اهتمام ابن باديس بالعقيدة
بقلم: د.علي الصلابي-
إن القارئ لتراث الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ يجد نصوصاً من الكثرة بمكان، يصرح فيها تصريحاً واضحاً، لا لبس فيه ولا مواربة بأن المنهج الذي يرتضيه في تدريس العقائد هو منهج القرآن نفسه وبيان الشارح وهو السنة النبوية الشريفة، ويرى أن هذا المنهج أيسر على عُموم المسلمين كي يفهموا عقائدهم، خلافاً لمنهج المتكلمين الذي يتَّسم بالصعوبة والتعقيد، بل الغموض والتكلف ؛ إذ يزج بهم في عالم من المصطلحات، كالجوهر والعرض والجنس والنَّوع وعالم من الجداليات، التي تتعب عقول العلماء إزاءها، ناهيك عن عقول العوام، بل ويعتبر السير في طريق المتكلمين، والحرص عليها مع الإعراض على طريق القرآن في عرض العقائد وبسطها نوعاً من الهجر لكتاب الله عز وجل، فقال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا *} [الفرقان : 30].
فقال:.. ونحن ـ معشر المسلمين ـ قد كان منَّا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمن الطويل ـ وإن كنا به مؤمنين ـ بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، فأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة وإصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة.
وقال: أدلة العقائد مبسوطة كلها في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير، وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائدها الدينية وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم، إذ يجب على كل مكلَّف أن يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم، ولن يجد العامي الأدلة لعقائده سهلة قريبة إلا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه، أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المتكلمين الصعبة ذات العبارات الاصطلاحية فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريقة العلم إلى عباده وهو في أشد الحاجة إليه، وقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه.
وفي المقال الذي كتبه الشيخ ابن باديس حول إصلاح التعليم في جامع الزيتونة المعمور وضمّنه جملة من ارائه في الإصلاح التربوي وجملة من المقترحات التي يراها ضرورية لتخريج العالم العامل بعلمه المتفاعل مع قضايا أمته، فإنه كرَّر الدعوة إلى وجوب تجديد الدرس العقدي ؛ وذلك بالابتعاد عن أساليب المتكلمين في تدريسه وبحث مسائله فقال: وعلى العقائد يجب أن تأخذ هي وأدلتها من آيات القرآن فإنها وافية بذلك كُلَّه، وأما إهمال آيات القرآن المشتملة على العقائد وأدلتها والذهاب مع تلك الأدلة الجافة ؛ فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وإلى جانب المصدر الثاني وهو السنة النبوية الشريفة، القولية والفعلية والتقريرية، وهو المصدر الشارح والمبين والمفصِّل لما جاء في المصدر الأول، والذي لا استغناء عنه لمن أراد أن يفهم القرآن فهماً سليماً وأن يطبقه تطبيقاً حسناً، ولقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ كثير الاحتفاء بالسنة النبوية الشريفة شديد الدعوة إلى والتمسك بها والتعويل عليها في فهم الدين فهماً صحيحاً بعيداً عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فقال في مقال لعنوان «بواعثنا، علمنا، خطتنا، غايتنا»، ـ «فأخذنا على أنفسنا دعوة الناس إلى السنة النبوية الشريفة، وتخصيصها بالتقدم والأحجية، فكانت دعوتنا ـ علم لله ـ من أوَّل يوم إليها، والحث على التمسك والرجوع إليها.
ونحن اليوم ما كنا سائرين، وإلى الغاية التي سعينا إليها قاصدين، وقد زدنا من فضل الله، أن أسسنا هذه الصحيفة الزكية وأسميناها «السنة النبوية المحمدية» لتنشر على الناس ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته العظمى، وسلوكه القويم، وهديه العظيم، الذي كان مثالاً ناطقاً لهدي القرآن وتطبيقاً لكل ما دعا إليه القرآن بالأقوال والأفعال والأحوال، ممَّا هو المثل الأعلى في الكمال، والحجة الكبرى عند جميع أهل الإسلام، فالأئمة كلهم يرجعون إليها والمذاهب كلها تنضوي تحت لوائها، وتستنير بضوئها وفيها وحدها ما يرفع أخلاقنا من وهدة الانحطاط، ويُطهر عقيدتنا من الزيغ والفساد، ويبعث عقولنا على النظر والتفكير، ويدفعنا إلى كل عمل صالح، ويربط أخوتنا برباط الأخوة واليقين، ويسير بنا في طريق واحد مستقيم ويوجهنا وجهة واحدة في الحق والخير، ويحيي النفوس والهمم والعزائم، ويثير كوامن الامال ويرفع عنا الإصر والإغلال، ويصيّرنا ـ حقاً ـ خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
فها نحن اليوم نتقدم بهذه الصحيفة للأمة كلها على هذا القصد وعلى هذه النية: عملنا نشر السنة النبوية المحمدية وحمايتها ممَّا يمسها بأذية، وخطتنا الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء بفهم الأئمة المعتمد عليهم، ودعوة المسلمين كافة إلى السُنة المحمدية دون تفريق بينهم، وغايتنا أن يكون المسلمون مهتدين بهدي نبيهم في الأقوال والأفعال والسير والأحوال حتى يكونوا للناس كما كان هو صلى الله عليه واله وسلم مثالاً أعلى في الكمال.
وقال أيضاً: فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك فيحضر مجالس العلم التي تذكره بايات الله وأحاديث رسوله ؛ ما يصحح عقيدته ويزكي نفسه ويقوِّم عمله، وليطبق ما يسمعه على نفسه وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه، وليداوم على هذا حتى يبلغ ما قُدِّر له من كمال.
1 ـ الاستدلال على العقائد:
يقول ابن باديس في دروس العقيدة التي أملاها على طلابه: أول واجب على المكلف من مُسلم بالغ، أو كافر يريد الدخول في الإسلام، أن يعلم أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا يكفي النطق بكلمتي الشهادة إذا كان الناطق بهما لا يفهم أصل معناهما، ويكفي للدخول في الإسلام ما دلَّ على معناهما لحديث بني جذيمة، ولا يكفي النطق بالشهادتين وفهم معناهما إلا مع التصديق التام والاعتقاد الجازم به.. من حصل له اليقين بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وكفاه ذلك اليقين.
ويجب على المؤمن مع تصديقه وجزمه ؛ أن ينظر في آيات الله ويستعمل عقله للفهم، كما تجب عليه جميع الواجبات في الإسلام.. النَّظر الواجب على المكلف هو النظر على الطريقة التي جاء بها القران، من عرضت له شبهة وجب عليه أن يبادر إلى إزالتها، وبالنَّظر بنفسه أو بسؤال غيره من أهل العلم، ومن وردت على قلبه خطرات من دون شبهة فليستعذ بالله وليقل امنت بالله ورسوله.
لقد عمل ابن باديس على تخليص الدرس العقائدي من المصطلحات المعقدة والقياسات المنطقية، وعاد إلى أدلة القرآن وطريقته في العرض والمحاججة، ولقد أدركَ هذه الميزةَ في العقيدة التي أملاها ابن باديس على طلبته الشيخُ الإبراهيميُّ فقال في المقدمة التي كتبها لها: فجاءت عقيدة مثلى يتعلمها الطالب فيأتي منه مسلم سلفي موحِّد لربه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم.
ويقول الإبراهيمي كذلك: حتَّى جاءت دروس الإمام ابن باديس فأحيى بها طريقة السلف في دروسه ـ ومنها هذه الدروس ـ وأكملتها جمعية العلماء، فمن مبادئها التي عملت لها بالفعل لزوم الرجوع إلى القرآن في كل شيء لا سيما ما يتعلق بتوحيد الله وصفاته، وما يرجع إلى الغيبيات لا يكون إلابالقرآن، لأن المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له ونفي ما انتفى عنه لا يكون إلا باية قرانية محكمة، فالمؤمن إذا سوّلت له نفسه المخالفة في شأن من أمور الاخرة، أو صفات الله، فإنها لا تسول له مخالفة القرآن.
والمهم في مدرسة ابن باديس أن الإنسان المسلم ينبغي أن يبلغ درجة اليقين في العقيدة، وأن يعمق هذا اليقين بالنظر في آيات الله التشريعية والكونية، وأن هذا النظر يكون على الطريقة القرآنية.
إن ابن باديس يجعل الواجب الأوَّل: هو النطق بالشهادتين وفهم معناهما مع التصديق التام والاعتقاد الجازم، ثم يسعى إلى النظر على الطريقة القرآنية لتعميق هذا الاعتقاد وتثبيته، وأن يعتمد على القرآن في دحض الشبهات التي تطرأ، فهو عند تفسير قوله تعالى: َ {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *} [الفرقان : 33].
قال: إذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شبه الضالين واعتراضاتهم ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوْجز لفظه وأقربه وأبلغه، وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدَّعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية ومزيد دراية وخبرة، ولا نحسب شبهة ترد على الإسلام إلا في القرآن العظيم ردُّها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة، فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع إلى اي القران، ولا إخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلا واجديها، وكيف لا نجدها في آيات ربنا التي هي الحق وأحسن تفسيراً.
2 ـ موقفه من علم الكلام:
قال ابن باديس: قلوبنا معرَّضة لخطرات الوسواس، بل للأوهام والشكوك، فالذي يثبتها ويدفع الاضطراب عنها ويربطها باليقين هو القرآن العظيم، ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلا شكًّا وما ازدادت قلوبهم إلا مرضاً حتى رجع كثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد القرآن وأدلة القرآن فشفوا بعد ما كادوا كإمام الحرمين والفخر الرازي.
وابن باديس في هذا النص يُشير إلى تجربة هؤلاء الأئمة العظام، الحجة النُّظار، الذين كانت لهم تجارب خاصة في السير مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم العقلية ومماحكات المتكلمين ومناقضاتهم، إذا ساروا إلى أبعد مدى ممكن في هذا الطريق، حتى أحسوا بأنه ليس وراء سيرهم مزيد، ولكنهم عادوا فارغي الأيدي، بل زادت شكوكهم وما استراحت قلوبهم، فعادوا إلى نقطة البدء، فهذا إمام الحرمين أبو المعالي الجويني يعلن عند موته: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه. والان فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل للجويني، وهانذا أموت على عقيدة أمي أو قال على عقيدة عجائز أهل نيسابور.
وكان يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغت ما اشتغلت به.
وأما فخر الدين الرازي فقد عبَّر عن تجربته بالقول:
نهــاية إقــدام العــقول عـــقال وأكثر سعي العالمـــــين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحــاصل دنيانا أذى ووبـــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه : 5]. واقرأ في النَّفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11].
ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني:
أخبر أنَّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والنَّدم.
إن ابن باديس اعتمد على القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة في تعليم العقائد للأمة، وحذر من علم الكلام، وأرشد إلى الاستفادة من تجارب العلماء الكبار في هذا المضمار، كإمام الحرمين والفخر الرازي.
المصدر: من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)