ذكريات عن المفكر الموسوعي
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
منارة فكرية وموسوعة ثقافية وشخصية سياسية وطاقة نضالية، ترك بصمات لا تمحى في التاريخ الجزائري المعاصر ،إنه المفكر والمؤرخ مولود قاسم نايت بلقاسم ـ عليه رحمة الله ـ الذي ولد في 6 يناير 1927 بقرية بلعيان من بلدية أقبو، بولاية بجاية، بدأ مشواره الدراسي من مسجد قريته، ثم واصل مشواره الدراسي في زاوية سيدي يحي العيدلي في تامقرة ،ودرس فيها على يد الشيخ العلامة الطاهر آيت علجت ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره سافر إلى تونس، حيث التحق بجامعة الزيتونة سنة 1946 وهي نفس السنة التي التحق فيها بحزب الشعب تخرج من جامع الزيتونة 1949 ثم واصل مساره الدراسي في مصر بجامعة فؤاد بالقاهرة ونال شهادة ليسانس في الفلسفة سنة 1954، ثم التحق بجامعة باريس وسجل للدكتوراه حول بحث اسمه (الحرية عند المعتزلة) ولكن في سنة 1956 تخلى عن المشروع استجابة لنداء الإضراب الذي دعا إليه اتحاد الطلبة المسلمين، ثم اضطرته مضايقات الشرطة الفرنسية إلى مغادرة التراب الفرنسي وتوجه إلى التشيك، حيث سجل مرة أخرى بحثا للدكتوراه حول (الحرية عند كانط)، وبسبب نشاطه الثوري وانخراطه في معركة تحرير الوطن ترك بحثه واتجه إلى ألمانيا، وتولى منصب نائب رئيس الوفد الدائم في بون للجنة التنسيق والتنفيذ للجبهة، ثم للحكومة المؤقتة بألمانيا، والنمسا، وهولندا ما بين: 1961-1958م، ثم نائب رئيس الوفد الدائم للحكومة المؤقتة في استوكهولم عاصمة السويد ما بين: 1962-1961م ثم طلبه سعد دحلب أثناء مفاوضات إيفيان وكلفه بإعداد رد على المفاوض الفرنسي جوكس الذي كان يصرّ على أن الصحراء لا علاقة لها بالجزائر.
بعد استرجاع الاستقلال تقلد عدة مناصب ومسؤوليات من بينها:مدير مكتب الأمين العام للمكتب السياسي محمد خيضر مكلفاً بالشؤون الدبلوماسية ما بين: نوفمبر 1962- أبريل 1963م. ثم مدير الشؤون السياسية بوزارة الشؤون الخارجية، ووزير مفوض ما بين: سبتمبر 1964- أبريل 1966م، ثم وزير التعليم الأصلي والشؤون الدينية ما بين:يونيو1977-1970م،في حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين، كما تولى في حكومة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد منصب وزير لدى الرئاسة مكلفاً بالشؤون الدينية:1977-1979م. وفي الثمانينيات من القرن الماضي تولى رئاسة المجلس الأعلى مكلفا بتعميم اللغة العربية في حزب جبهة التحرير الوطني.
كان مولود قاسم الأمازيغي الشهم، تلميذ الشيخ العلامة محمد الطاهر آيت علجت وتلميذ الشيخ العلامة محمد الصالح بن عتيق، يتقن خمس عشرة لغة ويكتب ويحاضر بخمس منها هي: العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والسويدية، ولكن حبه الأكبر كان للغة العربية، ومجده الأعظم كان هوالإسلام، الذي قال عنه: ”إن الإسلام بالنسبة لنا أنفاس وجودنا وهواء حياتنا”!
سخّر جهده وجهاده وفكره وقلبه للجزائر فسمّى باكورة إنتاجه الفكري (الجزائر)، وطبعه مكتب الجامعة العربية في ألمانيا باللغة الألمانية في سنة 1957، وأيضا سمّى فلذة كبده وكريمته الأثيرة إلى قلبه «الجزائر»، كما كان محركا ومشجعا ومساهما مع الشاعر الجزائري الكبير مفدي زكريا في تأليف الملحمة الشعرية الخالدة (إلياذة الجزائر).
كان الأستاذ مولود قاسم دائما متيقظا ومستعدا للردّ على أي إساءة تلحق بالجزائر، مهما كان مصدرها.
في سنة 1971 ذهب في زيارة إلى روسيا ولما وصل إلى المطار، علم أن في استقباله إطارا في وزارة الخارجية، فرفض النزول من الطائرة وعاد إلى الجزائر وبرر موقفه بأنه لو نزل من الطائرة واستقبله إطار عادي لكان ذلك انتقاصا من قيمة الجزائر. وقال للروس: «إنه لن يدخل بلادهم إلا إذا جاء لاستقباله شخص في مرتبة وزير» ولما عاد إلى الجزائر قدم استقالة إلى الرئيس بومدين، لكنه رفضها.
وكان أول من استاء واحتج على تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار دسيتان، عندما حلّ بمطار الجزائر في أول زيارة رسمية لرئيس فرنسي بعد استعادة الجزائر لسيادتها الوطنية، وقال يوم 10 أفريل1975: ”فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة”. مولود قاسم، الوزير الكبير في حكومة هواري بومدين، رحمه الله، كان يتسوّق من الأسواق الشعبية بلا حراسة، ويقود سيارته المتواضعة بنفسه دون سائق أو مظاهر بروتوكولية يحرص زملاؤه من أعضاء الحكومة على إحاطة أنفسهم بها، وكان، في بعض الأحيان، يجالس الطلبة، ويدخل معهم في نقاشات ساخنة في الملتقيات والمحاضرات، التي كان يحضرها أو يشرف عليها.. هذا الرجل المتواضع رفض النزول من الطائرة في مطار موسكو، لأن من جاء لاستقباله في المطار من سلطات الاتحاد السوفياتي لم يكن في مرتبة وزير، فاعتبر الراحل مولود قاسم ذلك التصرف بمثابة إهانة للجزائر، وذلك ما لا يقبله ولا يتساهل فيه مطلقا.
قال لي، ذات يوم، إنه شعر بحزن ومهانة لا توصف عندما كان في إحدى المناسبات يستقبل، بصفته مستشارا برئاسة الجمهورية، وفدا من الاتحاد السوفياتي، وكان المترجم المرافق للوفد الروسي يتولّى الترجمة من الروسية إلى الفرنسية، وأضاف المرحوم مولود قاسم أنه احتج على المترجم قائلا له: بأن الاتحاد السوفياتي يتوفر على أحسن المستعربين في العالم، فلماذا لا يتولّى الترجمة من الروسية إلى العربية، وهو يرافق وفدا في زيارة رسمية لبلد عربي؟ وكان ردّ المترجم الروسي بمثابة المفاجأة التي هزّت مشاعر الأستاذ مولود قاسم، إذ أجابه بأن اختيار اللغة الفرنسية كوسيلة للترجمة كان بطلب من مصالح الرئاسة الجزائرية!، أما الحادثة التي ظلّت تحزّ في نفس الفقيد مولود قاسم، وتجرح كبرياءه وتطعن آماله، فهي حادثة إلغاء نظام التعليم الأصلي في الجزائر، وقد روى لي ذلك في منتصف الثمانينيات، بمكتبه بمقر حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان موجودا في مبنى الغرفة التجارية بساحة الشهداء، وكنت قد زرته بحكم مهنتي كمسؤول للقسم الثقافي بجريدة «الشعب» الوطنية، وبحكم علاقتي الطيبة به من خلال إشرافه على المجلس الأعلى للغة العربية، فقال لي: إن من بين الشخصيات التي كانت تزوره في بيته الأستاذ مصطفى الأشرف، وكان دائم الثناء على الإنجازات التي حققها نظام التعليم الأصلي، ويؤكد أن معاهد التعليم الأصلي قد أنقذت شباب الجزائر من الضياع التربوي والحرمان التعليمي، وهي توفر لهم فرصة جديدة لصقل معارفهم وتطوير مستوياتهم الدراسية وضمان مستقبلهم الشخصي والمساهمة في تنمية بلدهم.. إلى آخر ذلك من الكلام المعسول، وكانت هذه الزيارات والمحادثات دافعا للأستاذ مولود قاسم حتى يتوسّط عند الرئيس هواري بومدين من أجل تعيين الأستاذ مصطفى الأشرف في منصب رسمي يمكّنه من توظيف طاقاته الثقافية وقدراته الفكرية المتميزة لخدمة الدولة الجزائرية، حتى جاء اليوم الذي تمّ فيه تعيين مصطفى الأشرف في الطاقم الحكومي في منصب وزير التربية الوطنية سنة 1977، وهي السنة نفسها التي خرج فيها الأستاذ مولود قاسم من وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية التي كانت موجودة لمدة سبع سنوات (من 1970 إلى 1977)، وكان أول ما قام به الأستاذ مصطفى الأشرف هو الطلب من الرئيس بومدين اتخاذ قرار إلغاء التعليم الأصلي، بحجة أنه لا مبرر لوجود تعليم برأسين في الجزائر: أي تعليم عام، وتعليم أصلي. وقد استجاب الرئيس بومدين، بسرعة محيّرة، لهذا الطلب، وبجرة قلم تم إلغاء إنجاز تربوي كان مصطفى الأشرف من بين المشيدين به عندما كان خارج الحكومة، وشعر الأستاذ مولود قاسم أن الرئيس بومدين الذي كان يعتبره قائدا متبصرا، وزعيما قوي الشخصية، وصديقا مقرّبا يقاسمه المبادئ والأهداف والقناعات في بناء الجزائر قد عاقبه على النجاح في مهمته، وحرمه من مواصلة إنجاز فيه الخير للجزائر ولمستقبل أبنائها!
وأما النكسة الكبيرة والخيبة المميتة التي لحقت بالوطني المخلص والمناضل الصادق والمفكر الأصيل والمدافع الصلب عن مجد الجزائر وأصالتها، الأستاذ مولود قاسم، فهي قضية تجميد قانون استعمال اللغة العربية الذي كان من المفروض أن يدخل حيز التنفيذ في 5 جويلية 1992 في الذكرى الثلاثين لاسترجاع السيادة الوطنية، بعد أن كان نواب المجلس الشعبي الوطني قد صادقوا عليه بالإجماع في 27 ديسمبر 1990، ووقّعه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في 16 جانفي 1991 وأصدره في الجريدة الرسمية، رغم معارضة اللوبي الفرانكوفيلي وضجيج الهستيريا الصاخبة للمسؤولين الفرنسيين ووسائل إعلامهم المحرضة على قانون اللغة العربية، فكان مرسوم تجميد القانون بمثابة الرصاصة المسمومة التي وجهت من قِبل السلطة الجزائرية إلى أحد أهم مكوّنات الشخصية الوطنية ورموز السيادة الجزائرية، وعجّلت بإيقاف نبض الحياة- رغم إيماننا الكامل بأن آجال العباد بيد الخالق سبحانه وتعالى، لا تقدّم ولا تؤخّر إلا بمشيئة الله وقدره- في جسد كان يزخر بإرادة العطاء والجهاد، ويتدفق بألق العبقرية وصدق الوطنية، فالتحق بجوار ربه يوم 27 أوت 1992، عن عمر ناهز 65 سنة، أي بعد أقل من شهرين من صدور مرسوم تجميد قانون استعمال اللغة العربية!