جهاد الجزائر وطغيان فرنسا -الشيخ البشير الابراهيمي
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
أيها الإخوان: أما الجزائر فقد أعربت عن نفسها بالأعمال الخالدة التي قامت بها ثورتها، وبالبطولات المجيدة التي قام بها شبابها الثائر، وبما أحيت من شرائع الجهاد، وبما سجلت من المواقف الخارقة للعادة من وقوف العدد القليل من أبنائها- بما يملكون من سلاح يدوي قليل لا يغني فتيلًا في مجرى العادة- في وجه جيش يفوقه أضعافًا مضاعفة في العدد والعدة والسلاح والنظام والتدريب، تسانده جميع الأسلحة العصرية الفتاكة من طائرات ودبابات، ومدافع ثقيلة ووسائل مخابرات، وقادة باشروا الحروب الاستعمارية، وقادوها في عدة ميادين في الشرق والغرب، وتمرّنوا على أساليبها ومكائدها، يستمدّون لوازم الحرب من سلاح وعتاد ومال من مصانع بلادهم وخزائنها، فلا يُرَدُّ لهم طلب ولا يتأخر عنهم إمْداد، وتعاونهم دول قوية تشفق على الاستعمار أن يتقلص ظله، كأنّ لها متعة ولذة في إذلال الشعوب الضعيفة واستعبادها، وكأن في نفسها بقية حياء تمنعها من مباشرة ذلك الإذْلال والاستعباد بنفسها، فهي لذلك تعين من يباشره بكل ما تملك من قوة.
أعربت الجزائر عن نفسها بذلك كله، وأثبت التاريخ بشواهده أنها لا تحارب فرنسا وحدها، وإنما تحارب كل من يُمِدُّها بتأييد في الرأي والسياسة ويعينها بالمال والسلاح، وكفى الجزائر شرفًا أنها- مع ضعفها- تحارب هؤلاء الأعداء الأقوياء المتظاهرين فتنتصر عليهم أجمعين، وأنها مرّت بها حقبة غير قصيرة وهي تحاربهم بنفس سلاحهم الذي غنمته من الجيوش الفرنسية، وكفى أمريكا وانجلترا خزيًا وعارًا وبُعْدًا عن الإنسانية أنهما تعينان القوي على الضعيف.
لم يَحْكِ الإسلام في عصوره المتوسطة والمتأخرة ولا تاريخ الثورات عن قتال كانت فيه ملامح من الجهاد الديني المؤيَّد بروح الله وأثارة من آثاره مثل ما شهد من الثورة الجزائرية، ولا عجب فالاستعمار الفرنسي في الجزائر حارب- أول ما حارب- الإسلام ومقوّماته، فكانت الثورة على الاستعمار تحمل معنى الانتصار للدين ولمساجده التي حطمها المستعمرون، وجرّدوها من معاني الإسلام وعطلوها، ومعنى النكاية في رجال الدين الذين راضهم الاستعمار على السمع والطاعة له حتى أصبحوا جواسيس له، وتنكروا لقومهم وجامعتهم، وخانوا أمانة الإسلام، ومعنى الانتصار لِأَوْقافه التي تقوم عليها شعائر الإسلام، وتتحقق مآثره وخصائصه، وتتجلى بها عدالته وإحسانه.
هذا ما قامت به الجزائر وحدها في قسم الجهاد بالنفس، وهو القسم الذي عُلِمَتْ أخبارُه بالتفصيل، واستفاضت في العالمين إلى حد التواتر الذي لا يُماري فيه أحد، وبه دخلت الجزائر التاريخ من بابِه وسجلت اسمها في الخالدين، وأصبح اسمها مقرونًا بالإعجاب والإكبار، وذِكْرُ أبنائها الأبطال مقرونًا بالمدح والثناء، وأصبحت بطولتهم وشجاعتهم مضرب الأمثال وحديث الركبان، بعد أن كان اسمها في التاريخ الحديث خاملًا مغمورًا عند كثير من الشعوب التي تجمعها به كلمة الإسلام، ولقد كنت بباكستان لسِتِّ سنوات خلت، وجُلْتُ في عواصمها متحدثًا عن الجزائر ونهضتها العلمية والسياسية، فكان جمهور الحاضرين لا يعرفون اسم الجزائر فضلًا عن أوضاعها وأصالة الإسلام فيها والعروبة، وقرّاء الانجليزية منهم يعرفون عن طريق كتب الجغرافيا أن في افريقيا بلدًا اسمه "الْجِيرْيَا"، ويلتبس عليهم باسم "نيجيريا"، ويسبق إلى ألسنتهم اسم نيجيريا لخفته في النطق، فكنتُ ألقى العَنَتَ في تفهيمهم أن الجزائر وطن عربي إسلامي واسع مشهور، وأنه يشغل الوسط من شمال افريقيا، وأن جميع سكّانه مسلمون، وأنه فُتح من عهد الصحابة ... الخ. ولما قامت الثورة وطارت أخبارها كل مطار وسافرتُ إلى باكستان داعيًا لها وجدتُ جميع الألسنة الأعجمية قد ارتاضت على النطق باسم الجزائر العربية.
وأما النوع الثاني من نوعَي الجهاد المادي، وهو الجهاد بالمال، وهو الدعامة المتينة التي تقوم عليها الثورات، فقد قام الجزائريون وحدهم بما تتطلبه الثورة من أموال باهظة، والثائرون- إلى الآن- إنما يعتمدون على الأموال الجزائرية، وإذا كانت فرنسا تنفق على جيشها العامل في الجزائر تلك المبالغ الخيالية التي لا تقلّ عن مليار فرنك يوميًا، وقد تزيد إلى مليار ونصف مليار من الفرنكات حتى أثقلت ميزانيتها، ووقفت بماليتها على حافّة الإفلاس لولا إعانة أمريكا التي تكشف عن السوءات، وعرف عنها العالم أنها حاضنة الاستعمار ومُرَمِّمة جداره، وطبيبة أنيابه وأظفاره؛ إذا كانت حالة فرنسا هي تلك، فإن الجزائر المجاهدة تعتمد على الله وعلى نفسها وعلى ما أبقاه لها الاستعمار من فتات، لأنهاعلمت أن هذه الثورة هي الموقف الأخير مع فرنسا، وهو- كما يقولون- موقف حياة أو موت، فكل عزيز يهون في سبيل الشرف والحرية، وإذا هانت الأرواح في هذا السبيل فالأموال أهون مفقود.
الثورة تستدعي نفقات طائلة لتسليح المجاهدين وكسوتهم وإطعامهم وغير ذلك من الأشياء التي كانت كمالية فأصبحت في هذا العصر ضرورية كالدعاية ووسائلها المتنوّعة، ومن ثمّ كان العبء ثقيلًا على الشعب الجزائري، وهو يزداد ثقلًا بطول أمد الثورة، ولكن إيمان الشعب الجزائري وبأسه من رجوع الاستعمار الفرنسي عن غيّه، واعتقاده الجازم بلؤمه وكذبه وإخلافه للوعود المَرَّة بعد المَرَّة وعدم خجله من الخزي والموبقات أوقفه موقف التصميم على الموت، الذي هو خير ألف مرة مما يسومه الاستعمار كل يوم من الموت المُجَزَّإ البطيء، ولذلك فكل ما يلقاه من فنون التعذيب والسجون والتشريد، وهتك الحرمات والترحيل من الديار، والإبادة الجماعية وتقتيل الأطفال والنساء والعجائز- الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً- يجده هينًا حلوًا سائغًا.
وعين الاستعمار يَقْظى، فهو ينظر دائمًا إلى النهايات والعواقب ويحتاط لها، ولا يبالي في سبيل الاحتياط بحق يُهدَر، ولا بمَأْثَم يُرتَكب لأن الاستعمار كله مآثم، ولذلك فهو قد بَنَى أمره- من أول يوم احتلّ فيه الجزائر، وبَلَا من الجزائريين المقاومة التي لا تخضع بالسهولة والصلابة التي لا تلين بصَلْي الحرب- على الوسائل التي تضمن له البقاء أو طول البقاء، ورأى أن التجريد من سلاح الحديد والنار لا يضمن العاقبة، فعمد- على مرّ الزمن- إلى محاولة تحطيم الأسلحة المعنوية بوسائل يعجز عنها الشيطان، فحارب الإسلام ومساجده، واغتصب أوقافه، وحارب العربية لأنها تذكي القومية أو تذكر بها على الأقل، وحارب العلم بجميع أنواعه، وسطر سياسته مع الجزائريين في لفظين: "التفقير والتجهيل"، وقد تمّ للاستعمار على طول المدة بعض ما أراد من ذلك، لولا مواريث في فطرة الجزائري سارية في دمه، هي بعض وجوده أو هي سرّ وجوده من حب الإسلام واعتدادٍ به، ومن فخر بالعروبة واعتزازٍ بها، ومن صبر على الضيم يخاله المنقّب في أسرار الطبائع استكانة وما هُوَ بِها، وإنما هو تربّص بالانتقام، وتحفّز للوثبة، فهذه الأخلاق هي التي حفظت الجزائري من التفتّت والذوبان رغم إلحاح البلاء وتفنّن الاستعمار في تلوينه بما يُوهِم أنه نعمته، كمن يَسْقي السمّ ويُقْسِم أنه ماء الحياة.
ولم يكف الاستعمار الفرنسي ما سَنَّ من قوانين لتفقير الشعب الجزائري العربي المسلم ليأمن وثْبَتَه يومًا ما، وما خطط من برامج لحرمانه من وسائل الإثراء حتى سلّط عليه من أسباب الإبادة البطيئة ما ينقص من أعداده من أمراض لا تجد العناية للوقاية منها قبل الوقوع، ولا العناية بدفعها بعد الوقوع، ومن مجاعات مصطنعة مقصودة في وطنيفيض بالخير، وتكفي حاصلاته الزراعية السنوية عشرة أضعاف الشعب الجزائري، ولقد كان الوطن الجزائري قليل المجاعات يوم كانت أطرافه متباعدة ووسائل النقل تعتمد على القوافل الحيوانية، ولكنه في عهد الحضارة الفرنساوية، ووفرة وسائل النقل البخارية والميكانيكية فيه- بحيث تصل النجدة إلى أقاصي أطرافه في يوم أو بعض يوم- أصبحت تتكرّر فيه المجاعات المبيدة للجماعات في كل أربع أو خمس سنوات، وكلما احتاج جيشها إلى بضع مئات من الجنود المأجورين تعزّز بهم مركزًا أو تحارب بهم إخوانهم في المستعمرات، أو احتاج فتورُ التبشير إلى تنشيط ببضعة آلاف من الأطفال؛ دبّرت مجاعة اصطناعية تهيء لها العدد المطلوب وفق المطلوب من الجنود والأطفال، ووسيلتها إلى هذا التبرير الشيطاني أن توعز إلى الشركات الفرنسية الكبرى لتصدير الحبوب في موسم التصدير أن تصدّر أكبر كمية إلى أوربا وغيرها، وتزيل من طريقها كل القيود، وبِيَدِ هذه الشركات رؤوس الأموال الضخمة فيجمعون كل غلة الموسم في الصيف، فإذا جاء وقت البرد والحاجة وجد الأهلي المسكين الأسواق خالية من الحبوب، والأسعار مرتفعة، حتى إذا حلَّت المجاعة واستحكمت حلقاتها، وضاقت به السبل لم يجد إلا سماسرة الجندية يَغْشون الأسواق والمجامع بالطبول والمزامير يدعون الشباب إلى الجندية، ووجد المبشِّرُ الأطفال الذين عجز آباؤهم عن إطعامهم وكسوتهم، وكانوا من قبل عاجزين عن علاجهم ويائسين من تعليمهم، ووجد المُعَمِّر ما يصبو إليه من قطع الأرض التي بقيت بيد الأهلي معروضة للبيع بالثمن البخس، وبهذه الوسيلة الشيطانية خرجت معظم أطيان الفلاحة من يد أهلها، وبهذه الوسيلة دعَّمت فرنسا جيشها بتلك الكتائب من الشباب الجزائري الشجاع الذي ردَّ عليها جحافل الغزاة، وجلب لها النصر في كثير من الوقائع باعتراف الفرنسيين أنفسهم.
أما حظ التبشير من هذه الغنيمة فهو أسوأ الحظوظ لأن الحيلة التي نجح بها الكاردينال لا فيجْرِي في عهد الاحتلال الأول في تنصير قبيلة العطّاف لم يَطَّرِد نجاحها في كل وقت ولا في كل قبيلة، وغاية ما حصل عليه التبشير- مع تأييد الاستعمار في مدة قرن كامل، ومع الملايين التي أنفقت- هو بضع عشرات من مجموعة الأمة الجزائرية تنصّروا تنصيرًا سطحيًا، فلم يضرّوا المسلمين ولا نفعوا النصارى، ولا نقصوا من عداد أولئك ولا زادوا في عداد هؤلاء.
أيها الإخوة العرب:
هذه كلمة طائرة عن ثورة الجزائر، وتصوير مجمل للسياسة الفرنسية ليست من نسق التاريخ المرتب المسرود، ولكنها من نمط الكلام المتفجع، يقفز من فاجعة إلى فاجعة، وفيه كشْفٌ لحقيقة إخوانكم الجزائريين، علمتم منها أن الشعب الجزائري بقضه وقضيضهثائر، وأنه مصمّم على الجهاد إلى الموت، وأنه قائم وحده بالعنصر المعتمد في الثورة وهو المال، وأن المال الذي يملكه محدود، وأن ما وصله من إخوانه العرب كله نوافل لا تكفي ولا تغني، وأن بعض إخواننا العرب يملكون من المال ما إنَّ القليل منه لَيَكْفِي لتحرير الجزائر، ولكنهم- مع الأسف الشديد- مقصّرون في أداء هذا الواجب، ولو أنهم جادُوا ببعض ما ينفقون في الكماليات والشهوات لحرّروا الجزائر، وحازوا أحسن الذكر وجزيل الأجر.
أيها الإخوة العرب:
اذكروا أن إخوانكم في الجزائر إنما يدافعون عن أحساب العرب وعن كرامة العرب. واذكروا أن ثمرة النصر عائدة لكم جميعًا، وأن مرارة الفشل ستتجرعونها جميعًا.
وإن الاستعمار مُتَّهِمُكُم جميعًا، فَمُنْتَقِمٌ منكم جميعًا إن انتصر، وانه لا يبعد على لؤم الاستعمار وحقده إذا انتصر أن يقذف بجيشه العامل في الجزائر بأسلحته ومعداته هدية متقبلة إلى اليهود ليذلكم ويخزيكم.
* كلمة ألقاها الإمام يوم 15 مارس 1958م، ضمن فعاليات يوم تضامني مع الجهاد الجزائري، أقامه لفيف من الأدباء في القاهرة، وقد نشرت ضمن كتاب "مع الجزائر"، دار الهناء للطباعة والنشر، القا هرة 1958.