عبرة من ذكرى بدر
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي –
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها المستمعون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقعة بدر هي أم الوقائع في تاريخ الإسلام الحربي لأنها أول غزوة شهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، بعد غزوات الاستطلاع.
ويوم بدر هو يوم الفرقان لأنه أول يوم انتقلت فيه الدعوة الإسلامية من اللسان والحجة والنظر إلى السيف والدم.
وهي أول وقعة تقررت فيها قواعد الحرب وأحكامه وآدابه، وللحرب في الإسلام معنى غير المعنى الذي يعرفه الناس، وأحكام لم تحد عن العدل وآداب لم تخرج عن الرحمة، فالحرب في نظر الإسلام مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأكبر المفاسد هي الوثنية التي هي آفة العقل والفكر وحجر العثرة في سبيلهما، ويليهما في الفساد والضرر الوقوف في وجه دعوة الحق وسد سبيلها إلى العقول والأفكار.
وكلتا المفسدتين أتتهما قريش إذ ذاك بحماقتها وغرورها، وكانت قدوة سيئة للعرب فيهما، فكان من رحمة الله بالحق وأهله، ومن تدبيره للدعوة أن أذن لرسوله بإراقة الدماء على جوانبها حتى تسلم وتتغلب على العوائق وحتى تسير في طريقها.
وإذا كان رسول الله قد أمضى خمسة عشر عامًا في الدعوة باللسان الذي ينفذ الحكمة ويمد الرحمة، ويخاطب من الإنسان أشرف ما فيه وهو العقل، فلا عجب بعد ذلك إذا التجأ إلى السيف الذي ينطف بالدم ويخطف الأرواح ويخاطب الأعناق والهامات.
وفي غزوة بدر مواقع للعبر، ومكامن للعظات، ومآخذ للتشريع الحربي ومجالي لسنن الله في الأسباب، ومن المؤسف أن المسلمين افتتنوا بالمظاهر عن استجلاء الحقائق واستنباط العبر والحكم، ودراسة الأسباب اللازمة لمسبباتها، فلا يلهج قديمهم ولا حديثهم إلّا بالنصر والخوارق المصاحبة للنصر، وكثيرًا ما يكون الافتتان بالنتائج مشغلة عن الحقائق والأسباب التي هي محل القدوة، وكأنهم بهذا الافتتان يعتقدون أن انتصار الإسلام على الوثنية يوم بدر من الخوارق الخارجة عن نطاق الأسباب، وهذا إبطال لآثار التشريع الإلهي في النفوس. فإن الخوارق ليست محلًا للأسوة، ولا أساسًا للتشريع، والإسلام لم يبن قواعده وأحكامه على الخوارق، وإنما بناها على الأسباب والمسببات، وعلى السنن الثابتة التي يتعايش بها البشر وتدخل في إمكانهم، ولو بناه على الخوارق لبطل العقل، وشلت الإرادات، وفلت العزائم، هذه الثلاثة هي التي يجعلها الإسلام أدوات لفهمه وتثبيته.
ولو شاء الله لهدى الناس جميعًا لسائق وجداني من غير احتياج إلى رسول ولا دعوة، ولو شاء لنصر عبده محمدًا يوم كان وحده، ولوم كان معه عدد قليل، وجماعة مستضعفة، لو شاء فعل ذلك ولم يلحق نبيه أذى بدني ولا ألم نفساني.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.
وكل ما يعج به الكون من يوم خلقه الله إلى يوم يفنيه هو سنن للكون والفساد تصطرع في ميدان النزال فتكون الغلبة لأقواها حسًّا أو لأقواها معنى، فإذا اتصلت بالعالم الإنساني، كان الآخذ بالأسباب، المحسن لاستعمالها، المقدر لمقاديرها وظروفها هو الناجح.
نعم، في غزوة بدر مواقف للاعتبار والاذكار، ومواطن للتأمل والاستبصار، وقد تتجلى العبرة في بعض الأزمنة دون بعض، فإذا وجدت من يستشفها كانت له واعظًا فانتفع بها ونفع، وقد تمر بالغافل أو يمر بها معرضًا فيكون من الذين قال فيهم القرآن: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} والعبرة البليغة لقومنا العرب في زماننا هذا من وقعة بدر هي نصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة فلا يقول المتوسمون في آيات الله وسننه: إن النصر كان خارقة غيبية وإن كانوا يعتقدون أن النصر من عند الله يهبه لمن شاء، ولكنه لا يهبه إلّا بأسبابه وأحكم ما قال الحكماء الربانيون: إذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه. إن انتصار نيف وثلاثمائة على ثلاثة أضعافهم ليس خارقة غيبية الأسباب، وإنما هو جار على السنن المعتادة. وما أُتِيَ من يعتقد خلاف هذا إلّا من الغفلة عن سنن الله، أو من التقصير في استقرائها، وكلنا نعلم ونشاهد أن الفئة القليلة تنتصر على الكثيرة إذا كانت الأولى مسلحة والثانية عزلاء، أو كانت القليلة أزود سلاحًا من الكثيرة.
هذا في الماديات ومثله في المعنويات، علمنا بانتصار الفئة القليلة على الكثيرة بإحسان التدبير، وإحكام الرأي، ولطف التحيل، فلماذا نغفل عن الإيمان والعقيدة، وأثرهما في انتصار أصحاب بدر على ثلاثة أضعافهم؟ إن المسلمين انتصروا يوم بدر بالإيمان الصحيح القوي الذي ثبت العقائد فثبتت الإرادات فاندفعوا اندفاع من يريد أن يموت ليحيا دينه وقومه وبلاده. كانوا يعتقدون أن ما يقاتلون عليه هو الحق من ربهم، وأن محمدا الداعية إلى هذا رسول الله الصادق الأمين، وأن موتهم في سبيل دعوته طريق إلى الجنة التي وعدوها، فتصوروا خلودها كرأي العين، ووعد الله بها كقبض اليد، وأنه ليس بينهم وبين دخولها إلّا فراق الروح للجسد، وأن الموت لا فرار منه، وأنه ملاقيهم ولا بد، وأن هذه الأرواح ودائع أو بضائع، والودائع مسترجعة، والبضائع لها سوق ولها قيم، فاختاروا السوق ميدان الجهاد، والبيع لله، والقيمة رضاه وجواره.
هذه هي الروح التي لبست تلك الفئة القليلة حين تراءت الفئتان، فئة الله وفئة اللات في شعب بدر، وهذه هي القوّة التي تتضاءل أمامها كل الدنيا، ومحال أن ينهزم حامل هذه الروح.
أما الفئة الكثيرة فقد خرجت تداني عن العرض الزائل فلما سلم دفعتها الخيلاء والغرور الباطل إلى أن تدافع عن السمعة والأحدوثة.
ذلك اللقاء يوم بدر لم يكن بين طائفتين قليلة وكثيرة، وإنما كان بين عقيدتين حق وباطل، وإرادتين مصممة وواهنة، وحسب الحق في عالم الظهور أن يجد من يمثله، فإذا وجد سقطت معه مقاييس اللغة والكثرة والقلة من الحساب والاعتبار، ومثاله في عالم الشهود قطعة من الحديد توازن بأضعاف حجمها من القطن، ولما ظهرت هذه السنة عمليًّا في بدر، جاء القرآن بتقريرها علميًّا في سورة الأنفال:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}.
والسنة المستسرة هي وصفه طائفة بأنهم قوم لا يفقهون، وطائفة بأنها صابرة، وأصحاب محمد يوم بدر كانوا مؤمنين صابرين على الموت، والمؤمن الصابر لا يرى الموت كما يراه الناس هادمًا للذات وقاطعًا للشهوات، وإنما يراه بابًا للَّذَّات الخالدة الباقية.
أسوق هذه العبرة إلى إخواني المسلمين عمومًا وإلى قومي العرب خصوصًا، ليعلموا بماذا انتصرت الفئة القليلة يوم بدر، فيعلموا لماذا انكسرت فئتهم الكثيرة يوم فلسطين، وان في اليومين لآيات لقوم يعقلون وأين من يعقل أو من يعي؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلمة ألقاها الإمام من إذاعة صوت العرب بالقاهرة، 15 ماي 1955.