زيارة الشيخ عبد الحميد بن باديس لبلدة رأس الوادي
بقلم: الصالح بن سالم-
من الزيارات التاريخية لمدينة رأس الوادي (ولاية برج بوعريريج) تلك التي قادها الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1929م بدعوة من صديقه الشيخ محمد البشير الابراهيمي ابن هذه البلدة الطيبة، وذلك من أجل تدشين المسجد العتيق (طوملة)، وقد حضر هذا التدشين عدد معتبر من العلماء والمشايخ من قسنطينة وسطيف وبرج بوعريريج، وأدى هؤلاء العلماء صلاة الجمعة لأول مرة وتكفل الشيخ والعلامة محمد بن الحاج السعيد لطرش بإمامة المصلين، وبعد نهاية الصلاة أقيمت احتفالات بهيجة بالمدينة بحضور جمع غفير من المواطنين جزائريين وأوروبيين، وقد كتب الشيخ بن باديس عن هذه الزيارة في مجلة الشهاب بتاريخ 01 رمضان 1348هـ / فيفري 1930م وهذا قوله كاملا:
( رأس الوادي قرية مستحدثة في أرض ريغة القبيلة العربية الكبرى ذات الفعال، والخيول الطوال - راهم ريغة وخيلهم طوال - وفق أهلها فأسسوا مسجدا جامعا، وجاءتنا بطاقة الدعوة من السادة: الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ السعيد ابن العيساوي والسيد الصالح بن هارون والسيد السعيد بن يسعد والسيد العياشي بن مشته بالحضور لأول جمعة تقام فيه يوم الجمعة 10 شعبان فلبينا الدعوة.
كانت القرية يوم ذاك مجتمعا عربيا إسلاميا عظيما، من رجالات ريغة ووجوهها ووفود الأعيان من جهات عديدة، وامتلأ الجامع واكتظت جميع رحابه بالمصلين من عباد الله المؤمنين، وانقضت الصلاة وقد تجلت روح الخشوع للخالق والاخاء والمحبة بين الناس وغشيت أهلها رحمة وسكينة تذوقتها الأرواح ووجدت بردهما القلوب والحمد لله رب العالمين، وجزى النبي العربي أفضل ما جازى به الأنبياء والمرسلين، وتقبل القبول الحسن عمل المحسنين.
رأى الناس شخصي الضعيف بعد ما قضيت الصلاة فالتفوا حولي وفيهم من أهل الفتوى وأهل القضاء وأهل التدريس وأبوا علي أن أبقى ساكنا، وألحوا علي في طلب درس للتذكير، فما خلصني إلا التصريح لهم بأن الولاية العامة قد أصدرت أمرا عاما لجميع البلدان والقرى والمداشر يمنعني من التدريس في المساجد، وأعلمتني بذلك المنع، فأعظم القوم الأمر وأخذ منهم العجب مأخذه حتى كادوا لا يصدقون، وكان في الناس من بلغه ذلك من قبل ولم يصدقه، وكان منهم من يتصل بالوظيف فأكده لهم، وأخذوا يسألونني عن سبب هذا المنع - وكلهم يعلمون أنني ما كنت في جميع مجالسي إلا مرشدا دينيا أنشر التوحيد والاخاء والفضيلة والعدل والاحسان، وأدعوا إلى العمل والنظام واحترام القانون وحسن الجوار - فقلت لهم: ان السبب هو الدروس التي كنت ألقيتها في بعض البلدان في الصيف الماضي برغبة من أعيان البلدان التي حللتها وبحضور قيادها ونوابها ونشرت ملخصة في مجلة الشهاب كما تعلمون، فقال بعضهم: لعل بعض الحاضرين وشى بكم وزعم أنكم خضتم في السياسة، فقلت: كلا فان دروسي كنت أنشرها جهارا على صفحات المجلة، لأنني لا أتكتم من شيء، وما كانت دروس العلم ليتكتم بها، وأما السياسة فان الحكومة تعلم يقينا أنني لا أخوض فيها أصلا، ولولا ذلك لكان المنع بلون آخر، ولما تركت لنا رخصة الإقراء في الجامع الأخضر بقسنطينة، وحاول البعض أن ألقي ولو كلمات قليلة فأبيت كل الإباء وقلت: إنني أريد أن أنفذ هذا المنع بتدقيق، فانفض الجمع بادية عليه علائم الأسف والاستغراب.
ذهبنا بعد صلاة العصر إلى مسرح البلدية وهنالك شاهدنا مشهدا آخر من المشاهد السارة، شاهدنا اجتماع العنصرين الأوروبي والجزائري للمشاركة في هذا الاحتفال الاسلامي، وقديما كنت أعرف حسن العشرة والتآخي والاحترام بين هذين العنصرين في قرية رأس الوادي مما يوده العقلاء ان يكون عاما، وألقى الأستاذ الإبراهيمي خطابا عظيما، وتلاه السيد اسماعيل مامي رئيس تحرير رصيفتنا (النجاح) الناجحة، ثم قام السيد السوبريفي لتقليد الأوسمة لبعض الحاضرين من الفرنسيين وبينهم جزائري، وألقى كلمات بروح ديموقراطية عالية تركت في السامعين أجمل الأثر.
لقد تم هذا الاحتفال العظيم على أحسن ما يرام، وشمل فيه كرم الضيافة من القائمين به الناس كلهم من عرب وفرنسيين، وقفل الوافدون وكلهم شاكرون داعون بقبول العمل وجميل الاحسان ).
* من مجلة الشهاب ( 01 رمضان 1348هـ / فيفري 1930م ).
من خلال هذه الزيارة والكلام للشيخ عبد الحميد بن باديس نخرج بعديد النقاط:
1/- تواضع الشيخ الامام عبد الحميد بن باديس، وذلك بزيارة مختلف المناطق الجزائرية سواء مدن أو قرى أو حتى مداشر، وتلبية كل الطلبات التي تصله وفق المستطاع، وكان يعلم يقينا بأن الشعب الجزائري يكن له كل التقدير والاحترام، ومجرد زيارة ليوم قد تبقى راسخة في الأذهان لعقود وقرون من الزمن، ويتوارثها ساكنة تلك القرية أبا عن جد، وها نحن اليوم نتذكر هذه الزيارة المباركة رغم مرور 92 سنة.
2/- العلاقة المتينة بين الشيخين الجليلين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الابراهيمي، فقد كانا يحرصان على مدح بعضهما البعض في مختلف المناسبات.
3/- علاقة جمعية العلماء وشيوخها بالزوايا والطرق الصوفية، وهو الموضوع الذي شابه العديد من الغموض والتشويه، فقد كان شيوخ الجمعية وعلى رأسها بن باديس والابراهيمي يفرقان بين الزوايا الضالة التي تنشر البدع والخرافات، وبين الزوايا التي تنشر العلم وتحارب الجهل، وعلى سبيل المثال هذه الزيارة للشيخ بن باديس بدعوة من الشيخ الابراهيمي لتدشين هذا المسجد والذي كان يتبع الطريقة الرحمانية التي تسيرها أسرة الشيخ السعيد بلعيساوي رحمه الله برأس الوادي، فقد قدم بها الشيخ الابراهيمي عشرات الدروس في الفقه والتفسير والحديث ....
4/- حرص الشيخ عبد الحميد بن باديس على عدم الدخول في صراعات مع السلطات الفرنسية، والتي ستعطل من مشروعه الحضاري، فقد كان ملتزما بقرار منعه من تقديم الخطب في المدن الجزائرية، وهو يعرف بأن السلطات الفرنسية كانت من خلال هذه القرارات التعسفية تبحث عن السبب فقط لسجنه واعتقاله أو نفيه وبذلك يخسر الجمل بما حمل.
* جميل جدا أن نتذكر في هذا اليوم المبارك مسيرة هؤلاء حتى نساهم ولو بالقليل في غرس نشء يكون خير خلف لخير سلف.