الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -1 –
بقلم: الشيخ عبد الحميد بن باديس-
تمهيد، مكانتها، ثمرتها. القسم العلمي، معناها لغة، معناها شرعا، مزية لفظها، من تكون منه، من تكون عليه، نفي الاشتراك عنها، تفسيرها باللازم.
تمهيد:
الصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- من أصول الأذكار في الإسلام ومن أعظمها، فإن الله- تعالى- أمر بها المؤمنين على أبلغ أسلوب في التأكيد، وأكمل وجه في الترغيب، وجعلها من الأذكار اليومية المتكررة في الصلوات، وهي ذكر لساني بتلاوة لفظها، وقلبي بتدبر معانيها، ومثرة لرسوخ الإيمان وشدة المحبة وتمام التعظيم له- صلى الله عليه وآله وسلم- المثمرين لأتباعه، المحصل لمحبة الله عبده، وتلك غاية سعادة المخلوق ونهاية كماله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فمما يتأكد على كل مسلم أن يكون على شيء من العلم بهذا الكنز العظيم، وسنأتي من ذلك بما يفتح الله تعالى به في هذا المقال.
القسم العلمي:
الصلاة في لسان العرب قبل الإسلام وردت بمعنى الدعاء، قال الأعشى:
وصَهْبَاءَ طَافَ يَهُودِيُّهَا … وأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا … وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ
قال صاحب اللسان: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد.
وقال الأعشى أيضاً:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي … يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا أي دعوت، فالدعاء هو معناها اللغوي الأصلي وعليه جاءت كلمات كثيرة في الكتاب والسنة فمنها "وصلوات الرسول" أي دعواته "وصل عليهم"، أي أدع لهم وحديث «إذا دعي أحدكم لطعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل» أي فليدع لأرباب الطعام و"الصلوات لله" أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله هو مستحقها لا تليق بأحد سواه كما في "اللسان".
جاءت هذه الكلمات وأمثالها على المعنى اللغوي الأصلي، وجاء مثل قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقوله- صلى الله عليه وسلم- «لا صلاة لجار المسجد في غير المسجد» مراداً به عبادة مخصوصة ذات أقوال وأفعال وتروك على هيئة خاصة من جملة أجزائها الدعاء، ولا شك أن إطلاقها على هذا المعنى إنما هو إطلاق شرعي ولكنه غير خارج عن أساليب كلام العرب فإنه من باب تسمية الشيء باسم جزئه فإطلاق هذا اللفظ على هذه العبادة المخصوصة حقيقة شرعية مجاز لغوي وليس هذا هو مرادنا هنا. وقد كان الظاهر لما كانت بمعنى الدعاء أن تتعدى بالكلام ولكنها تعدت بعلى لما فيها من معنى العطف فصلى عليه يؤدي معنى قولنا: دعا له عاطفاً عليه وهذا هو السر في اختيار لفظها على لفظه لتؤدي المعنيين: الدعاء والعطف، وإن كان لفظ الدعاء يقتضي عطفاً فذلك بطريق الاستلزام، وهو دون دلالة التضمن.
تكون هذه الصلاة من المخلوق على المخلوق ومن الخالق على المخلوق. فمن الأول صلاة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على المؤمنين كما في آيتي سورة التوبة المتقدمتين ومنها قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- «اللهم صل على آل أبي أوفى» فقد دعا لهم وسأل الله تعالى أن يصلي عليهم. وصلاته على نفسه في تشهده في الصلاة، ومنه صلاة الملائكة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- كما في آية الصلاة من سورة الأحزاب، وصلاتهم على المؤمنين كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ويفسر هذه الآية قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} وهذا منهم دعاء عام. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}.
وهذا دعاء خاص. وكما في حديث «من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة عشرا» وحديث «إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه». ومنه صلاة المؤمنين على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الأنبياء وعلى الملائكة وعلى عامة المؤمنين بطريق التبع فهي سؤالهم من الله تعالى ودعاؤهم إياه أن يصلي على نبيه ومن ذكر قبل معه فهذه كلها من القسم الأول وهو صلاة المخلوق على المخلوق وكلها لم تخرج عن معنى الدعاء.
وأما القسم الثاني وهو صلاة الخالق على المخلوق فمنها صلاته على المؤمنين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. وصلاته على الصابرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
وعلى نبيه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
قد تنوعت عبارات العلماء سلفاً وخلفاً في تفسير صلاته تعالى على من ذكر من خلقه ففسرت بالرحمة- والجمع في قوله {صَلَوَاتٌ} باعتبار أنواع آثارها ومواقعها وقوله بعدها {وَرَحْمَةٌ} نوع منها خاص- وفسرت بالمغفرة، وفسرت بثنائه عند ملائكته على المصلي عليه- من باب ذكرته في ملاء خير منه- وفسرت بإعطائه وإحسانه، وفسرت بتعظيمه، ولا خلاف في الحقيقة بين هذه التفاسير، فإن مغفرته من رحمته وأن ثناءه من رحمته وأن إعطاءه وإحسانه من رحمته وأن تعظيمه من رحمته. فرجعت كلها إلى تفسيرها بالرحمة.
لو قلنا بعد هذا أن الصلاة لها معنيان الدعاء والرحمة لكانت من باب المشترك، والاشتراك خلاف الأصل فلذا نقول- كما قال جماعة من المحققين- إن الصلاة معناها واحدة وهو الدعاء فأما من المخلوق فبدعائه الخالق وهو ظاهر، وأما من الخالق فبدعائه ذاته لإيصال الخير والنعمة للمصلي عليه على تفاوت المراتب، ومن لازم هذا رحمته له بالمغفرة والثناء والتعظيم وأنواع العطاء والإحسان. فالذين فسروا الصلاة من الله بالرحمة فسروها باللازم والذين فسروا بغير الرحمة، فسروا بمقتضيات ذلك اللازم فلها إذن معنى واحد وهو الدعاء ولكنه يحمل في كل واحد من الجانبين على ما يليق به (1).
(1) الشهاب: ج 5، م 5، ص 1 - 5. غرة محرم 1348هـ - جوان 1929م.