إِتِّحَادُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاوُنِهِمْ
بقلم: الشيخ عبد الحميد بن باديس-
«الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري، ومسلم عنه أيضا إلى قوله بعضا.
المفردات:
المؤمن، (ال) في اللفظين جنسية استغراقية، فالمراد جميع الأفراد. (للمؤمن): اللام لام الاختصاص. و (يشد): يقوي بعضه بعضا بالتضام والالتحام. (شبك): أدخل أصابع اليمنى بين أصابع اليسرى وأصابع اليسرى بين أصابع اليمنى.
التراكيب:
الجملة الأولى خبرية لفظا طلبية معنى، أي ليكن المؤمن للمؤمن كالبنيان، وجيء بالطلب على صورة الخبر تنبيها على أن هذا المطلوب هوالشأن الذي لا ينبغي أن يكون سواه، فهو بحيث يخبر عنه لا أن يطلب. والجملة الثانية استئنافية لبيان وجه التشبيه.
المعنى:
الواجب على كل فرد من أفراد المؤمنين أن يكون لكل فرد من أفراد المؤمنين كالبنيان في التضام والالتحام، حتى يكون منهم جسد واحد كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
زيادة بيان:
لقد قرر الحديث الشريف معنى الاتحاد الذي يجب أن يكون بين جميع أفراد المؤمنين على أكمل وجه في التصوير وأبلغه في التأثير، فقد شبههم بالبنيان وذلك وحده كاف في افادة الاتحاد، وزاد عليه التصريح بالشد والتقوية ليبين أن في ذلك الاتحاد القوة للجميع تأكيدا للزوم الاتحاد بذكر فائدته، ثم زاد عليه التصوير بالمحسوس لما شبك صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه، هذا كله ليبين للمؤمنين لزوم الاتحاد وضرورته.
تبصر:
ألا ترى البنيان كيف يتركب من الحجارة الكبيرة والحجارة الصغيرة والمواد الأخرى التي تلحم بها الحجارة وتكسى، وكل ذلك محتاج اليه في تشييد البنيان، فكذلك بنيان المؤمنين فإنه متكون من جميع أفرادهم على اختلاف طبقاتهم، فالكبير والجليل له مكانه، والصغير والحقير له مكانه، وعلى كل حال أن يسد الثغرة التي من ناحيته مع شعوره بارتباطه مع غيره من جميع أجزاء البنيان التي لا غناء لها عنه كما لا غناء له عن كل واحد منها، فكل واحد من المؤمنين عليه تبعته بمقدار المركز الذي هو فيه والقدرة التي عنده، ولا يجوز لأحد وان كان أحقر حقير أن يخل بواجبه من ناحيته، فإنه إذا أزيل حجر صغير من بنيان كبير دخل فيه الخلل بمقدار ما أزيل، وإذا ابتدأ الخلل من الصغير تطرق للكبير. ثم ألا ترى أصابعك وفيها القوي وفيها الضعيف حتى إذا شبكتها صارت كشيء واحد له قوة ومتانة زائدة، وكل أصبع منها يمكن أن يلوى ما دام وحده، فإذا شبكتها عسر ليها وقوي أمرها، فكذلك المؤمنين باتحادهم- وفيهم القوي وفيهم الضعيف- تكون لهم قوة عامة زائدة، وكل واحد منهم بمفرده يمكن قهره، فأما إذا اتحدوا فإنهم يكونون بقوة اتحادهم في مأمن من كل قهر.
تفقه:
لما قال صلى الله عليه وآله وسلم (المؤمن للمؤمن .. الخ) علق الحكم على الوصف فاقتضى ذلك أن هذا هو واجب كل مؤمن من حيث انه مؤمن مع كل مؤمن من حيث انه مؤمن، فيجب لهذا أن تطرح في مقام الاتحاد والتعاون جميع المفرقات من المذاهب والمشارب وينظر إلى وصف الايمان فقط، فهذه المذاهب وهذه المشارب أهلها كلهم أهل ايمان لا يدفع بعضهم بعضا عن ذلك، والنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قد أمرهم بالاتحاد والتعاون باعتبار الوصف الأصلي الذين هم مشتركون فيه ليكون الاتحاد والتعاون في مكنتهم دون التفات إلى ما أحدثوه من مفرقاتهم. فمن تعامى عن وصف الايمان الموجب للاتحاد ونظر إلى مذهب أو مشرب من موجبات الافتراق فقد عصى أبا القاسم- صلى الله عليه وآله وسلم- وحاد الله ورسوله وأعرض عن دعوة الحق وأجاب داعي الشيطان.
سلوك:
علينا أن نعتقد بقلوبنا أن الاتحاد واجب أكيد محتم علينا مع جميع المؤمنين، وأن فيه قوتنا وحياتنا وفي تركه ضعفنا وموتنا. وأن نعلن ذلك بألسنتنا في كل مناسبة من أحاديثنا. وأن نعمل على تحقيق ذلك بالفعل باتحادنا وتعاوننا مع إخواننا في كل ما يقتضيه وصف الايمان الجامع العام والله المستعان وعليه التكلان (1).
(1) ش: ج 7، م 7، ص 429 - 431 ربيع الأول 1350هـ - جويلية 1931م.