أساس الإصلاح صلاح التعليم
بقلم: الشيخ عبد الحميد بن باديس-
قد ذكرنا في المقال السابق ما كان عليه التعليم الديني في عهد السلف الصالح، من التفقه في الدين بالتفقه في القرآن والأحاديث النبوية. وذكرنا الحالة التي انتهى إليها في عصرنا من هجر القرآن والسنة والاقتصار على الفروع العلمية المنتشرة دون استدلال ولا تعليل، واستشهدنا على ذلك بحالتنا نحن أنفسنا لمّا أخذنا شهادة العالمية من جامع الزيتونة عمره الله بدوام ذكره.
ونزيد أن نذكر اليوم أنّ هذا الإعراض عن ربط الفروع بأصولها ومعرفة مآخذها هو داء قديم في هذا المغرب من أقصاه إلى أدناه، بل كان داء عضالا فيما هو أرقى من المغارب الثلاث وهو الأندلس. ونحن ننقل فيما يلي كلام إمامين عظيمين من أئمة الأندلس المتبعين لمالك رحمه الله.
قال الإمام عمر بن عبد البر المتوفى سنة(493) في "جامع بيان العلم وفضله":« واعلم أنّه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلاّ لتفهم وجه الصواب فيصار إليه، ويعرف أصل القول وعلته فيجري عليه أمثلته ونظائره، وعلى هذا الناس في كلّ بلد إلاّ عندنا-كما شاء الله ربنا- وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب، فإنّهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها فكأنّه خالف نص الكتاب وثابت السنة، ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام وذلك خلاف أصل مالك، وكم وكم لهم من خلاف في أصول مذهبه ممّا لو ذكرناه لطال الكتاب بذكره، ولتقصيرهم في علم أصول مذهبهم صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممّن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داود بن علي أو غيرهم من الفقهاء وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال: هكذا قال فلان وهكذا روينا ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته، فإن عارضه الآخر بذكر فضل إمامه أيضا صار في المثل كما قال الأول:
شكونا إليهم خراب العراق *** فعابوا علينا شحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى *** أريها السها وتريني القمر
وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد البلوطي:
عَذِيرِيَ مِنْ قَوْمٍ يَقُـولُونَ كُلَّمَـا *** طلبت دليلا: هكذا قال مـالك
فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب *** وقد كان لا تخفى علـيه المسالك
فإن زدت قالوا: سحـنون مثلـه *** ومن لم يقل ما قـاله فهـو آفك
فإن قلت: قال الله ضجوا وأكثروا *** وقالوا جميعا: أنت قرن مـماحك
وإن قلت: قال الرسول فقـولهم *** أتت مالكا في ترك ذلك المسالك
هذا إمام من أئمة الإسلام العظام المجمع على إمامتهم وعدالتهم، ومن أعظم المتبعين لمالك الآخذين بمذهبه، وها هو يشكو مر الشكوى ممّا كان أهل بلدة الأندلس في القرن الخامس، وينعى عليهم ما انفردوا به هم وأهل المغرب من الجمود والتقليد وحملهم للروايات المختلفة دون معرفة وجوهها ومخالفتهم لأصل مذهب الإمام الذي ينتسبون إليه، وعدولهم عن النظر والاستدلال المأمور بهما كتابا وسنة المعمول بهما عند جميع الأئمة إلى الاحتجاج بفضل القائل وعلمه والإجماع على أنّه قد يصيب المفضول ويخطئ الأفضل. ورحم الله عمر بن الخطاب في قوله:«امرأة أصابت ورجل أخطأ» واستشهد ابن عبد البر بأبيات القاضي منذر ابن سعيد البلوطي المولود سنة(265) المتوفى سنة(355) لتبيين قدم هذا الداء في الأندلس وشكوى العلماء الأعلام منه وإنكارهم على أهله.
وقال الإمام ابن العربي الأندلسي المتوفى سنة(543) في "العواصم" وهو يتحدث عن فقهاء عصره: « ثمّ حدثت حوادث لم يلقوها في منصوصات المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا، وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف حتى آلت المئال أن لا ينظر إلى قول مالك وكبراء أصحابه، ويقال قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة وأهل طلمنكة وأهل طلبيرة وأهل طليطلة، فانتقلوا من المدينة وفقهائها إلى طلبيرة وطريقها».
فهذا الإمام العظيم قد عاب عليهم نظرهم في الحوادث بغير علم، لأنّ ما عندهم من الفروع المقطوعة عن الأصول لا يسمى علما، ولمّا لم تكن عندهم الأصول تاهوا في الفروع المنتشرة، ومحال أن يضبط الفروع من لم يعرف أصولها، وذكر ما أداهم إليه إهمال النظر من الانقطاع عن أقوال مالك نفسه وأمثاله إلى أمثالهم من الفروعيين التائهين الناظرين بغير علم.
فإذا كان الحال هكذا من تلك الأيام في تلك الديار وقد مضت عليه القرون في هذه البلاد وغيرها، فإن قلعه عسير والرجوع بالتعليم إلى التفقه في الكتاب والسنة وربط الفروع بالمآخذ والأدلة أعسر وأعسر، غير أنّ ذلك لا يمنعنا من السعي والعمل بصدق الرجاء وقوة الأمل وسننفذه في دروسنا هذا العام والله المستعان.
* الشهاب : ج12، م10، غرة شعبان 1353ﻫ / 9 نوفمبر 1934م