شجاعة أدبية
بقلم: محمد الهادي الحسني-
أستبشر خيرا عندما أقرأ من حين إلى آخر تفاعل الإخوة القراء مع ما أنشره، ويتملكني إحساس بأنني لا أحرث في البحر، وأن ما أكتبه، يجد صداه لدى الإخوة، كما أفرح بانتقادات بعض القراء التي أستفيد من بعضها، وأشم في بعضها الآخر أن “سهامي” قد أصابتهم، ودمغتهم.
وقد استقبلت مكالمة من أخ ليشكرني على كلمتي التي نشرت تحت عنوان “هذيان”، وليسألني عن مصدر وجود رد الإمام عبد الحميد بن باديس على ذلك الـ”آشيل”.
شكرت الأخ الفاضل على اهتمامه، وأجبته بأن رد الإمام ابن باديس منشور في جريدة “الشهاب”، ابتداء من العدد السادس الصادر في 17/12/1925 إلى العدد 12، الصادر في 20/1/1926، وهو موجود في الجزء الخامس من آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس التي نشرتها وزارة الشؤون الدينية في ثمانينيات القرن الماضي.
وأما قصيدة الشاعر محمد العيد آل خليفة فهي منشورة في العدد 13 من جريدة الشهاب الصادر في 4 فبراير 1926، وفي ديوان محمد العيد آل خليفة من أول طبعة أصدرتها وزارة التربية الوطنية في عهد الأخ أحمد طالب الإبراهيمي إلى آخر طبعة التي أشرف عليها الأستاذ باسم بلاّم، من جامعة الأمير عبد القادر الصادرة في سنة 2017 عن دار الصديق بمدينة سطيف.
لقد قرأت عن قصيدة محمد العيد هذه، واسم روبير آشيل، ورد الإمام عبد الحميد ابن باديس عليه في أحد أعداد مجلة “المعرفة” التي كانت تصدرها وزارة الأوقاف، وذلك في سنة 1964. وذلك في مقال كتبه الأستاذ صالح حرفي، الذي لما يكن قد تدكتر.. أو صار دكتورا لا دكتاتورا.
كان ذلك المقال عن عالمين وشاعرين في موقف واحد هو الدفاع عن الإسلام. فأما العالمان فهما الإمامان محمد عبده وعبد الحميد ابن باديس، وأما الشاعران أحمد شوقي ومحمد العيد آل خليفة.
كان الإمام محمد عبده والشاعر أحمد شوقي يردّان على جابرييل هانوتو، الذي تولى وزارة الخارجية الفرنسية، وهو كأكثر الفرنسيين في صليبيتهم وعداوتهم للإسلام ولكن اللافت للنظر في رد الإمام محمد عبده أنه كان موقعا بغير اسمه، بل كان موقعا باسم “عالم من علماء الإسلام وإمام من أئمة المسلمين، ولم يكن الأمر يدعو إلى إخفاء الاسم الحقيقي للكاتب، خاصة أن مصر لم تكن من المستعمرات الفرنسية ليخشى الإمام أن تبطش به فرنسا.. وكذلك لم يعرف الشاعر الذي رد على هانوتو حتى ظهرت “الشوقيات المجهولة” وفيها قصيدة شوقي..
أما روبير آشييل الذي رد عليه الإمام عبد الحميد ابن باديس، فقد كان أحد طواغيت فرنسا، “يحيي ويميت” على مذهب النمرود، ولا يسأل عما يفعل، وكان مقيما في قسنطينة، حيث مسكن الإمام ابن باديس، وكان محمّد العيد مقيما في مدينة بسكرة، وهي يومئذ خاضعة للحكم العسكري، حيث يعتبر أصغر “كابران” أطغى من فرعون، ولكن محمد العيد عنون قصيدته ذاكرا اسم “آشيل”، واصفا إياه بـ”الهذيان”. “ومابال آشيل يهذي؟”.
قد يقول قائل إن ابن باديس كان مطمئنا إلى حماية أبيه له، ولكن لمن كان محمد العيد مطمئنا؟
إن اطمئنان كل من الإمام ابن باديس والشاعر محمد العيد إنما كان لله – عز وجل- الذي أكد في كتابه الكريم أنه يدافع عن الذين آمنوا، وأنه ناصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ومما جاء في قصيدة محمّد العيد:
هيهات لا يعتري القرآن تبديل وإن تبدل “توراة” و”إنجيل”
قل للذين رموا هذا الكتاب بما لم يتفق معه شرح وتأويل
هل تشبهون ذوي الألباب في خلق إلا كما تشبه الناس التماثيل؟
ثم يذكر “آشيل” في ثلاثة أبيات متتاليات قائلا:
ما بال “آشيل” في “الديبيش” (*) يسخر من آيات محكمه، لا كان “آشيل”؟
ما بال “آشيل” يهذي في مقالته كحالم راعه في النوم تخييل؟
ما بال “آشيل” يزري المسلمين وهم عز العرائك أنجاب بهاليل؟
ويغمز محمد العيد في جنب الفرنسيين حينما يذكرهم بما لا قوه – رغم فارق القوة- من المسلمين في الريف المغربي وفي الشام، فيقول:
أبناؤهم جند أوربا وحسبهم في الريف والشّام إيقاع وتجديل
ثم يختم قصيدته الرائعة بالإشادة بالإمام عبد الحميد ابن باديس، الذي دمغ بحقه أقوال آشيل الباطلة كما دمغت الطير الأبابيل جيش أبرهة الحبشي، فقال رحمه الله:
هذا ابن باديس يحمي الحق متئدا كذاك يتئد الشم الأماثيل
عبد الحميد رعاك الله من بطل ماضي الشكيمة لا يلويك تهويل
دمغت أقوال آشيل كما دمغت أبطال أبرهة الطير الأبابيل
رحمه الله إمامنا عبد الحميد ابن باديس وشاعرنا محمد العيد جراء دفاعهما عن الإسلام وعن الجزائر ليأتي الأراذل في هذا الزمان “المخنث” ليحاولوا “التسلق” على أكتاف الرجال.. وصدق المثل العربي القائل: “إن البغاث بأرضنا يستنسر”.