إبن باديس.. وانتصار الصحافة!

بقلم: د. سكينة العابد-

إذا كان ولا بد أن نختزل سر نجاح النموذج الإصلاحي للشيخ ابن باديس رحمه الله، لقلنا إنه يتمثل في وسيلة الصحافة التي جعل منها أداة اتكأ عليها في إدارة وتوجيه عجلة الإصلاح عنده.

فطيلة سنوات رفع هذا الرجل على عاتقه حمل إيصال فكره الإصلاحي، وتوعية المجتمع الجزائري وإيقاظه من غفلته من خلال نشر مختلف المقالات التي حوت جرعات استطاعت أن تستفز الضمائر وتعالج الذمم، وتثري الفكر وتصلح ما خالطه من شوائب.

إن تحديا من هذا القبيل في ذلك الزمن ليس بالسهولة بمكان لولا حنكة الرجل، وقوة إرادته وإيمانه بقضية بلده ومجتمعه، فمنبر الكتابة الصحفية قد يكون خيارا صعبا بالنسبة لوضعية الجزائريين الاستثنائية آنذاك

حيث استقر فيه الجهل والأمية، و أنهكته سياسة الادماج والفرنسة التي مارسها الاحتلال الفرنسي منذ دخوله الأراضي الجزائرية، ولكن المفارقة تاريخيا وواقعيا أن الوسيلة المختارة قد أتت أكلها، لتثبت الصحافة في النهاية أنها الأنجع والأقوى.
إن ابن باديس نموذج فريد وليس من المبالغة ادعاء ذلك، فرجل لا يحمل من سلاح سوى سلاح الكلمة ،وسلاح إيمانه بالله وبالقضية ،استطاع أن يهزم أعتى مستعمر في القرن العشرين ،فقدمت صحافته الإصلاحية وبسلطتها الرمزية مردودا عظيما ،من خلال استقطاب الشعب الجزائري نحو الرسائل الإعلامية التي عمقت رؤي الرجل من خلال صحيفة الشهاب حينا، ثم من خلال صحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين حينا آخر و التي يشهد لها بالمحتوى النفيس ،الرائد والعميق الذي رفع الغبن عن عقل الجزائري، مهددا صرح الاحتلال فكانت ردوده الغلق والتهديد.

إن ما قام به ابن باديس وكل الطواقم الصحفية التي انبرت إلى جانبه من خلال خلق لغة موحدة و منصهرة ضمن روافد متناسقة ومتكاملة يستحق الإجلال إذ التقت كلها عند مبادئ سامية ملخصها الرجوع بالأمة الجزائرية وبعد قرن من الاحتلال إلى منابعها الصحيحة ، إلى جذورها ،وأصولها وهويتها وتطلعاتها في تحقيق الاستقلال والانفصال عن هذا المحتل، الذي اعتقد أو توهم أنه اجتث كل الجذور، وأعاد تشكيل هذا المجتمع وفق معطياته وإرادته وأهدافه ، وقضى على كل البنى التحتية التي قد تحقق للمجتمع الجزائري الإقلاع من جديد.

إن قوة الاستعمار وتبعات استراتيجيته، وطبيعة الاستبداد لديه لم تزد ابن باديس وصحبه إلا قوة وإصرارا واستمرارية، فقد كانت أساليب الاحتلال النمطية المتمثلة في غلق الصحف وتوقيف إصدارها دليلا كبيرا على مدى تأثيرها عليه وإعاقته، وبأن ثمار الغرس قد أتت أكلها، فكانت شيطنة صحافته وتحريض الموالين ضده بما يطرحاه من احتقان وتصادم قد عمقا سيرورة الإصلاح لديه أكثر وأكثر، وجعل من خطواته ثابتة وحثيثة، وهذا كله ارتكازا على صناعة الكلمة الهادفة والمؤسسة على عقيدة الإصلاح لأجل البقاء والنهضة والوجود.
إن البنية النفسية والثقافية التي شملت صحافة الإصلاح عند ابن باديس أججت الروح النضالية لدى الشعب الجزائري الذي أحس أن له وجودا ينشده، وعرف مرجعياته الذاتية، هذه المرجعيات الجوهرية التي غيبت خلف مشاريع احتلال جند كل أدواته وأجنداته، معتدا بكل تصوراته وفرضياته ليسقطها رجل تجاهل كل ذلك ليصدق فيه قول النبي–عليه أفضل الصلاة والسلام-"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"
وأؤكد عن قناعة أن نموذج ابن باديس لا يمكن تجاوزه ماضيا وحاضرا، بل ومن باب الانصاف الاعتراف بأن حضوره هو من غبر دفة السفينة، وهو من فعل وقاد صحوة الشعب الجزائري، وبنى منظومة نهضته الثقافية والفكرية، وكان المقوم الأول هو الصحافة التي ازدهرت في كنفها خطة التحرر المقدسة.


د. سكينة العابد: أكاديمية وباحثة، أستاذة محاضرة في كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة قسنطينة 3

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.