هاجس التاريخ عند مولود قاسم
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
كلما تذكرتُ مولود قاسم مرت على شريط ذكرياتي مقولته التي قرأتها في بدايات الثمانينات في مجلة الأصالة وحفظتها عن ظهر قلب: “نحن لسنا يتامى التاريخ”. ورغم صغر عمري آنذاك، فإنني أدركت أن الرجل مولع بالتاريخ، ولكن دون أن أفهم أبعاده ومقاصده.
معنى التاريخ
لقد كان التاريخ بالنسبة إليّ هو سلسلة من الأحداث وقعت في الماضي السحيق ثم انتهى في العصور الوسطى وفق البرنامج المدرسي المقرر علينا. فالتاريخ توقف عند آخر درس سمعناه من المدرس. كما أن العالم انتهى -في مخيالي- عند أعلى قمة جبال جرجرة التي كنتُ أشاهدها كل يوم تعانق السماء الصافية في فصل الربيع والسماء المغيّمة في فصل الشتاء.
ولم تتغير نظرتي إلى التاريخ إلا بعد مطالعات الكتب والمجلات الثقافية ومنها مجلة الأصالة التي كان يشرف عليها مولود قاسم والتي كانت تهتم دائما بالدراسات التاريخية في مراحلها المختلفة. فأصبح التاريخ عندي شيء آخر يشمل معاني متعددة ومجالات مختلفة، فهو كما قال عنه مولود قاسم: “مفاهيم وصيغ، متصل عميق الاتصال بذكريات الشعب، بروح الأمة، بدينها، وحياة مجتمعها، أية أمة كانت، وأي شعب كان، وأي مجتمع في الأرض. وكذلك هو الاسمنت الروحي، لا يقل في ذلك عن الدين، لأنه يضم الدين، فالتاريخ يضم الدين، وكل شيء، والأخلاق، ويضم حياة الأمة في مجموع عناصرها ومكوناتها، بعقلها وعواطفها، وآلامها وآمالها.”
دفاعا عن التاريخ
حرص مولود قاسم على برمجة جلسات حول التاريخ في كل ملتقيات الفكر الإسلامي التي أشرف عليها باعتباره وزيرا للشؤون الدينية. ويحظى الكلام عن التاريخ أحيانا أكبر قدر من الوقت المخصص للمحاور الأخرى. وكان يحاضر فيها أكبر المؤرخين الجزائريين والأجانب المعروفين آنذاك، أذكر منهم: أبو القاسم سعد الله، يحي بوعزيز، المهدي بوعبدلي (الجزائر)، محمد عبد الله عنان (مصر)، عثمان الكعاك (تونس)، عبد الله العروي (المغرب)، شارل روبير آجرون وإيفان تورين (فرنسا)…الخ.
وإذا كان هذا يثلج صدور المؤرخين مثل الدكتور يحي بوعزيز الذي يقدم في كل مرة محاضرة حول تاريخ المنطقة التي استضافت أشغال الملتقى، فإن عددا من العلماء الأجانب استاءوا من ذلك، وقالوا أن هذه ملتقيات للفكر الإسلامي وليس لتاريخ الجزائر. ولما وصل الكلام إلى مولود قاسم ثار على هؤلاء العلماء فأجابهم بكل وضوح من فوق منبر الملتقى، أنه لا مكانة بيننا لمن لا يحب الاستماع إلى ضجيج التاريخ.
مساهمات تاريخية
ماذا قدم مولود قاسم للتاريخ الجزائري؟ لقد ألف مولود قاسم عدة كتب، وهي: إنية وأصالة، أصالية أم إنفصالية؟ ردود الفعل الأولية داخلا وخارجا على غرة نوفمبر أو بعض مآثر فاتح نوفمبر، شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة 1830 م. كما تناول التاريخ في حوارات كثيرة مع وسائل الإعلام المختلفة.
كما نشر مقالات عديدة حول تاريخ الجزائر خاصة في مجلة الأصالة، ومجلة الثقافة وجريدة الشعب. وتتميز كتاباته التاريخية بنفس طويل وكثرة الأمثلة والاستدلال من أجل إقناع القارئ وتشويقه لمطالعة الكتب التاريخية والاستفادة منها في حياته العملية.
وتنتهي كتاباته دائما بالدعوة إلى إحياء التراث وكتابة التاريخ والاهتمام به من أجل بناء المستقبل، فقد قال في هذا الشأن مستلهما من الفيلسوف والشاعر الألماني غوتليب فيخته: ” يتحتم علينا أن نكتب تاريخ أمتنا، وأن نجعله تاريخا يلهب ويبعث إلينا الحماس، تاريخا يدفع بنا إلى الأمام…”
ساهم كذلك مع الشاعر مفدي زكريا والمؤرخ التونسي عثمان الكعاك في صياغة إلياذة الجزائر بتوجيهاته في مجال التاريخ. وقد حرص مولود قاسم على أن تشمل تاريخ الجزائر الشامل من أقدم عصورها إلى الفترة المعاصرة مركزا على جوانبها الحضارية وذلك من أجل ” استعادة جميع ثرواتنا، ومقومات شخصيتنا وحصانتنا، وبناء مجد جديد لأمتنا.” فالتاريخ ليس فقط سجل الماضي وإنما أيضا مصدر إلهام للمستقبل.
عجت كتب مولود قاسم بالوثائق التاريخية كأنه يقول لا تاريخ بدون وثيقة، وقد قال في هذا السياق بمناسبة إلقاء محاضرة: ” الإنصاف قدر الإمكان ملتزم مزاول، وبالنص لا أجازف ولا أقاول، وبالحق لا أراهن ولا أطاول، وإلا فالمنصة أدع، والقول غيري أناول، وعلى رئيس الجلسة أن يداول !”
كما بادر مولود قاسم باعتباره مدير الشؤون السياسية بوزارة الخارجية في عام 1964 إلى الحصول على محاضر هيئة الأمم المتحدة طوال الثورة التحريرية. أشرف كذلك على إعداد دراسة شاملة حول هذا الموضوع. ولا شك أن الباحث الجزائري سيستفيد من هذه الوثائق التي تتضمن معلومات² كثيرة حول الدبلوماسية الجزائرية خلال ثورة التحرير الوطني.
وكان لمولود قاسم الفضل في نشر العديد من الوثائق أو ترجمتها إلى العربية خاصة التي كتبت باللغات القديمة والمتعلقة بالمعاهدات التي أبرمتها الجزائر مع الدول الأوروبية في إطار التبادل التجاري والملاحة الدولية.
كما كان يتابع باستمرار الصحافة الأجنبية في كتاباتها حول تاريخ الجزائر، ويعلق عليها في محاضراته ومقالاته. ولولاه ما عرف الجزائريون معلومات كثيرة عن ثورتهم في الإعلام الأجنبي في تلك الفترة التي كانت وسائل الإعلام الجديدة غير منتشرة بقوة كما هو حالها اليوم. وقد ساعده على ذلك إتقانه لعدة لغات أجنبية. وكان أيضا من ثمرات مطالعاته الصحفية كتابه النفيس: “ردود الفعل الأولية داخلا وخارجا على غرة نوفمبر أو بعض مآثر فاتح نوفمبر”.
تحرير التاريخ
كان هاجسه دائما هو تحرير تاريخ الجزائر من المدرسة الاستعمارية التي تفطنت مبكرا إلى ثراء تراثنا التاريخي الزاهر، واعتبرت بقاءه على الصورة القائمة حجرة عثرة لتحقيق المخططات الفرنسية في الجزائر، خاصة أن حجة الفرنسيين الأولى هي أن وجودهم في بلدنا هو من أجل تمدين الشعب الجزائري الذي ليس له نصيب في الحضارة والرقي.
فكان من مهمة المؤرخين والمثقفين الفرنسيين المؤمنين بهذه الفكرة تشوّيه تاريخنا وتراثنا حتى ينسلخ الجزائري من مقوّمات حضارته، ويذوب في مقوّمات غربية جديدة أو يبقى بدون انتماء.
وفي هذا السياق، انتقد مولود قاسم المدرسة الاستعمارية في الدراسات التاريخية خاصة المؤرخين المختصين في تاريخ الجزائر أمثال فليكس غوتييه صاحب كتاب: ” المغرب في العصور المظلمة”، وشارل أندريه جوليان صاحب كتاب ” تاريخ الجزائر المعاصر” أو كتاب ” تاريخ شمال إفريقيا” باعتبارهما مرجعيات في تاريخنا لكثير من الباحثين والطلبة، وبيّن مغالطاتهم وكشف أخطاءهم المختلفة.
كما ميّز مولود قاسم بين المؤرخين الذين تخلوا عن مصداقيتهم العلمية لخدمة المشروع الاستعماري والمؤرخين الفرنسيين الذين التزموا بالمنهج العلمي وأذكر هنا فرناند بروديل صاحب كتاب: البحر المتوسط في عصر فيليب الثاني، والذي اعتبره مولود قاسم من أعظم المؤرخين وحث على قراءة هذا الكتاب، وكذلك المؤرخ مارك فيرو – وهو تلميذ برودل- صاحب كتاب: ” كيف نعلم الأطفال التاريخ؟”.
سجال تاريخي
لقد انتقد بعض المؤرخين الجزائريين غلو مولود قاسم في كتاباته عن تاريخ الجزائر ما قبل الاحتلال وتأكيده باستمرار على الشخصية الدولية الجزائرية واستقلالها التام عن الإدارة المركزية العثمانية باعتبار الجزائر جمهورية أو دولة مستقلة عن الخلافة العثمانية.
وما زلت أتذكر سجالا وقع بين مولود قاسم والمؤرخ مولاي بلحميسي في قاعة المحاضرات بالنفق الجامعي، فكان هذا الأخير رفض نظرية الأول مدافعا عن فكرة أخرى، وهي أن الجزائر كانت تتصرف في الفترة العثمانية كولاية أو أيالة مرتبطة بالخلافة الإسلامية ولم تكن لها شخصية مستقلة. وأشهد أن النقاش انتهى بين العالمين دون حسم في الموضوع، فكان لكل واحد منهما حججه الدامغة، فكنا نحن الطلبة الحاضرين أيضا منقسمين بين الرأيين.
إن مولود قاسم الذي اهتم أيضا بالتاريخ لدعم تصوراته في الهوية والإنية لم يغرق في الذاتية وتمجيد الماضي دون مراجعته ونقده، فهو يؤكد مرارا على أن تاريخنا ليس كل ما فيه مقدس وغير قابل للنقاش والاعتراف بالنقائص: “نحن لا نمجد أنفسنا. فلدينا، كغيرنا، نواحي نقص وعيوب نحاول أن نتداركها، ولكن كذلك علينا أن لا نخرب أنفسنا بمعاولنا.”
وأختم هذه المقالة بهذه المقولة للمفكر الألماني فيخته والتي رددها مولود قاسم كثيرا، وحث على الاستلهام منها العبر وتطبيقها على أرض الواقع: “التاريخ ينبغي أن يلقن للصغار، ويدرس للكبار، كالإنجيل وبنفس التقديس والإجلال والتعظيم.”