زيارة القبور
جاءتنا المقالة التالية من العلامة الأستاذ صاحب الإمضاء جواب عن سؤال الفاضل "بيضاوي " الذي نشرناه في العدد السابق .
لا يخلو اليوم قطر من أقطار الإسلام فيالغالب من ضريح أو أضرحة تزار وتشد إليها الرحل. فإذا تكلمنا في شأنها فإننا نتكلم على عمومها لا اشتراكها كلها في الوصف الذي يوجب اشتراكها في الحكم : من العالم من يقف في باب التعبد عند النص الوارد والعمل والثابت ولا يتوسع فيه بوجه منوجوه الإلحاق فهؤلاء يقولون إن زيارة القبور إنما تكون لتذكر الموت والآخرة كما جاءفي الحديث المشهور، والسلام على الميت والدعاء له كما جاء قي خروج النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وسلامه عليهم ودعائهم لهم ويرون إن زيارة القبور لانتفاعالحي بالميت بدعة لم ترد في نص ولم تثبت في عمل.
ومن هؤلاء أبو محمد الجوينيوالقاضي حيسي والقاضي عياض والقاضي أبو بكر ابن العربي قال في كتاب القبس علىالموطأ :" ولا يقصد الانتفاع بالميت فإنها بدعت وليست لأحد على وجه الأرض إلا لواحدوهو قبر نبينا صلى الله عليه وسلم " الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفىمحمد صلى الله عليه وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين " والإمام ابنالتيمية الحنبلي وكلامه في هذه المسالة المشهور معروف حتى إن أكثر الناس لا ينسبونهذا القول إلا إليه، وإنما استثنى ابن العربي القبر الشريف للأحاديث الواردة فيهالمرتقية بمجموعها إلى رتبة الحسن والصحيح، واستثنى الشارمساحي قبور الأنبياءبطريق القياس فكان ابن العربي أوقف منه مع الوارد، على انه لا يعرف قبر نبيا علىاليقين ومن أهل العلم من يتوسع في باب التعبدات فيلحق النظير بالنظير إذا قويعنه وجه الإلحاق فيرى هؤلاء أن اصل البركة والخير والنفع الموجود في القبر الشريفموجود في جميع القبور الصالحين على تفاوت فيه بحسب نقاوة المنازل والرتب فقال ترىالقبور الصالح أهلها لتبارك ويسافر لرجال الصالح بعد مماته كما كان يسافر اله فيحياته ومن أشهر من ذهب هذا المذهب الإمام الغزالي قال في الأحياء : " وإذا جاوز ذلك ( شد الرحال إلى قبور الأنبياء ، فقبور الأولياء والعلماء الصالحين في معانها فلايبعد أن يكون ذلك من أغرض الرحلة كما أن زيارة العلماء في الحياة من المقاصد ) وقالفي موضع آخر " وكل ما يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته".
وقالالإمام النووي : " والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره الإمام الحرمين والمحققونانه (الذهاب إلى قبور الصالحين) لا يحرم ولا يكره " وذهب ابن السبكي إلى زيارةالتبرك والسفر إليها غير انه لم يعمم ثم اختلف كلامه فمرة قال :" ولا تشد الرحال فيهذا القسم الى قبر أحد غير الأنبياء " ومرة قال: "فينبغ ان نخرج منه (بدعة السفرالانتفاع الحي بالميت) من يتحقق صلاحه كاعشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم "منكتابه (شفاء السقام) هذا كالتلخيص الأقوال في هذه المسالة ووجه النظر الخلاف فيها.
وأما الحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد فان تقديره لا تشد الرحال إلىمسجد إلا إلى ثلاث مساجد فمعناه أن السفر إلى المساجد مقصور على هذه الثلاث. فالسفر إلى غير المسجد من الأشياء والأغراض غير الداخل في لفظ الحديث كمل ذكرهالنووي وبن السبكي والابي، وغيرهم. هذا الكلام الناس في الزيارة لأجل التبركة وأما الزيارة بقصد طلب قضاء الحاجات من الميت ودعاءه والتمسح بقبره وضرب الدفوف عندرأسه وسوق النذور إليه فان هذه كلها لم يفعلها أحد من السلف ولا أباحها من علماءالخلف . وكذلك التزامها في وقت مخصوص كما تلتزم الطاعات التي فرضها الشارع وجعل لهاأوقاتا أن هذا ليس ممن يتسع له صدر الدين ولا مما كان في عهد السلف الصالحينولاسيما مع التكلف الذي كثر من يرتكبه بالإلزام وبغير الإلزام ، ومع الجهل الذيلتبس صحابه القصد الحلال بالقصد الحرام فربما أفضى به جهله إلى ما يقول به عالمواوقعه – وهو يحسب نفسه في طاعة –في نشر المآتم ، فخير لمن يرد السلام بدينه أنيقتصر على المتفق عليه وحده أو مع إتيان المختلف فيه مع مبالغته في تحسين قصدهوتمام تحريه
إلى هنا احسبني قد أديت واجب الأمانة في البيان، فان أصابت فهومن فضل الله وان أخطأت فهو مني ومن الشيطان وإما عملي في خاصة نفسي في هذا البابفالله يعاملني فيه على حسب نيتي وقصدي والله عالم بقصد كل عامل ومجازيهعليه.
عبد الحميد بن باديس