الشيخ عبد القادر المجاوي ورسالة الإصلاح
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
احتفت الجزائر بمرور قرن على وفاة الشيخ عبد القادر المجاوي(1848- 1914)، أحد أقطاب الإصلاح في العالم الإسلامي، ورائد من رواد حركة التجديد في الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين.ما هي أهم المحطات في مساره؟ ما هي إسهاماته في الحركة الإصلاحية الجزائرية؟ ما هي بصماته في تاريخ الجزائر الثقافي؟ كيف تعاملت معه سلطة الاحتلال الفرنسية؟ كيف استقبلت النخبة الجزائرية نبأ وفاته؟
في رحاب الحياة
ولد الشيخ عبد القادر المجاوي في تلمسان في عام 1266 هـ/ 1848 م. وهو ينتمي إلى أسرة تلمسانية عريقة ساهمت في نشر العلم وممارسة القضاء. فقد تقلد والده محمد بن عبد الكريم المجاوي منصب القضاء بهذه هذه المدينة لمدة خمسة وعشرين عاما فنشأ ابنه نشأة علمية، ثم انتقل إلى المغرب لما عيّن والده قاضيا بطنجة. فدرس بتطوان ثم بجامع القرويين بفاس على مجموعة من العلماء المعروفين أمثال: الشيخ صالح الشاوي، الشيخ أحمد بن سودة، الشيخ جعفر الكتاني…الخ.
وفي عام 1869 عاد إلى بلده الجزائر واستقر أولا في قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري، ودرس في مساجدها. وفي سنة 1877 تولى تدريس العلوم الشرعية واللغة العربية في المدرسة الكتانية التي أسسها صالح باي في عام 1778.
وانتشرت بسرعة شهرته العلمية في البلاد فأقبل على دروسه طلاب العلم من كل أرجاء الوطن. وكان من أبرز تلامذته عالمان سيكون لهما شأن علمي عظيم فيما بعد. فالأول هو حمدان الونيسي المدرس بالمسجد النبوي بعد هجرته إلى الحجاز. وهو كذلك أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.
أما العالم الثاني فهو المولود بن الموهوب المدرس بالمدرسة الكتانية وأستاذ المفكر مالك بن نبي (1905-1973) الذي تحدث عنه كثيرا في كتابه “مذكرات شاهد القرن”. وقد لازم الشيخ ابن الموهوب أستاذه لمدة12 سنة ثم أجازه وسمح له بالتدريس والوعظ. كما ساعده على الانضمام إلى المدرسة الكتانية ليشتغل بها مدرسا للفقه والأدب العربي. وأصبح فيما بعد (1908) مفتيا لقسنطينة.
وفي عام 1898 انتقل إلى الجزائر العاصمة للتدريس بمدرسة الجزائر العليا (الثعالبية) المكلفة بتكوين القضاة والمترجمين الجزائريين. ثم توسع نشاطه بداية من سنة 1908 خارج المدرسة الثعالبية للدعوة والإرشاد فعمل إماما واعظا في مسجد سيدي رمضان ومسجد سيدي محمد الشريف.
كتابات وبصمات
لقد ألف الشيخ عبد القادر المجّاوي عدة كتب في شتى العلوم وهي في غالبيتها كتب مدرسية، صغيرة الحجم موجهة لطلاب العلم. فمنها ما طبع، ومنها ما بقي مخطوطا لم يطبع بعد.
ويبلغ عددها حسب الدكتور سعد الدين بن أبي شنب ثلاثة عشر كتابا ورسالة، وهي: إرشاد المتعلمين، نصيحة المريدين، شرح إبن هشام، شرح اللامية المجرادية في المسائل النحوية، الدرر البهية على اللامية المجرادية في الجمل، نزهة الطّرف فيما يتعلّق بمعاني الصّرف، الدرر النحوية على المنظومة الشبراوية، شرح الجمل النحوية، شرح منظومة ابن غازي في التوقيت، الإفادة لمن يطلب الاستفادة، شرح منظومة البدع، الفريدة السنية في الأعمال الجيبية، تحفة الأخبار فيما يتعلق بالكسب والاختيار.
ضاعت العديد من هذه الكتب من المكتبات العامة والجامعية. ونأمل أن يضع من بحوزته هذه المؤلفات في أيدي الباحثين وأصحاب دور النشر لإعادة طبعها من جديد، فهي تتضمن أفكارا مفيدة خاصة في مجال التربية التي نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم.
ولا بأس أن نقدم هنا بعض المعلومات عن هذه الكتب. لقد نشر كتاب «إرشاد المعلمين» في القاهرة سنة 1877. ومؤلفه يعمل آنذاك إماما بجامع سيدي الكتاني بقسنطينة. وهو يعتبر أشهر كتبه كلها. وقد سبق لي أن نشرتُ في مكان آخر بحثا حول هذا الكتاب مبرزا الظروف التي ظهر فيها، ومحللا أفكار المجاوي التربوية، وأصداءها في الجزائر.
وقد قام مؤخرا باحث جزائري بتحقيقه ونشره بدار ابن حزم. وهو يتضمن مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. وقد نشرت جريدة “المغرب” في عام 1903 الفصل الرابع حول “المعاش” في حلقتين.
ونشر الشيخ المجاوي «نصيحة المريدين» في تونس، و طبع «الدرر النحوية» و «شرح الجمل النحوية» و«الاقتصاد السياسي»، و«شرح منظومة البدع» في الجزائر. كما طبع «شرح منظومة ابن غازي في التوقيت» و«شرح شواهد القطر» في قسنطينة.
و«شرح منظومة البدع» هو كما يشير إليه عنوانه شرح لقصيدة كتبها تلميذه المولود بن الموهوب وقال فيها:
صعود الأسفلين به ذهبنا لأنا للمعارف ما هدينا
رمت أمواج بحر اللهو منا أناسا للخمور ملازمينا
أضاعوا عرضهم والمال حبا لبنت الحان فازدادوا جنونا
لقد كان إقدام الشيخ المجاوي على شرح منظومة تلميذه سابقة في تاريخ الأدب العربي لأن المتعارف عليه هو الطالب الذي يشرح أقوال وكتابات أستاذه وليس العكس، وهذا ما دفع الشيخ حمزة بوكوشة إلى القول وهو محق في ذلك: « وهو في شرحه هذا النظم الذي نظمه تلميذه الشيخ المولود بن الموهوب، يخالف ما تعارف عليه الناس في عصر المتون والشروح، من أن التلميذ هو الذي يشرح كلام شيخه، وهذا إن دلنا على شيء فهو يدلنا على تواضع المجاوي.»
تضمن كتاب “القواعد الكلامية” مقدمة وعشرة فصول وخاتمة. واستشهد في هذا الكتاب بأقوال أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وابن تيمية وابن خلدون والفارابي.
ونشير أيضا هنا إلى كتابين في قضايا عصرية وهي دلالة على تنوع معارفه ومواكبته لتطور العلم. فألف منظومة في علم الفلك. ويبدو أنها لم تطبع. وقد ذكر الباحث الدكتور عمر بن قينة أنه اطلع عليها سنة 1975 في مكتبة مسجد البرواقية. وقد قال لي أيضا الدكتور أبو القاسم سعد الله أنه يملك نسخة من هذه المنظومة مطبوعة، لكنه فقد أثرها بين أوراقه الكثيرة.
أما الكتاب الثاني فعنوانه “المرصاد في مسائل الاقتصاد”، وقد صدر في الجزائر سنة 1904 عن مطبعة فونتانا. ورغم صغر حجم الكتاب فإنه في غاية الأهمية من حيث المضمون والظرف الذي طبع فيه. فهذا العمل “جعله مثلا يقتدى به وبحرفية عالية كانت تجمع بين الاختصار والدقة والكفاءة ووضوح الرأي والتي كانت تعكس فكر المعلم المتعطش للكمال المعرفي، ومتطلبات الفكر العلمي.
ومكتبة الشيخ المجاوي محفوظة في مسجد برواقية، وهي المدينة التي عمل فيها نجله الشيخ مصطفى بن عبد القادر المجاوي قاضيا. وقد زار هذه المكتبة العامرة بعض الباحثين واستفادوا منها كثيرا.
وكتب الشيخ المجاوي في بعض الصحف العربية الجزائرية: المغرب (1903-1904) وكوكب إفريقيا(1907-1914). ويرى الباحث الدكتور زاهر إحدادن أن المجاوي كتب أيضا في جريدة “المبشر” لسان حال الحكومة العامة الفرنسية في الجزائر.
لقد أحصيتُ له 12 مقالا في جريدة “المغرب” تناولت المواضع التالية: العلم والأخلاق (العلم، الحلم)، التراث العربي (مشاهير العرب، الطب العربي) وقضايا اجتماعية (الافتخار بالنفس والنسب، المعاش، العادة).
كما نشر 15 مقالا في جريدة “كوكب إفريقيا” تدور مواضيعه حول الأخلاق (التربية، سماحة النفس، الأدب، حفظ اللسان الكبر، والإعجاب)، فضل المواسم الدينية (العيد الأضحى، المولد النبوي، العاشوراء، الهجرة، شهر رمضان، الحج)، وقضايا دينية واجتماعية (البدع، البطالة).
لقد بحثت أيضا عن مقالاته في صحف عربية جزائرية أخرى لكن للأسف لم نعثر له إلا على المقالات القليلة المنشورة في جريدة “المغرب” و “كوكب إفريقيا” المذكورة سابقا. فهل استعفف عن الكتابة في الصحف الأخرى لأنها لا تتطابق مع أفكاره أم لأنه كان متفرغا بالدرجة الأولى لتربية الرجال على عادة علماء الجزائريين الذين عاصروه؟
وتحصل الشيخ المجاوي في حياته على عدة أوسمة -كما هو واضح من الصورة المرفقة- وذلك اعترافا وتقديرا لجهوده في التعليم والتأليف. وخصصت له مجلة “التقويم الجزائري” التي كان يصدرها الشيخ محمود كحول (1870-1936) والمستعرب بودي لوي مقالا منوها بفضله على الثقافة الجزائرية. ونشرت في نفس المجلة صورة كبيرة له.
السلطة الاستعمارية تضايق الشيخ المجاوي
لا ندري إن اتصل الشيخ المجاوي بالإمام محمد عبده (1849-1905)خلال زيارته للجزائر في عام 1903. فلم يتحدث عن ذلك أي باحث درس هذا الموضوع رغم وجوده آنذاك بالجزائر العاصمة. ونحن نعلم أن العديد من النخبة الجزائرية حرصت على اللقاء بهذا العالم الأزهري المعروف وتلميذ زعيم الإصلاح الشهير الإمام جمال الدين الأفغاني (1838-1897).
ولم نعثر له عن نشاط سياسي مباشر على العكس من صاحبه الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي عبّر بصراحة عن معارضته لقانون التجنيد الإجباري في عام 1912. وعلى الرغم من ذلك لقي “إهانات من بعض الناس كما لقي مقاومات وصعابا من السلطة الاستعمارية التي طفقت تنقله من مكان إلى آخر” لتشتيت جهوده وتحجيم دوره التربوي.
وقد أثار صدور كتابه “إرشاد المتعلمين” قلق المصالح الاستعمارية في الجزائر التي رأت فيه دعوة لليقظة والإصلاح. وهذا ما أكده الباحث الأمريكي آلان كريستلو الذي درس مجموعة من الوثائق العسكرية المحفوظة بمركز أرشيف المستعمرات الفرنسية بإكس أون بروفانس.
لقد ساهم الشيخ المجاوي” في إحياء اللغة العربية والعلوم الإسلامية وبذل جهدا جهيدا في سبيل ارتقاء مستوى الجزائر الثقافي” وإحياء أمجاد ماضيها. وغرس مع جيله من المثقفين البذرة التي تحوّلت فيما بعد إلى مصدر للروح الوطنية الجزائرية.
واليقظة القومية نشأت قبل الحرب العالمية الأولى بفضل الشعراء والعلماء الجزائريين الذين أحيوا تراث الجزائر وربطوا حاضرها بتاريخها العربي الإسلامي الحافل بالانجازات الحضارية والانتصارات العسكرية التي تجسدت خلال حركة الفتوحات.
كيف استقبلت النخبة الجزائرية نبأ وفاته؟
نشرت جريدة “الفاروق” التي كان يصدرها المصلح عمر بن قدور الجزائري نبأ وفاة الشيخ المجاوي في العدد 80 الصادر في 2 أكتوبر 1914 الذي وافته المنية يوم السبت 26 سبتمبر 1914 في قسنطينة التي سافر إليها في 20 سبتمبر لزيارة أقاربه وأصدقائه وتلامذته. وقد كان له نشاط كثيف خلال هذه الزيارة. فكيف نفسر موته المفاجئ وهو في كامل صحته؟
روى الشيخ إبراهيم أطفيش أن أستاذه المجاوي لم يمت موتة طبيعية وإنما تعرض للاغتيال من طرف المصالح الاستعمارية. فقد ذكر أنه لما زار الشيخ المجاوي قسنطينة في نهاية عام 1913 « وضع الاستعمار له ولثلاثة عشر من علماء الجزائر سما في قهوة فشربها وتوجع حتى مات». وليس بإمكاننا أن نثبت هذه الرواية أو ننفيها، وإن كان هذا السلوك ليس غريبا عن الاستعمار الذي تعامل مع العلماء الجزائريين المخلصين معاملة قاسية دفعت العديد منهم للهجرة نحو البلدان الإسلامية شرقا وغربا.
وأمّ صلاة الجنازة تلميذه الشيخ أحمد الحبيبتاني، ثم أبّنه الشيخ المولود بن الموهوب في خطبة مؤثرة. فقال: «هذا عبد القادر الذي أكرمنا الله بقدومه من تلمسان منذ خمس وأربعين من السنين فأحي القلوب كالغيث بعد القحط. رحم رب العالمين هذا الشريف عبد القادر الحسني الذي جاءكم بلوعة من المعارف والعلوم وبثها ونشرها ولم يبخل بها على الخصوص والعموم. هذا عبد القادر صاحب الأخلاق الطيبة الذي نوّر العقول…هذا عبد القادر النصوح الذي زين الوطن الجزائري تلامذته، وعمت بعلمه كل جهة ببركته. هذا أستاذ الجميع عبد القادر الذي ما من عالم إلا وله فضل عليه.»
وألقى بعده الشيخ عبد الحميد بن باديس خطبة كان لها وقع شديد في القلوب. وسنرد هنا أيضا جزءا من نص هذا الخطاب غير المعروف: « أيها الإمام الذي ببزوغ شمسه تمزقت سحب الجهل، وبدت غرة القلم المعين، أنت الذي عانيت في سبيل إصلاحنا أتعابا طويلة … كنت مثالا لحسن الأخلاق وكرم الطبع ولباب الفضيلة…نبكيك بالدموع السحيقة ويبكيك القرطاس والقلم، نبكيك وتبكيك المنابر ودروس العلم والحكم. نبكيك ويبكيك هذا القطر الحزين الذي غمرته بيض أياديك وغرر فضائلك الحسان، وقد حان أن أودعك (وعزيز علي وداعك) وداعا يعقبه اللقاء إن شاء الله في جنان الرضوان. ارجع إلى ربك راضيا مرضيا مثابا عليك بكل لسان مهدئا لك الفوز بالخلد في أرقى فراديس الجنان.»
وختم ابن باديس خطبته بقصيدة طويلة، نكتفي هنا بذكر أبياتها الثلاثة الأولى:
ألا إن هذا الدهر ذو فتكات وإنا لنا في طيه لعظات
له عصميات في النفوس فلو رمى بها الراسيات صرن منخفضات
وكم قد رماها فاصطبرنا لرميه إلى أن رمى بأعظم النكبات
كما خطب الشيخ محمد النجار نيابة عن تلامذة الشيخ المجاوي وقال أنه ما زال يتذكر دروسه وخطبه الداعية إلى الإصلاح ومحاربة البدع وتحرير العقول من قبضة “الضلالة والانحلال المؤدية للردى.”
ودعت جريدة “الفاروق” الكتاب والشعراء للكتابة النثرية والشعرية عن الراحل. فجاءتها مساهمات شعرية من مختلف أرجاء البلاد ونشرتها تحت عنوان واحد: “دموع الشعر والشعراء على فقيد العلم والإسلام أستاذ الجماعة المقدس الأستاذ عبد القادر المجاوي” بداية من العدد 82 إلى غاية العدد 92 الصادر في 25 ديسمبر 1914.
وتناولت هذه المنظومات الشعرية حياة الشيخ المجاوي بالتفصيل، وأثنت على جهوده المختلفة في مجالات التربية والتعليم والإرشاد، وهي من تأليف الشعراء: المولود بن الموهوب، محمد الميلي بن الشريف، سعد الدين بلقاسم بن الخمار (1885-1952)، أحمد بن العمري، عاشور حمودة، الجنيدي، محمد بن جلواح.
لقد تبوّأ الشيخ عبد القادر المجاوي مكانة مرموقة في الوسط العلمي الجزائري، وكان له فضل كبير على العلماء والقضاة والمترجمين الجزائريين الذين تتلمذوا عليه في المدارس العليا في قسنطينة والجزائر، كما كان له تأثير على عامة الناس الذين كانوا يقبلون على سماع دروسه وخطبه في المساجد.
وانتشر تلامذته بدورهم في أنحاء القطر الجزائري ينشرون العلم ويخدمون القضاء الإسلامي ويحاربون البدع ويدعون الناس إلى الإصلاح. فهو بحق أستاذ الجماعة وشيخ العلماء في الجزائر.