أمهات أعمال جمعية العلماء
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
أولًا- مقاومة الأمية:
صنعت جمعية العلماء في هذا الميدان ما لم تصنعه الحكومات. والأمية هي شلل الأمم، وتفشّيها في الأمة الجزائرية هو الذي أقعدها عن مجاراة الأحياء في الحياة، وهو أقوى الأسباب التي مكّنت للاستعمار، فكأنه اتّفق معها على أن يخدمها لتخدمه فوفى ووفت.
حاربت جمعية العلماء هذا الداء الوبيل الذي يقتل الفكر والضمير، ويقضي على العقل والروح، ويطفئ المواهب، ويخدر المشاعر، ويضعف الاستعداد، وشدّدت العزائم على حربه، وفتحت دروسًا ليلية للكبار لا تزاحم البرامج المقررة، وعمّمت تلك الدروس بالتدرّج في نواديها وكثير من مدارسها، وجنّدت لهذا الميدان مئات من معلّميها، وراجت هذه الدروس واشتدّ إقبال الأميين عليها حتى بلغوا في بعض الأحيان عشرات الآلاف، فيما بين سنتي 1937 و 1939، ولم تمضِ سنتان حتى أصبح الكثير منهم يقرأ قراءة صحيحة ويكتب كتابة صحيحة، وكأنهم عميان تفتّحت عيونهم على النور وسمت همم بعضهم إلى المزيد فبلغوا درجات لا بأس بها وأغرتهم الكتابة على الحفظ فحفظ بعضهم أجزاء من القرآن، وتشوّقوا إلى الفهم فأصبحوا يفهمون كثيرًا من حقائق الدين القريبة، ومعاني الحياة البسيطة، والتسلسل المجمل للتاريخ الإسلامي، وإن هذا الربح عظيم لأصحابه وللمجتمع، ولقد رأينا بأعيننا من معجزات العزيمة أن أميًّا مسنًا أصبح معلّمًا، معلّمًا للأميين وإمامًا لهم يدينون له بالاحترام، وكانت هذه البوادر من النجاح دعاية قوية للتعليم، ونصيرًا عامًا لتحطيم الأمية وتهجينها فزاد الناس إقبالًا على تعليم أولادهم، يرون ذلك كفّارة عمّا كان لهم من الجزء الاختياري في جريمة الأمية، وما جاءت سنة 1943 حتى تجلّت آثار هذا التفكير واغتنمتها الجمعية فأسّست في سنة واحدة سبعين مدرسة في أنحاء القطر.
ثانيًا- المحاضرات الدينية والاجتماعية:
بدأت الجمعية أعمالها في التعليم العام بالمحاضرات العامة في المساجد والنوادي والقاعات العمومية والميادين الجامعة والأسواق، فكلّفت طائفة من رجالها الكفاة في العلم والبيان بالطواف في مدن القطر وقراه وسهوله وجباله، يزرعون الحماس بواسطة هذه المحاضرات، ويبيّنون الحقائق، ويثبّتون العزائم، ويحرّكون الهمم، ويضربون الأمثال، ويربطون للأمة حاضرها بماضيها، ويذكرونها بما نسيته من أمجاد سلفها، ويهيّئونها لنهضة شاملة في العلم والسياسة والاقتصاد، وكانت هذه المحاضرات هي البذر الأول لهذه المبادئ في الجزائر، وتحريك الأفكار لفهم الحياة على حقيقتها، وقد استغرق هذا الأسلوب سبع سنوات، كان أولها بدءًا للصراع بين الجمعية وبين الحكومة. وقارن هذا الهجوم على الجمهور بالمحاضرات هجومًا آخر على الشبّان بدروس علمية منظّمة المواقيت والمواضيع، محذوفة اللغو والفضول؛ ومن أولئك الشبّان تكوّنت الطلائع الأولى لجيش النهضة العلمية، وكانت الطريقة التي بنت عليها جمعيتنا أصول هذه النهضة هي الجمع بين التربية والتعليم، لأن العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلا يوم فارقت التربية الصالحة العلم، وكم شقي أصحاب العلم المجرّد بالعلم وأشقوا أممهم، والسعادة غاية لا يسلك إليها طريق العلم وحده من غير أن تصاحبه التربية، وأن الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي في آية {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ائكِتَابَ وَائحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.
فعلت تلك المحاضرات فعلها في الجمهور الجزائري، وآتت أكلها سائغًا هنيئًا وأصبحت غذاء لذلك الجمهور، ومادة من مواد تعليمه، وصلة بينه وبين الجمعية، وفي أصداء تلك المحاضرات أوصلت الجمعية نداءها إلى القلوب، وأصبحت تخاطب الضمائر لا الآذان، وفي إشراق تلك المحاضرات وصلت إلى الغاية التي ترمي إليها وهي توثيق التعاون بينها وبين الأمة على تعليم النشء وتكوين جيل صالح للحياة متّحد النزعات متجاوب الخواطر والمقاصد، يحرّر الوطن من الاستعمارين الروحي والمادي، ومحال أن تحرّر أمة أبدانها قبل أن تحرّر عقولها وأفكارها.
ثالثًا- تأسيسها للنوادي العلمية:
المقصد الأول لجمعية العلماء هو التربية والتعليم، وطبقات الأمة ثلاث متفاوتة الشعور والإدراك، ولكنها مشتركة في القابلية والاستعداد وهي: الشيوخ والشباب والأطفال، فرأت الجمعية أن تصرف عنايتها على الطبقات الثلاث في آن واحد كل طبقة على قدر استعدادها، ولكن أين تلتقي بهذه الطبقات؟ فإذا التقت بالشيوخ والكهول ورقاد المساجد في المساجد، والتقت بالأطفال في المدارس التي شيّدتها للالتقاء بهم فيها، فأين تلتقي بالشبّان الذين فاتتهم المدرسة والمسجد معًا؟ ولكن عزيمة الجمعية لا تقف في طريقها الصعاب، فأنشأت مشروع "النوادي" لتكون وسطًا طبيعيًا بين المساجد والمدارس، وتلتقي فيها بالشبّان الذين هم وسط طبيعي بين الشيوخ والأطفال.
أنشأت الجمعية في مدة قصيرة عشرات النوادي في المدن والقرى، وَدَعَت إليها الشبّان فاستجابوا وأقبلوا عليها لأنها أقرب إلى أمزجتهم ولأن فيها شيئًا من التسلية والمرح، ولأن فيها قليلًا من جو المقهى ... وفي ظل هذه الجواذب التقت الجمعية بالشبّان وقامت بحق الله فيهم فنظّمت لهم فيها محاضرات تهذب بها أخلاقهم وتعرّفهم بأنفسهم وقيمتهم ومنزلتهم في الأمة وتجمع قوّتهم، ودروسًا تعلّمهم بها دينهم ولغتهم وتاريخهم، فكان لمشروع "النوادي" آثار في الشبان تساوي آثار المدرسة في الأطفال وتفوق آثار المساجد في الشيوخ والكهول، ومن النوادي خرج الشبّان إلى المسجد يؤدّون حق الله، وإلى ميادين العمل يؤدون واجبات المجتمع.
ولكن الاستعمار كعادته ضاق ذرعًا بهذه الثورة الفكرية التي أحدثتها في الشيوخ والكهول دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وأشعلتها في الشبّان محاضرات النوادي، ولم يطق على هذه الحالة، فأصدر الحاكم العام أمرًا بمنع رجال جمعية العلماء من إلقاء الدروس في المساجد (الحكومية) لأنها- في رأيه- دروس سياسية، وبعد مدة أصدر أمرًا آخر بحرمان النوادي من بعض الامتيازات كبيع القهوة والشاي لأعضائها وبالتسوية بينها وبين المقاهي العمومية في الخضوع لإشراف العمومية ... ومغزى هذا القرار- الذي له في الجزائر نفوذ القانون- هو إغلاق النوادي لأنها لا تقوم إلا على أثمان المشروبات التي تقدمها لأعضائها، فإذا حرمت منها لم يبق لها مورد إلا اشتراكات الأعضاء وهي لا تكفي.
أما الجمعية فإنها قابلت هذه القوانين الشديدة بعزائم أشدّ، ونقلت دروس الوعظ من بيوت الله التي تسلّطت عليها فرنسا إلى حيث يمكن من أرض الله، في البيوت وفي القاعات، وفي المدارس، وفي المدارس الحرة التي أنشأتها الأمة بإرشاد جمعية العلماء وعددها نحو المائة وهي منتشرة في القطر. وأما النوادي فقد تحدّت الجمعية القرار المتعلق بها واستمرّت على إلقاء المحاضرات فيها واستعانت بعزائم الشبّان التي لم تتأثر بآثار ذلك القرار السخيف، والأمر على ذلك إلى الآن، والحرب بيننا وبين الحكومة في شأنها سجال، والمخالفات والتغريمات تملأ السجلات.
رابعًا- بناء المدارس:
وهذا الفصل- وإن أخّرنا الحديث عليه- هو الغرة اللائحة في أعمال جمعية العلماء، وهو سجل الفخار في تاريخها وتاريخ الجزائر الحديث، وسيلتقي المؤرّخ المنصف والمؤرّخ الجائر في الحكم عليها، لأنها أبنية ومآثر، ولأنها همم وعزائم ولأنها قوة ولّدها الضعف.
كانت الجزائر كلها خالية من المدارس العربية النظامية الحرة إلا كتاتيب قرآنية كلها فوضى مهدّدة بالإغلاق في كل حين، ولو بأمر أحقر موظف حكومي، وتعليم العربية في المدارس الحكومية اسم بلا مسمّى وعلم بلا علم. ثم قامت جمعية العلماء منادية بإحياء العربية على رغم أنف الاستعمار، وكان عملها في السنوات الأولى ما وصفنا وكانت المدارس في تلك السنوات لم تنته إلى العشر، ولكنها بعد حملة المحاضرات وتأثّر الأمة بها وتأجج حميتها للغتها، ثارت الرغبات الكامنة فيها واحتدّ التنافس في هذا الميدان في المدن والقرى، فقفز عدد المدارس من عشرة إلى عشرات وفيها الفخم الضخم الذي يقلّ نظيره في مدارس الحكومة، وفيها ما يحتوي على ثمانية عشر فصلًا، وجميعها مستوفٍ للشرائط كلها على أحدث طراز، ومعظم هذه المدارس شيّدتها الأمة بأيديها وبأموالها والقليل منها مؤجّر، ووضعت المناهج الابتدائية مقتبسة من مناهج وزارة المعارف المصرية، وبينما الحركة في اشتدادها وامتدادها قامت الحرب العالمية الأخيرة فأوقفت كل شيء وعطّلت فرنسا جميع مشاريع جمعية العلماء بصورة كلها تشفٍ وانتقام، وأبعدت كاتب هذه المذكّرة إلى صحراء "وهران" بعيدًا عن العمران في صورة إقامة جبرية إلى انتهاء الحرب، ومات باني هذه النهضة العلمية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس في أوائل سنة أربعين، فلما أطلق سراح كاتب هذه السطور بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، استأنف العمل من أول يوم وبدأ يبعث الحركة من جميع جهاتها: فمن تحريك الشعور السياسي وتنظيم حركة سياسية، إلى مجاراة فورة الأمة في سبيل التعليم.
وكان الاحتلال الأمريكي جاثمًا على الجزائر، والأحزاب السياسية تعيث وتعيث، وهو يسعى في جمعها فتفرّقها الأهواء والرعونات، فرأى أنه إذا ضاعت على الأمة الفائدة السياسية بسبب الوضع الحاضر، فلن تضيع عليها الفائدة العلمية، والعلم تسليح، وفي تلك السنة نفسها شيّدت الأمة سبعين مدرسة. وهالت تلك الحركة المتجددة فرنسا فأسرتها في نفسها إلى يوم انتهاء الحرب، فكان حقدها على جمعية العلماء أحد الأسباب في تلك البطشة الرعناء التي بطشتها بالجزائر يوم 8 ماي سنة 1945 فقتلت فيها عشرات الآلاف من أنصار جمعية العلماء واعتقلت مثلهم، وأغلقت مدارس الجمعية كلها بدعوى أنها قلاع للعمل ضدها، ومزارع لغرس بغضها في قلوب الجزائريين، وهذان الوصفان رسميان من كلام الحكومة في تبرير عملها الفظيع، وسجنت كاتب هذه السطور في السجن الحربي تمهيدًا لمحاكمته عسكريًا بتهمة الثورة، وقد كان رجال جمعية العلماء آخر من سرّحتهم من المعتقلات نكاية فيهم وحقدًا عليهم.
ما كادت هذه الغمرة تنجلي حتى رجعت الجمعية إلى عملها أقوى مما كانت صلابة وعزيمة وإيمانًا، ونشطت حركة تأسيس المدارس حتى بلغت الآن مائة وبضعًا وأربعين مدرسة. وبلغ مجموع ما أنفقت الأمة عليها من مالها بل من ثمن خبزها تشييدًا وتعميرًا ما يقرب من ألف مليون فرنك، وبلغ مجموع تلامذتها الابتدائيين في الوقت الحاضر نحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات، وبلغ عدد التلامذة المتخرّجين منها من مبدإ الحالات نحو مائتين وخمسين ألف تلميذ، وبلغ مجموع المعلّمين في هذه المدارس نحو أربعمائة معلم كلهم من تلامذة جمعية العلماء وجنودها الحاملين لفكرتها، وبلغ ما تنفقه الأمة سنويًا على هذه المدارس في أجور المعلّمين وغيرها خمسة وسبعين مليونًا من الفرنكات.
مع هذا الجهد العظيم الذي تبذله جمعية العلماء والأمة من ورائها في التعليم العربي، ومع أن حركة بناء المدارس كل سنة في ازدياد، فإنها لم تستوعب إلا جزءًا من ثلاثين جزءًا من أطفال الجزائر المحرومين من التعليم، وما زال في الجزائر مليون ونصف مليون من أطفال الأمة العربية المسلمة مشرّدين في الشوارع محرومين من التعليم العربي والفرنسي معًا. ومع ذلك ترفع فرنسا صوتها بأنها معلّمة العالم، ثم تشعوذ على إخواننا الشرقيين الذين لم يعرفوا دخائلها بمثل هذه المزاعم، ويصدّقها بعض الضعفاء وهي في دعوة التعليم أكذب من سجاح في دعوى النبوّة.
خامسًا- المعهد الباديسي:
هذا العدد الذي ذكرناه من المدارس كله ابتدائي، ولكن التعليم فيه متين لأنه عمل العقل والإخلاص والمنافسة لعدو حقود، حتى أن التعليم الابتدائي في مدارس الجمعية يساوي في نتائجه العملية نصف التعليم الثانوي في المدارس التي تبني أمرها على الرسميات وتعد نتائج الامتحان بالنقط ... وهذا هو القدر الذي اتّسع له حال الجمعية وهي في نهاية العقد الثاني من عمرها، وتطلبته حالة الأمة وهي في الخطوة الأولى من نهضتها. لكن حب العلم والتطلعّ إلى غاياته أحدث في عشرات الآلاف من حملة الشهادات الابتدائية الذين أخرجتهم مدارس الجمعية، أحدث فيهم ثورة عليها وإلحاحًا يطلبون الانتقال بهم إلى التعليم الثانوي، ورأت الجمعية أن تبريد هذه الرغبة في نفوس أبناء الأمة الناشئين يعد إجرامًا في حقّهم وفي حق اللغة التي أصبحوا يدينون بها وفي حق الإسلام الذي تفتّحت نفوسهم على حقائقه.
فماذا تصنع هذه الجمعية والموارد المالية محدودة، والأمة فقيرة، والتعليم الثانوي يكلّف أموالًا وفيرة، والرجال الذين يقومون بتعليمه مفقودون؟
هنا العقبة ... وهنا الموقف الذي يجب على إخواننا العرب شعوبًا وحكومات أن ينقذونا منه ... هنا نظرت الجمعية إلى الداخل وإلى الخارج.
أما الداخل فقد دعت الأمة إلى أن تخطو هذه الخطوة الجريئة وأن تضع البذرة الأولى لهذا الغرس الجديد، فاستجابت الأمة، فأقدمت الجمعية على إنشاء معهد ثانوي ذي خمس سنوات، وهو "المعهد الباديسي" بمدينة قسنطينة، منبع الثقافة الإسلامية في القطر كله، وأطلقت عليه اسم إمام النهضة المرحوم الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس.
أنفقت هذه الأمة الفقيرة على هذا المعهد بطريق التبرعات في أبنيته ومرافقه أكثر من مائة مليون فرنك، وهي تنفق في كل سنة على شيوخه والقائمين بتسييره نحو عشرة ملايين من الفرنكات.
والمعهد اليوم يحتوي على ألف تلميذ، يدرسون- على المناهج الحديثة- علوم الدين وعلوم اللسان العربي، ومنها الأدب وتاريخ الإسلام والجغرافيا والرياضيات، ويأخذون فيه أصول الدعوة وأصول الخطابة مع التمرّن عليها عمليًا. وفيه أقسام إضافية للفرنسية خاصة بحاملي شهادتها الابتدائية، لإرسالهم إلى أوربا للتخصّص في العلوم الصناعية، وستكون بعثات جمعية العلماء إلى الشرق كلها من تلامذة هذا المعهد.
يقوم بالتدريس في هذا المعهد خمسة عشر أستاذًا كلهم من حاملي الشهادات العليا من جامع الزيتونة، ومعهم طائفة من المعاونين والكتبة ولجان للمراقبة والمالية والألعاب الرياضية، وقد اشترت الجمعية منذ عامين دارًا لسكنى طلبة المعهد في أجمل موقع من المدينة تكفي لإسكان خمسمائة تلميذ مجتمعين، لكل تلميذ سرير للنوم ودولاب للأمتعة، مع المرافق التامة من المغتسلات ومطاهر الوضوء، ومجموع ما أنفق على هذه الدار وحدها ثلاثون مليون فرنك.
مشروع جامعة عربية إسلامية في الجزائر
في تونس جامع الزيتونة، ولا يصحّ أن يسمّى جامعة بالمعنى العصري إلا مع التسامح، ولو تناوله الإصلاح الناجز في مناهجه والقلب والتغيير في كتبه ونظامه، والتوجيه السديد للروح المسيطرة عليه، لأصبح جامعة المغرب العربي كله، وهو- مع ذلك- مهاجر الجزائر للعلم، وفي فاس جامع القرويين وهو دون جامع "الزيتونة" نظامًا واتّساعًا في الدراسات، وأبعد عن التجديد والإصلاح، لأن أصابع الاستعمار الفرنسي تدسست فيه أكثر من جامع الزيتونة، لذلك فكّرت جمعية العلماء منذ سنوات في تكوين جامعة عربية إسلامية بمدينة الجزائر تبنى الدراسات العالية فيها على الروح الإسلامية الشرقية الصافية وعلى غايات العلوم الحديثة النافعة، فتكون تكميلًا للجامعين وعونًا لهما في إحياء الثقافة الإسلامية وحفزًا لهما على الإصلاح، وقطعت الجمعية مراحل في التفكير والتخطيط وهي تأمل أن لا يبلغ التعليم الثانوي في مدارسها حدّه حتى تكون الجامعة قد فتحت أبوابها، ولكن المال دائمًا هو العقبة الكأداء.
خلاصة النتائج الإيجابية من أعمال جمعية العلماء وتوجيهاتها
في المعنويات
أولًا: استقرار الإصلاح الديني الإسلامي بمعناه الصحيح الواسع، وأساسه الرجوع إلى القرآن.
ثانيًا: إذكاء النزعة العربية في النفوس.
ثالثًا: تقوية الشعور السياسي وتكوين رأي عام له.
رابعًا: التوجيه إلى الشرق والتنويه بتاريخه وأمجاده.
خامسًا: إحياء الفضائل والأخلاق المتينة وعقد جملتها بالقلوب لا بالألسنة.
سادسًا: خطوات سديدة في بناء الأسرة على المحبّة، وبناء المجتمع على التعاون.
سابعًا: وضع المرأة المسلمة في موضعها من الفطرة ومنزلتها في الإسلام.
ثامنًا: التقليل من الافتتان بالحضارة الغربية.
تاسعًا: قمع الإلحاد والتحلّل.
عاشرًا: إيقاف التبشير عند حدّه.
حادي عشر: التخفيف من ويلات الأمية.
ثاني عشر: نظام للوعظ والإرشاد تظهر روعته في كل رمضان على الخصوص، قوامه 140 واعظًا.
وفي الماديات
ثالث عشر: تشييد سبعين مسجدًا حرًّا على نماذج مما كان يؤديه المسجد من التربية.
رابع عشر: مائة وبضع وأربعون مدرسة ابتدائية مجهّزة أحسن تجهيز تتسع لخمسين ألف تلميذ.
خامس عشر: معهد ثانوي كامل الأدوات والمرافق يحتوي على ألف تلميذ.
سادس عشر: بعثات إلى جامع الزيتونة تبلغ ألفًا وخمسمائة تلميذ.
سابع عشر: بعثات إلى جامع القرويين تبلغ مائتي تلميذ.
ثمان عشر: هذه البعثات التي بدأت طلائعها تزحف إلى مصر والعراق وسوريا والكويت.
تاسع عشر: حركة مباركة لحفظ العروبة والإسلام على العمّال النازحين إلى فرنسا.
العشرون: مكتبة جديدة حافلة في المعهد تهيّئ للباحثين مراجع البحث وتعوّض ما أتلفته يد الاستعمار من كتبنا ومكتباتنا، وقد زوّدها سموّ الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية في السنة الماضية بألف مجلد.
الحادي والعشرون: إنشاء مكتب ثقافي للجمعية في القاهرة ليكون صلة بين الجزائر والشرق وليشرف على البعثات الحاضرة والمنتظرة، وستجني العروبة والإسلام منه خيرًا كثيرًا.
خاتمة
هذه هي الأعمال الجليلة التي قدّمتها جمعية العلماء للأمة الجزائرية، بل قدّمتها الأمة الجزائرية، بل قدّمتها الجمعية والأمة معًا للعروبة والإسلام، فحفظت للعرب طائفة من رأس مالهم وربحت للمسلمين جزءًا كبيرًا من مجموعهم كاد يضيع منهم.
قامت جمعية العلماء بهذه الأعمال مستعينة بالله، معتمدة على الأمة، مع كيد المستعمرين وخذلان الضالين، وتشويش الجاهلين الذين يخربون بيوتهم بأيديهم.
لم تتوجّه الجمعية في هذه المراحل القاسية إلى خارج الجزائر، لأن من مراميها البعيدة تربية الأمة على الاعتماد على نفسها، وعلى التكافل في المصلحة العامة، وهو باب من أبواب التربية الاستقلالية المفضية إلى الاستقلال الحقيقي. ولكنها بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة التي بيّناها في الفصول السابقة أجهدها الإعياء ووقفت مبهورة، والتفتت إلى إخوانها في الشرق وإلى حكوماتهم تلتمس العون والمدد، وتحمل صحيفة أعمالها بيمينها، ولا مجال للتراجع لأن معناه الموت، ولأن نتيجته شماتة الأعداء وهي أنكى على الحر من الموت، وأنا رائدها إلى الروض، وفارطها على الحوض، وقد بلّغت.
ليست القضية قضية شخص أو أشخاص، فلا نحن ولا الأمة من ورائنا نرضى بهذا ولا ندين به، فقد ربيناها بعد أن ربّينا أنفسنا على تقديس المبادئ ونسيان الأشخاص والشخصيات إلا في مقام التأسي والوزن، وإنما هي مسألة أمّة تعد أحد عشر مليونًا من صميم العروبة، مصمّمة على تصحيح نسبتها وتثبيت إسلامها لتبني عليهما استقلالها لأنها تؤمن بأن الاستقلال على غير أساس العروبة والإسلام هو استقلال على غير أساس، فهو منهار من ساعته. فإذا تمّ فهو استقلال لأمة لا تعرفها العروبة ولا يعرفها الإسلام، ولا ينفع استقلالها العروبة ولا الإسلام.
قد وجب حق الأخ على أخيه، ووجب على حكومات العرب أن تقف موقف الجد والتضحية والواجب من هذه الحركة حتى تصل إلى غاياتها، وأن كل ما تنفقه الحكومات العربية في هذا السبيل فهو قليل، وهو ضربة في الصميم، وهو عائد عليها في القريب بأرضه وثمراته.
إن جمعية العلماء واسطة بين الطرفين وترجمان صادق بينهما وإنها لا ترضى بما دون الواجب، ولا ترضى لنفسها بالتصدّق والامتنان والمجاملة، وللحكومات العربية عليها حق المحاسبة الدقيقة، فقد أخذت بذلك في جميع أعمالها.
قد بلغت ... اللهمّ اشهد.
محمد البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
القاهرة في 3 رجب 1382هـ الموافق 20 مارس 1953 م.