ابن باديس.. الداعية الحركي ورائد الإصلاح والتربية
بقلم: أحمد التلاوي-
يُعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس أحد أهم رواد النهضة الإسلامية، وأحد أهم رموز الإصلاح الديني والسياسي، في الجزائر والعالم العربي والإسلامي، وواحدًا ممَّن لعبوا دورًا أساسيًّا في غرس فكرة الثورة على المستعمِر الفرنسي في الجزائر.
وتعود أهمية ابن باديس، وتجربته، إلى عدد من الأمور، على رأسها مزجه الإطارَيْن الفكري والتطبيقي أو الحركي، في كتاباته ونشاطه بشكل عام، واهتمامه بنواحٍ لم يطرقها كثيرون من قبله من المفكرين والأئمة، ممن تربوا في مدرسة السمع والطاعة للحاكم، مهما كانت مظالمه.
وينتمي ابن باديس إلى المرحلة الزمنية التي تأطر فيها الجانب الحركي في الحركة الإصلاحية الإسلامية، التي بدت إلى العيان كتيارٍ جليٍّ، انساح في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، ومن أهم رموزه جمال الدين الأفغاني، وبعض علماء الأزهر الشريف في مصر، ومن أهمهم رشيد الرضا وحسن البنا، وغير هؤلاء.
ولقد أثَّرت تجربة ابن باديس الفكرية والحركية الإصلاحية في جيل تالٍ من المفكرين، والحركيين عملوا على نشر أفكاره، وتطويرها بالشكل الذي يتناسب مع مستجدات العصر، وخصوصًا بعد خروج الاستعمار الغربي المباشر من أوطان الأمة، وبدء مرحلة جديدة تستوجب البحث عن معالجات لمشكلات وأسئلة ما بعد الاستعمار، مثل مشكلة التخلف، وسؤال النهضة والتنمية.
ومن بين أهم هؤلاء المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي يُعتبر مع آخرين، من المفكرين الذين أصَّلوا لأفكار الحكم الرشيد في الدولة القومية، في عالمنا العربي والإسلامي، من قبل حتى أن تتحول قواعد "الحكم الرشيد" هذه إلى أيقونة في خطط التنمية لدى الأمم المتحدة والأمم الكبرى الناهضة في عالمنا المعاصر.
سار ابن باديس على ذات الخط الذي سار عليه سابقوه ومعاصروه من المفكرين الإصلاحيين المسلمين، فأسس جريدة "المنتقِد" في العام 1925م، على غرار تجربة "العروة الوثقى" للأفغاني ومحمد عبده، و"المنار" التي أسسها رشيد الرضا واستمر في إصدارها حسن البنا من بعده، من أجل نشر أفكاره، باعتبار أن الصحافة المقروءة كانت في ذلك الحين، هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الجمهور العام.
وعندما أوقفت السلطات الفرنسية التي كانت تستعمر الجزائر في ذلك الحين، "المنتقِد"، أصدر مجلة "الشهاب"، وأسس لها مطبعة خاصة لطباعتها في مسقط رأسه، قسنطينة، باسم "المطبعة الجزائرية الإسلامية".
كما سار على خطى سابقيه في زيارة الحواضر العربية والإسلامية الكبرى، من تونس وحتى بلاد الحجاز مرورًا ببلاد الشام ومصر، من أجل التعارف مع علماء هذه الأماكن، وتبادل الأفكار معهم، وتكوين إطار جماعي للعمل في مواجهة المشكلة الأكبر التي كانت تعترض العالم الإسلامي في حينه، وهي وجود الاستعمار المباشر.
وما لبث أن حول هذا الغرض إلى واقع تطبيقي عندما أسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في مايو/ أيار من العام 1931م، والتي دعت إلى ذات الأفكار الإصلاحية الثورية والتربوية التي كان يدعو إليها الأفغاني ومحمد عبده، واللذَيْن كان لهما أكبر الأثر في أفكار ابن باديس والعلماء الجزائريين الذين ظهروا في نهايات القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين.
ومن بين هؤلاء، عبد القادر المجاوي، وهو من رموز الجزائر التي كان لها كبير أثر على الحياة الثقافية والفكرية في الجزائر، والعالم والشاعر، عبد الحليم بن سماية، الذي كان من نُدرة من المفكرين الجزائريين والمغاربة بشكل عام، ممن اشتغلوا بالفقه والفسلفة معًا.
وقد لعبت الكثير من الروافد الفكرية والاجتماعية والسياسية دورها في تشكيل شخصية وأفكار ابن باديس. ومنها:
الرافد الأول، هو نشأته في أسرة ذات علم ومال، في مدينة قسنطينة الجزائرية؛ حيث ولد في العام 1889م، لأسرة عريقة سادت منطقة القبائل الجزائرية منذ القرن الرابع الهجري، أو القرن الحادي عشر الميلادي، وبالتالي؛ كان لهم الكثير من الأدوار في مجال الحكم والدعوة والتربية.
أما الرافد الثاني، فكان تلقيه العلم في جامع الزيتونة في تونس؛ الذي يُعتبر أحد أهم وأقدم دور العلم في العالم الإسلامي، وذلك في العقد الأول من القرن العشرين.
الرافد الثالث، هو الظروف التي أفرزها الاستعمار الفرنسي لبلاده؛ حيث تأثر بما يقوم به الاحتلال في بلاده، سواء لجهة استغلال ثرواته، أو طمس هويته.
ومن بين أهم الإجراءات التي كان لها تأثير عليه وعلى الحركة الوطنية، السياسية والفكرية الجزائرية في ذلك الحين، مصادرة سلطات المستعمِر الفرنسي للأوقاف الإسلامية، والتضييق على التعليم العربي ضمن سياسة "فرنَسَة" الجزائر، والتي عمدت إلى مسخ هوية الشعب الجزائري، العربية المسلمة، وتحويل هويته إلى الثقافة الفرنسية، ولكن مع عدم اعتبار الجزائريين مثل الفرنسيين، ولكن في مرتبة التابع، مع القضاء على أية احتمالات للثورة في صفوفهم، والقضاء على أية روح وطنية تظهر في مناطق الجزائر المختلفة.
وهنا، انتبه ابن باديس إلى أن أهم ذراع لسياسة المستعمِر هذه؛ هو ذراع القوة الناعمة، من خلال المدارس الفرنسية، والبعثات التعليمية التي ذهبت إلى فرنسا، وعادت إلى الجزائر، ليتم تعيين أعضائها في الوظائف العامة من أجل خدمة المستعمِر.
ولذلك؛ فإن ابن باديس، كان أكثر اهتمامًا بالتربية والدعوة واللغة في نشاطه؛ حيث أدرك أن هذه السياسة التي يتبناها الفرنسيون من أخطر ما يكون على هوية الجزائريين، وبالتالي؛ فهي بحاجة إلى جهد موازٍ ولكن في الاتجاه المعاكس؛ الذي يعمل على توطيد اللغة العربية وأخلاقيات وقيم الإسلام لدى أبناء الشعب الجزائري.
وكان اهتمامه في هذا الإطار، منصبًّا على القرآن الكريم واللغة العربية، بالرغم من أصوله الأمازيغية، إلا أنه كان يؤمن تمامًا أن الجزائر إنما هي جزء من مجتمع الأمة المسلمة، وجزء لا يتجزأ من الثقافة العربية اللسان.
ومن بين أهم الشعارات التي كان يطرحها، والتي تكشف عن ثنائية التربية/ الحركية في مقولاته ونشاطه؛ "السياسة في نظر العلماء، هي التفكير والعمل والتضحية"، و"شُغِلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب"، و"لابد لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بحق".
وينقل الأستاذ أنور الجندي رحمه الله، في كتابه "الأدب في معركة التجمُّع والمقاومة"، عن الكاتب الفرنسي فرانسيس جانسون، في وصفه لتجربة ابن باديس: "إن المعركة الباديسية أحدثت إصلاحًا شاملاً فيما وصل إليه الإسلام بعد تخلصه من التحريف والشوائب التي علقت به نتيجة للتفسيرات المشكوك في صحتها؛ حيث تراكمت خلال قرون عدة، كما عملت على تعميم الثقافة العربية بإنشاء مدارس تتولى تدريس اللغة العربية ونشرها في الجزائر، ونشرت الوعي القومي؛ مما وقف عقبة في وجه السيطرة الاستعمارية".
وهو ذات الاتجاه التجديدي الذي ذكره مالك بن نبي عندما قال عن ابن باديس: "لقد كان ابن باديس مناظرًا مفحِمًا، ومربيًا بناءً، ومؤمنًا متحمسًا، وصوفيًا والِهًا، ومجتهدًا يرجع إلى أصول الإيمان المذهبية، ويفكر في التوفيق بين هذه الأصول توفيقًا عزب عن الأنظار، إبان العصور الأخيرة للتفكير الإسلامي".