المفكر الوزير مولود قاسم.. قبسات من حياة حافلة بالحزم والعزم والجزم

بقلم: د. محمد عبد القادر تيطراوي-

لعل الكثير من عشاق العربية الذين رافقوا المشهد الثقافي في الجزائر خلال العقود الخمسة الماضية يجمعون بأن مولود قاسم نايت بلقاسم (ت1992م)، هو من الذين يتصدرون قائمة أهم الشخصيات الوطنية الذين تمكنوا من التوفيق إلى حد كبير بين السياسي والمثقف، أو بين الإيديولوجي والفكر.

وقد كان هذا الملمح الثقافي /السياسي، قد شاع عند الغرب، كما وجد في بعض البلاد العربية عند من تمكنوا من المزاوجة الناجحة بين الانتاج الفكري والابداعي، وبين المهام التي تتطلبها الحقيبة الوزارية.
في فرنسا(مثلا) نجد المفكر والكاتب الروائي أندري مالرو(ت 1976م) André Malraux. الذي تقلد منصب وزير الثقافة في ستينيات القرن الماضي.

وبمصر نجد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (ت1973م) رحمه الله، الذي تولى حقيبة المعارف في حكومة مصطفى باشا النحاس (ت1965م) سنة1950م.

وفي مصر أيضا، فإن الشيخ متولي شعراوي (ت1998م) رحمه الله كان أنموذجا رائعا في التوفيق بين تخصصه العلمي والشرعي والوظيفة السامية، حيث لم تشغله حقيبة وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر_ والتي وفق في تسييرها_عن الدعوة إلى الله.

وفي الجزائر _وفي ظل الاستقلال المجيد_برزت كوكبة طيبة من قامات الثقافة والفكر والأدب، كانت قد تولت حقائب وزارية، ومعهم صاحب الذكرى، هم-في تصوري- من الذين تقلدوا مسؤوليات في دوائر حكومية، وشغلوا الرأي العام بشخصياتهم المتميزة، وبآرائهم الجريئة في الدفاع عن أصالة الشعب الجزائري، وهم يتقاسمون مع سي مولود مدرسة الثوابت الوطنية، وبالطبع فقد كان لكل واحد منهم ثقافته، وخصوصياته الفكرية والأدبية المتميزة، وهو أمر عادي، أن يكون الاختلاف وليس بخلاف.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن كلا من أحمد طالب الإبراهيمي، وعبد الحميد مهري، والشيخ عبد الرحمن شيبان، وبوعلام بن حمودة، وعلي بن محمد، ومحمد الشريف خروبي… يقر لهم الجميع_إلا من أبى_ بأنهم قد خدموا الثوابت، وصدحوا بالوحدة الوطنية، وكانت لهم مآثر حميدة، ومواقف خالدة، سواء قبل استوزارهم أو خلالها أو بعدها، وظلوا أوفياء للهوية الوطنية. ولا ندري فعسى الله الرحمن الرحيم أن يشملهم بواسع رحمته، جزاء ما قدموا لأمتهم، ولبني وطنهم، فيدرج ذكرهم في النسمات الزكيات، والبشارات الطيبات من قوله تعالى:{ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

والذي لا يختلف فيه اثنان عاقلان، أنه لا يسعنا المقال لذكر جميع أسماء من اعتلوا سدة الوزارة، وكانت لهم إضافات محمودة، ولبنات وضعوها في صرح لغة الضاد والثوابت بالجزائر.
ومما لا شك فيه، أن قطاعا واسعا من مجتمعنا يدرك جيدا من هم الذين تولوا حقائب_ تحديدا_ وتضافرت جهودهم في الذود عن ثوابت الأمة.

ولعل من عين العقل والمنطق والعدل أن نقر بوجود قامات جزائرية أخرى، ممن تقلدوا تلك المناصب السامية_من غير من ذكرنا_ وكانوا هم أيضا قد قدموا خدمات للضاد وقيم الأمة، ولا ينكر ذلك إلا مكابر.
وإذا كانت العبرة بالأثر، فإن آثار هؤلاء الخيرين للوطن هي التي تثني عليهم أحياء وأموات؛ مثلما قال الشاعر:
تلك آثارنا تدل علينا * فانظروا بعدنا إلى الآثار

هذا حاصل في الدنيا، وفي عالم البشر، كما يحصل في الدار الآخرة. قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ.}[يس: 12] .

واللافت للنظر أن هذا الأمر ليس جديدا في حضارتنا العربية الإسلامية، والأمثلة كثيرة، ولعل من أجل ذلك لقب لسان الدين بن الخطيب (ت776م) بذي الوزارتين.

وخلاصة القول أن الذي نعنيه بعد كل هذه الديباجة بالنسبة للأستاذ، والمناضل ، والمجاهد، والمفكر، والوزير سي مولود رحمه الله، أنه قد استقطب، بشخصيته الميكانيزمية المتميزة جمهورا عريضا، وشعبية واسعة من اهتمام الرأي العام، وحاز بذلك على أطياف متنوعة من المعجبين.

لقد كان سي مولود ظاهرة ثقافية متميزة حتى في لغة خطابه اللافت للنظر، وأسلوب كتابته وسجعه الظريف العفيف اللطيف، والضاحك الهزلي المطرب الرديف.

لقد كان سي مولود يشكل مدرسة فكرية وخطابية بأركانها وخصائصها وتوجهاتها، وبذلك كان ملء السمع وملء الثقافة في عصره.

وإن كان من الطبيعي_سوسيو/ثقافيا_ أن تكون ثقافته الموسوعية، وانحيازه الواضح للغة الضاد، وغضبه البادي للعيان في ظاهر حديثه عن ثوابت الأمة قد جر له _كل ذلك_ بعض المنتقدين والخصوم، خاصة ممن ترعرعوا وتغذوا في متنفس ثقافي آخر غير المشرب العربي الإسلامي.

بل كان سي مولود أحيانا ليس محل رضى حتى من بعض نظرائه في الحقيبة من مشرقنا العربي، نظرا لجرأته الكبيرة في الانتصار للعلم والمنطق في بعض القضايا التي كانت عندهم خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها، مثل التقويم الفلكي ورؤية الهلال بالوسائل العلمية.

وقد تجلت خصوماته الفكرية تلك في طرحه الجريء لعدة قضايا على منصة النقاش الفكري، سواء في خرجاته الإعلامية، أو في مداخلاته في جلسات ملتقيات الفكر الإسلامي السنوية؛ التي كانت تستقطب العلماء والباحثين والمفكرين، وأهل الفلسفة من كل أرجاء العالم، أو في كتاباته (خربشته) كما كان يحلو له أن يقول سواء منها التي كانت في مجلة (الأصالة)، أو الصحف الوطنية والعربية، أو كتبه التي طبعت في حياته.

والحق أن كثيرا من القضايا الفكرية والثقافية والدعوية التي طرحت في أشغال ملتقيات الفكر الإسلامي في عهد مولود قاسم وحده، لا تزال صالحة للنقاش إلى اليوم، لأنها تسهم بشكل مباشر في توعية الفرد وبناء المجتمع الواعد.

فما أحوج شبابنا وطلبة جامعاتنا اليوم إلى تلك النفحات العلمية التي تعطرنا بها نحن الجيل الذي أدرك تلك الأيام الحافلة بمجالسة كبار العلماء عن كثب، بحيث ارتوينا من الشلال والمصب، ولا نزال نتذكر تلك الفسحات الفكرية والاحتكاك المباشر مع أقطاب الفكر العالمي والإسلامي التي اجتهد في جلبها سي مولود رحمه الله بمؤازرة_والحق أحق أن يقال_ أهل القرار في ذلك الوقت، فرحمة الله على جميع المؤمنين.

عند ما أصر بعض أشقائنا على عدم العمل بالتكنولوجيا في رؤية الهلال، تأثر سي مولود وكتب مقالا يعبر فيه عن حرقة الرجل وإخلاصه لدينه وأمته، بعنوان:

أبعد أربعة عشر قرنا من نزول(اقرأ) لا نزال أمة أمية لا نكتب ولا نقرأ؟..!..

لقد كنا في ولاية عنابة في ملتقى الفكر الإسلامي سنة 1976م، عندما فزع الملتقون والعالم الإسلامي أجمع بالوفاة المفاجئة لشيخ المؤرخين العلامة عثمان الكعاك، الذي وجد ميتا رحمه الله(بفندق بلازا أو سيبوس) حيث كان يقيم العلماء، وفي اليوم الذي توفاه الله فيه، كان قد ألقى الشيخ بالملتقى محاضرة حول تاريخ المغرب العربي، والدول الإسلامية التي تعاقبت بعد الفتح، وسبحان الله. لقد كان في كامل حيويته وابتسامته المعهودة.

وقد أوقف سي مولود أشغال الملتقى، ونقل جثمان الفقيد إلى مطار الملاح (رابح بيطاط) بعنابة، بحضور وتشييع وتوديع كل الملتقين بمن فيهم الطلبة، وقد لا حظت بأم عيني كيف يبكي أصحاب الهمم العالية… أجل. لقد ذهلنا وقتها_كطلبة_ عندما رأينا كيف يذرف سي مولود دموع الحنان والعطف والرأفة.. ومن تلك اللحظة لم يعد في أذهاننا نحن معشر الطلبة ذلك الوزير(الواعر) الجاد صاحب مقولة: الحزم والعزم والجزم، بل رأينا شخصا آخر لطيفا وديعا دامعا على علماء الأمة ورجالها المخلصين..
كنا في ولاية باتنة عام 1977م، في ملتقى الفكر الإسلامي، وقد انتظمنا في خرجة استطلاعية، وعند مرورنا بمنطقة (الغوفي) السياحية الفاتنة، توقف الموكب، وأصدرت الأوامر بأن الطلبة لا ينزلون إلى منحدر الوادي السحيق، لأنه يضم حقولا غناء وواحة نخيل، وكان وقت غلة الرمان التي تشتهر به المنطقة لجودته العالية… وما هي إلا دقائق معدودة بعد نزول الوزير وضيوفه العلماء والأساتذة، حتى انفلت الأمر على المنظمين، بحيث نزل بعض الطلبة الذين رأوا بأنهم قد حرموا من حقهم في التعرف على المعالم الجهادية والسياحة في بلدهم.. فلما علم الوزير بذلك…ضمن خطبته الختامية للملتقى مقولته:” أتسرق رمان الغوفي وتدعي أنك طالب صوفي..”

ونفس الأمر عندما تولى مسؤولية التعريب، فقد بذل قصارى جهده في سبيل تكريس لغة الضاد في المحيط وفي الإعلام، ولكن اليد الواحدة لا تصفق.

سي مولود عاش للدين والوطن والثوابت، وكانت رغبته أن يخرج شعبه من التبعية والتخلف إلى مستوى المجتمعات الغربية التي عاش مدنيتها عن كثب، وأجاد لغاتها، وأدرك سر نجاح مشاريعها، نحسبه عند الله وعند أمته أنه قد اجتهد فبرأ ذمته، ونكرر، ولا نزكي على الله أحدا، لقد كان الرجل مخلصا. عليه أزكى الرحمات.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.