من أصداء وفاة الشيخ ابن باديس في المشرق العربي
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
كثيرا ما تساءلت عن أصداء وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في المشرق العربي، ومدى اهتمام الصحافة المشرقية ورجال السياسية والفكر بهذه الفاجعة التي أصابت الحركة الفكرية والعلمية في الجزائر. ولم يكن يخامرني أدنى شك في أنّهم أحسّوا بها وهم يعلمون أنّ ابن باديس لم يعمل فقط على نهضة الجزائر وإنمّا عمل أيضا على نهضة الأمة العربية والإسلامية.
ولقد لبث هذا الموضوع يشغل بالي، وكلما سنحت لي الفرصة لمطالعة الصحف والمجلات القديمة استحضرت هذا السؤال وتمنيت أن أجد فيها ضالتي حتى عثرت على رسالة أرسلها من مصر الأستاذ محمد علي الطاهر إلى الشيخ الطيب العقبي.
من هو محمد علي الطاهر؟
ولد محمد علي الطاهر في نابلس بفلسطين في عام 1896. تعلم في مدارسها واشتغل في البريد والتلغراف. هاجر إلى مصر أثناء الحرب العالمية الأولى واستقر بالقاهرة حيث مارس التجارة والعمل الصحفي والسياسي من خلال اللجنة العربية الفلسطينية التي أسسها سنة 1920، والجرائد العربية والصحف التي أنشأها مثل «الشورى» ثم «الشباب».
كما أسس مكتبا سماه دار الشورى، وكان يستقبل فيه كبار رجال الفكر والسياسة العرب، ويشرف منه على تنظيم لقاءات وندوات تتناول قضايا التحرر في العالم العربي. وكان من أبرز نشاطه تنظيم تأبينية الأمير شكيب أرسلان في ديسمبر 1946 وحفلة استقبال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في عام 1952، وحفل تكريم الشيخ الفضيل الورتلاني في نوفمبر 1952. وكان يشارك في هذه اللقاءات كوكبة من – والسياسيين المصريين والعرب المهاجرين إلى مصر.
كما أشرف على استنساخ المقال الذي كتبه أحمد توفيق المدني في جريدة «الإصلاح» حول مجازر 8 ماي 1945، إذ سحب منه الأستاذ الطاهر ألف نسخة في القاهرة ووزعها على الأقطار العربية. وقال الأستاذ المدني أن هذه العملية ساهمت في تعريف الناس «بأسرار وفداحة تلك المذبحة الرهيبة، وسادت موجة من السخط والاحتجاج على السياسة الفرنسية الفظيعة».
نشر محمد علي الطاهر مجموعة من الكتب، أذكر منها العناوين التالية: نظرات الشورى: خواطر ومقالات (1932)، عن ثورة فلسطين (1936)، ذكرى الأمير شكيب أرسلان (1947)، أوراق مجموعة. كتاب أحمر عن فظائع الإنجليز في فلسطين وغدر اليهود وصبر العرب (1948)، ظلام السجن (1951)، رسائل بورقيبة (1966)، خمسون عاما في القضايا العربية (1978).
غادر محمد علي الطاهر القاهرة سنة 1955 إلى لبنان، وتوفيّ في بيروت في 31 أوت 1972 ودفن فيها.
جريدة الإصلاح في سطور
أصدر الشيخ الطيب العقبي جريدة «الإصلاح» في مدينة بسكرة في 8 سبتمبر 1927. وهي جريدة أسبوعية تنشر في 4 صفحات، وقد اهتمت بإحياء الدين ونشر العلم والفضيلة والنهوض بالمجتمع. وقد تعرضت مرات عديدة لمضايقات إدارية وأزمات مالية، مما أدى إلى تعطلها عن الصدور 3 مرات (1930)، (1939)، (1948). وصدر منها في المجموع 73 عددا.
وساهم في تحريرها مجموعة من العلماء والأدباء والشعراء الجزائريين من أمثال: أبي يعلى الزواوي، محمد العيد آل خليفة، أحمد توفيق المدني، الأمين العمودي، عبد القادر محداد، محمد الطاهر فضلاء، محمد الحسن فضلاء، أبو بكر جابر الجزائري، بوحميدة إبراهيم، والشاعر التونسي محمد بوشربية، والكاتب التونسي محمد المهدي بن الناصر، والعالمين المغربيين عبد الله كنون ومولاي الطيب العلوي، ….الخ.
وكانت تنقل بعض المقالات والأخبار من الجرائد التونسية والمغربية والمصرية والتي تتعلق بنشاط الحركات السياسية والوطنية في هذه البلدان، وكذلك ما يتصل بالقضايا العربية الكبرى التي كانت تشغل الرأي العام العربي آنذاك.
رسالة محمد علي الطاهر
كانت الرسالة مؤرخة في يوم 5 ربيع الثاني 1359 ه وهو ما يوافقها 13 ماي 1940 م، -أي كتبها صاحبها قرابة شهر بعد وفاة الشيخ ابن باديس التي وقعت في مدينة قسنطينة في 16 أفريل من العام نفسه.
ولا شك أن هذا الخبر وصل إلى مصر متأخرا في تلك الفترة التي كانت غارقة في أهوال الحرب العالمية الثانية وما ترتب عنها من انقطاع المواصلات وتعثر حركة البريد بين الجزائر والعالم العربي. ومهما يكن فإن الرسالة قد وصلت إلى صاحبها وهو الشيخ الطيب العقبي الذي تعرّف عليه محمد علي الطاهر في الحجاز حيث كان مقيما فيه لعدة سنوات قبل عودته إلى الجزائر.
وقد منعت سلطة الرقابة الاستعمارية الشيخ العقبي من نشر هذه الرسالة في تلك الفترة وانتظر عدة سنوات. وقد اغتنم فرصة إعادة إصدار جريدته «الإصلاح» لينشر خطاب الأستاذ الطاهر في العدد 47 الصادر في يوم 1 ماي 1947 وخصص صفحة كاملة منه للاحتفاء بالذكرى السابعة لوفاة ابن باديس. وإليك الآن أيها القارئ نص الرسالة:
حضرة الأخ المجاهد العلامة الأستاذ الشيخ الطيب العقبي حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد فقد روعنا انتقال فقيد الإسلام والعربية الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى الدار الآخرة وخصوصا في هذه الظروف السوداء، وقد كان ارتحال هذا العلامة المصلح الفذ مباغتة شديدة الوقع أليمة الأثر، فكان لنعيه هزة عنيفة امتدت إلى الشرق وتركت في كلّ قلب رنة حزن هيهات أن تنسى. وقد نشرت صحف مصر والحجاز والشام وبقية البلاد العربية نعي الفقيد العظيم ونوهت بخدماته للعالم الاسلامي وخصوصا فلسطين التي تحفظ لكل من ناضل عنها جميل سعيه وكريم دفاعه.
إنّ العالم الإسلامي والأمم العربية في المشرق لم يجزع على مجاهد عالم مصلح بعد النكبة بالإمام رشيد رضا كما جزعت على الإمام ابن باديس الذي سارت أنباء أعماله سير الشمس وطارت في جميع أنحاء الأرض.
فالمصيبة الفاجعة بفقد العلامة ابن باديس اليوم ليست بكارثة على الجزائر وحدها بل هي مصيبة للعالم الإسلامي بأسره من مشرق الشمس إلى مغربها.
فعزاء أيها الأستاذ الكريم على هذا الرزء الفادح، فقد شاء الله أن يحرم المسلمين من شخصية حبيبة خالدة قبل أن تتجاوز عصر الشباب وكان يرجى منها النفع للأمم الإسلامية فترة طويلة من الزمن.
اللهم برد ثراه وأكرم مثواه وخلده في جنتك، وأحسن مثوبته فقد كان مخلصا لك خادما لعبادك متفانيا في نصرة دينك، مجاهدا في سبيلك فاكتبه في الصديقين والشهداء يا راحم الراحمين.
أخوكم المحزون محمد علي الطاهر
رئيس اللجنة الفلسطينية العربية بمصر
ويستمر البحث..
لقد أكدت هذه الرسالة البعد العالمي لشخصية ابن باديس وشهرة أعماله الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي، فهو لا يختلف -كما قال صاحبها- سواءً في علمه أو في تأثيره عن الشيخ محمد رشيد رضا الذي فاقت شهرته الآفاق.
ذكر الأستاذ محمد علي الطاهر أنّ رجال الإصلاح والفكر في مصر والشام والحجاز تأثروا بخبر وفاة الشيخ ابن باديس الذي كان مشهورا عندهم بفضل زياراته السابقة لتونس ومصر والحجاز، وكتاباته الصحفية المعروفة وتلامذته المنتشرين في المدارس والمعاهد العربية. ولكني لا أعرف إن أقيمت في تلك الدول أو في غيرها مجالس لتأبينه، أو نشرت مقالات في صحفها تنوّه بأعماله وجهوده التي تجاوزت حدود الجزائر! لا بد أن أشير هنا إلى أن الشيخ العقبي نشر في نفس العدد من جريدة «الإصلاح» رسالة أخرى جاءته من الأستاذ محمد الخطيب رئيس جمعية التمدن الإسلامي بدمشق.
طالعت العديد من الجرائد والمجلات القديمة لكنني لم أجد دائما ما كنت أصبو إليه من المعلومات. صحيح أن وفاة الشيخ ابن باديس جاءت أثناء الحرب العالمية الثانية حيث توقف النشاط الفكري واحتجبت الكثير من الصحف والمجلات إلا أن بعضها قاومت كل المعوّقات القائمة كنقص الورق وتعطل سير البريد وصعوبة التنقل وانقطاع الأخبار… لتستمر في الظهور، وأذكر منها المجلات المرموقة مثل «الرسالة» لأحمد حسن الزيات، و«الفتح» لمحب الدين الخطيب…
لم أجد في المجلة الأولى ما يشير إلى ذلك الحدث بينما وجدت منشورا قصيرا في المجلة الثانية بقلم العالم المجاهد المغربي محمد تقي الدين الهلالي ينعي فيه الشيخ ابن باديس ويتهم الإدارة الفرنسية بتسميم ذلك العالم الجزائري والقضاء عليه بعدما رفض تأييدها في حربها مع ألمانيا.
وأملي أن تساعد التقنيات الجديدة ونشر المكتبات الوطنية العربية لمقتنياتها من الصحف والمجلات على شبكات الأنترنت في مواصلة البحث في هذا الموضوع، ودراسة أصداء وفاة الشيخ ابن باديس في المشرق العربي فهو إن عاش للجزائر بقلبه وعقله، فقد عاش أيضا بكل جوارحه للإسلام حيثما وجد في المغرب وفي المشرق.