم فيها هاتيك المبالغ، وفضيلتكم تعلمون أن المعونة كالغيث إنما تفعل فعلها وتؤتي ثمرتها إذا جاءت في الوقت المناسب.
أيها الأخ الجليل، إن الثورة الجزائرية تعدكم كهفها الأحمى، وإنَّ موقفاً منكم في سبيلها كالمدد في وقت الحاجة إليه، فَهَلا صيحة منكم تحرِّك النفوس الجامدة إلى البذل في سبيل الله، وتهز الهمم الخامدة فتتبارى في سوقٍ بضاعتُها شرفُ الدنيا وعز الآخرة، وقيمتهما مال زائل، وحال حائل.
أيها الأخ الكريم، هذه رسالتي يحملها إلى سماحتكم وفد جبهة التحرير الجزائرية إلى المملكة العربية السعودية؛ لمناسبة موسم الحج، وللاتصال بالحكومة السعودية الموقَّرة في شؤون المجاهدين الجزائريين التي أهمُّها تسلُّم المبالغ المالية التي تبرَّع بها الشعب السعودي الكريم؛ فالرجاء أن تأخذوا بيد الوفد المذكور، وأن تكونوا عونه لدى المراجع الحكومية العليا حتى يقضي حاجته، ويؤدي مهمته على أكمل وجه.
أيها الأخ، هذا عرضٌ عرضته عليكم وأنتم تعلمون ما أكنُّه لسماحتكم من التقدير والاحترام والاعتراف بمكانتكم في الدولة وفي الأمة.
وتقبَّلوا في ختام حديثي إليكم تحياتي الأخوية الخالصة.
القاهرة في 13 يونيو 1958.
من أخيكم
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء الجزائريين
* في الآثار 5/221-223