خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية.. المرحلة الأولى
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
أنا محمد البشير الإبراهيمي، ولدت يوم الخميس عند طلوع الشمس في الرابع عشر من شهر شوّال سنة ست وثلاثمائة وألف، ويوافق الثالث عشر من يونيو سنة 1889، كما رأيت ذلك مسجّلًا بخط جدّي لأبي الشيخ عمر الإبراهيمي- رحمه الله- في سجل أعدّه لتسجيل مواليد الأسرة ووفياتها.
قبيلتنا تُعرف بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل، وترفع نسبها إلى إدريس بن عبد الله الجذم الأول للأشراف الأدارسة، وإدريس هذا- وُيعرف بإديس الأكبر- هو الذي خلص إلى المغرب الأقصى بعد "وقعة فخ" بين العلويين والعباسيين، وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين: الأقصى والأوسط؛ ونسبنا هذا مستفيض بين سكان الأطلس أوراس وسفوحه الجنوبية إلى الصحارى، والشمالية إلى التلول، ولأجدادنا كتابات متناقلة عن هذا النسب.
وموطننا الذي تقلّب فيه أجدادنا في تاريخ ضارب في القدم هو السلاسل الغربية المتفرّعة من جبل أوراس، وهي قمم تفصل بينها مسالك أودية وطرق هابطة من التلول إلى الصحراء، وموقعها الغرب المائل للجنوب لمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الشرقية للقطر الجزائري.
وبيتنا إحدى البيوتات التي حفظت رسم العلم وتوارثته قرونًا من لدن خمول بجاية وسقوطها في القرن التاسع الهجري، وقد كانت بجاية دار هجرة للعلم وخصوصًا للأقاليم المتاخمة لها مثل إقليمنا، وقد خرج من عمود نسبنا بالذات في هذه القرون الخمسة علماء في العلوم العربية، ونشروها بهمّة واجتهاد في الأقاليم المجاورة لإقليمنا، ومنهم من هاجر إلى القاهرة في سبيل الاستزادة من العلم والتوسّع فيه- على صعوبة الهجرة إذ ذاك- ومن آثار الاتصال بالقاهرة أنهم بعد رجوعهم سمّوا أبناءهم بأسماء كبار مشايخ الأزهر، وأنا أدركت في فروع بيتنا من تسمّى بالأمير والصاوي والخرشي والسنهوري.
نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت في التعلّم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتّبع في بيتنا الشائع في بلدنا، وكان الذي يعلّمنا الكتابة ويلقّننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافًا عاليًا عالم البيت بل الوطن كله في ذلك الزمان، عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي - رحمه الله-، وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع، من نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها، أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا، منهم العلّامة المتقن الشيخ ربيع قري اليعلاوي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو القاسم البُوجْلِيلِي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو جمعة القُلِّي، خاتمة المتبحّرين في العربية والفقه؛ ولم يكن هؤلاء العلماء رحلوا إلى الأمصار الكبرى ذات الجامعات العلمية التاريخية كفاس وتونس والقاهرة، وإنما كانوا يتوارثون العلوم الإسلامية طبقة عن طبقة إلى الأجيال المتخرجة من مدن العلم الموجودة بوطننا كبجاية، وقلعة بني حماد، وكلتاهما قريبة من مواطننا، وكلتاهما كانت منارًا للعلم ومهجرًا لطلابه، ومطلعًا لشموسه، إلى الفترة التي تبدأ بالاحتلال التركي، وكان أئمة العلم لا يعتمدون في تخرّجهم على الشهادات الرسمية، وإنما كانوا يعتمدون على الإجازات من مشايخهم الذين يأخذون عنهم.
فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلّي القرآن وتولّى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة حتى في ساعات النوم، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن، فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه، وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني، شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية.
ولم يزل عمي- رحمه الله- يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرئني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني، لأن الله تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة، مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة.
* كتب الشيخ هذه السيرة بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عندما انتخب عضوًا عاملًا فيه سنة 1961، ونشرتها مجلة "مجمع اللغة العربية"، مجلد 21، القاهرة، 1966.